مر العراق بتغييرات سياسية كبيرة على مدى عصور عديدة، لاسيما في القرن التاسع عشر والعقد المنصرم، حيث تعاقبت الانظمة السياسية منذ تأسيس اول حكومة للبلاد في عام 1920 برئاسة عبد الرحمن النقيب وانتهاء بحكومة المالكي الحالية، ومنذ تأسيس تلك الحكومة وحتى يومنا هذا باتت الوطنية شعارا ويافطة كبيرة تعلق على جدران الوطن، ولكن تباينت تلك الوطنية بحسب مفهوم مدعيها من شخص لأخر، فبعضهم أعتبر قضاءه على الملكية واعلان الجمهورية هي رمز الوطنية والاخر جعلها وسام شرف حين قتل عبد الكريم قاسم، واخرون زايدوا عليها بعدما قضوا غالبية حياتهم خارج البلاد، ممن لم يأكلوا خبز الشعير ويرتشفوا منقوع نشارة الخشب المصبوغة بالسواد بدل الشاي.
وبعد تغيير النظام السابق عام 2003، تشكلت العشرات من الاحزاب والكتل السياسية في البلاد، والتي استند تشكيلها على اساس ديني طائفي من جهة وقومي من جانب أخر، وغابت فيها التحزبات المستندة على اساس البرامج التنموية والسياسية والاقتصادية والخدمية والاجتماعية على حد سواء، وهذا مما اثر سلبا على العملية السياسية برمتها، وادى إلى حدوث تفكك كبير داخل النسيج الاجتماعي في البلاد، ومما لاشك فيه ان كل تلك الاحزاب تحاول ان تضع “الوطنية” شعارا لها، وتصور الاخر من يريد الخراب والدمار ويضع العصي بعجلة تقدم البلاد، وبالرغم من كل تلك الشعارات -الزائفة- التي رفعتها تلك الاحزاب والانجازات التي يتحدثون عنها، إلا انها بقت حبرا على ورق فيما تحققنا من تلك الانجازات على ارض الواقع، ولم نجد من تلك الانجازات غير عمليات التسقيط السياسي بين تلك الاحزاب..
لذا؛ كان لزاما علينا ان نستعرض بعض الشخصيات التي قرأنا عنها في تاريخ العراق المعاصر لمعرفة معنى الوطنية الحق، ونخص بالذكر وزير المالية في حكومة عبد الرحمن النقيب، “ساسون حسقيل” العراقي الجنسية ذات الاصول اليهودية، الذي كتب له التاريخ الكثير الكثير من الانجازات على الصعيد السياسي والخدمي والاقتصادي والذي جسد معنى “الوطنية” بالخدمة، ولم يكن عندما يتحدث وهو في موقع المسؤولية التي تولاها بعد توسلات مايسمى بالمندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس وعبد الرحمن النقيب عن كونه “يهوديا” ويمثل مكون معين من مكونات هذا الشعب، بل عمل حسقيل -وهو من عائلة يهودية معروفة بعملها في مجال التجارة والاقتصاد- على وضع اسس النظام الاقتصادي في البلاد، وهو اول من وضع نظرية خزين الذهب في البلاد بدل الاموال، وهو الذي لعب دورا اساسيا في اقناع الجانب البريطاني والعراقي وخلق حالة توافقية فيما بينهما لتنصيب الامير فيصل كحاكم للبلاد، وقاد وزارة المالية التي عمل على تأسيسها ورسم الخطوط العريضة لعملها، وهو كان من اصحاب الحكمة والروية وقدم للبلاد الكثير.
وبالعودة لتعريف الوطنية والتي جسدها “حسقيل” في اكثر من موضع، حيث نذكر على سبيل المثال لا الحصر، حين عرضت بريطانيا عام 1925، ابان حكومة ياسين الهاشمي عبر مفاوضاتها النفطية ادخال الشركة البريطانية للتنقيب عن النفط، والتي رضي جميع من في حكومة بغداد بادخال تلك الشركة بحسب نظام الاستثمار، فيما وقف حسقيل وحيدا موقفا معارضا، ليصر على مساهمة العراق بنسبة (51%) من اسهم تلك الشركة، ومن ثم محاولة شراء باقي الاسهم عبر رهن تلك الحصص في الاسواق المالية العالمية كلندن وجنيف، وبذلك تصبح شركة وطنية عراقية بامتياز، ولم يقبل في حينها بجعل شركات النفط العالمية تسرق البلاد وتسيطر على مقدراته ومخزونه النفطي بالدرجة الاساس، وهذا مافعلته الحكومة الحالية التي باعت البلاد برخص التراب، دون العمل على تحسين اقتصاده عبر الشركات الوطنية والنهوض بالقطاع الصناعي والزراعي.
ولا يسعنا في اخر الحديث، إلا ان نوجه رسالة لكل المتشدقين والمنتحلين صفة الوطنية، ابحثوا في التاريخ عن معنى الوطنية وتأسوا -رغم ان غالبيتكم منحدرين من احزاب اسلامية قد تعتبر “حسقيل” كافرا- من العديد من الشخصيات التي وهبت حياتها وخبراتها في خدمة البلاد، متناسين انتمائاتهم الدينية والطائفية والعرقية؛ لذا فقد اصبح لزاما ان نقول ان للوطنية نماذج و”حسقيل” انموذجا.