ربما كان العراق واحداً من أكثر البلدان امتلاءاً بالمفارقات ، حتى ليحار المتتبع لأوضاعه ، كيف يمكن ان تجتمع كلّ هذه المقادير من المفارقات في بلد واحد وكأنه لايستقيم الا بها ولايقوم ان لم يخلقها أو يستهلكها .
أولى المفارقات وأوضحها تجليا ، ذلك المتواجد في نظام المعايير والقيم السياسية ، حتى لتبدو الخصوصيات العراقية في هذا الجانب لامثيل لها في بقية بلدان العالم ولايستسيغها كلّ من مارس السياسة أو كانت له علاقة بهابشكل أو بآخر.
المتعارف عليه عند الشعوب ، أن الوطنية صفة نبيلة ذات اعتبار ، بل لازمة ملزمة لكل مواطن ، وضرورية لكل سياسي لايصلح للسياسية من لايتمتع بها ، ولم يُذكر يوماً ان تساهل شعب أوتغاضت أمة عن امتلاك هذه الصفة في السياسي ،وإلا تحوّل إلى موقع العدو أو في حسابه .
والوطنية في أهمّ معانيها تتمثل في أن تكون مصالح الوطن هي البوصلة التي تحدد التوجهات السياسية وترسم خطوطها طبقاً لذلك ، وبالتالي البحث عن أنسب السبل وأنجع الوسائل لتطبيق مايخدم تلك المصالح ويطوّرها مع تجنّب كلّ مايمكن ان يحرفها عن أهدافها أو يخلّ بمسارها ، وعلى تلك القاعدة الجوهرية والمقاس المسطري ، تقيّم الشعوب سياسييها في مدى مطابقتهم لشروط ممارسة السياسة أو تبوّء المناصب في الدولة .
لكن المعاييرإنقلبت المعايير في العراق الجديد ، فقد أصبح الإنتماء الوطني إتهاماً بذاته والمجاهرة بعراقيتك مروقاً يستحق إعلان الحرم .
ظهرت تفاصيل ذلك على أشكال وصنوف، فإن كنت شيعياً ، فينبغي ان تدين بالولاء إلى إحدى القوى السائدة : إذا كنت قريباً من حزب الدعوة ، فهو حزب إسلامي يؤمن بوحدة الأمة الإسلامية (الشيعية تحديداً ) وبالتالي ليس هناك من ضرورة لطرح أفكار تتعلق بهويتك العراقية ،لتكون بديلاً عن الهدف الأعلى وتغرق بالجزئية ( العراق ) على حساب الكليّة (الأمة ) ، ذلك نوع من الطرح يستوجب المحاصرة والعزل .
أما إذا كنت قريباً أو مناصراً للتيار الصدري ، فعليك أن تؤمن ليس فقط بشيعيتك كمعتقد ، بل بدولة الإمام المهدي كفكر وعقيدة ، ذلك هو المسار الذي ينادي بها الصدريون في توجهاتهم الفكرية وخطابهم السياسي، ولما كانت رسالة الإمام المخلّص تهدف إلى نشر العدل في الأمم كلّها،لذا يصبح الحديث عن هوية عراقية ، غير ذي جدوى لأنها لاتمثل في العقيدة سوى مكان لانطلاق الرسالة الكبرى وليس محوراً يمكن العمل على إبرازه وبلورته بحيث يغلب على ما عداه ، إن العراق والحالة هذه ، هو مجرد تفصيل في سفْر كبير .
فإذا اخترت أن تكون بدرياً أو مجلسياً (نسبة الى منظمة بدر أو المجلس الأعلى الإسلامي ) فذلك يعني ان تكون حسينياً حصراً وبالمعنى السياسي لا العقيدي وحسب ،أي عليك ان تتبنّى مايطرحه الفصيلان المذكوران من أفكار ورؤى فيما خصّ النظرة إلى معنى الوطن ، فثورة الحسين شمولية الطابع وهي وقفة الحقّ بوجه الباطل ،والعراق لايمثل في هذه الثورة ، سوى مكان شهد الواقعة ، وقوم خذلوا الثورة وصاحبها وتخلوا عنه في محنته ،ذلك ماجرى ضخّه عبر ثقافة متواصلة – فما العراق سوى الكوفة وإهلها – وعليه يصبح من المنطقي القول إن الهوية العراقية كمتبنى فكري واستراتيجية سياسية ،ينبغي أن لاتكون هي محورك ومبتغاك ، فالعقيدة أكبر من الهوية وأسمى وهي ماينبغي التقيد به والإخلاص له .
أما إذا نأيت بنفسك عن ذلك سياسياً ، واخترت أن تتقرب من حزب الفضيلة ،فلك أن تكون فاطمياً ، لابمعنى من محبي فاطمة الزهراء ونهجها في الحياة كقدوة ومثال ، فذلك تحصيل حاصل لكونك شيعياً ، لكن عليك ان تؤمن بذلك سياسياً ، بمعنى أن تنظر إلى بناء الدولة وتعريف الهوية الوطنية استناداً إليه ، والدولة الفاطمية كما هو معروف تاريخياً ،أقيمت في مصر ، لكنها لم تعن بالهوية المصرية ولا نادت بها كذلك ، إذ اعتبرتها مكاناً ومقرّاً للفتح وتوسع دولة العقيدة الفاطمية .
خاصّية أخرى عليك أن تضيفها الى سجلّك العقيدي – وأيّاً يكن انتماؤك الى إحدى القوى المذكورة – إنها إيمانك الحتمي بالمرجعية السياسية التي تمثلها دولة الشيعة في العالم ” الجمهورية الإسلامية في إيران ” وبالتالي استعدادك للدفاع عنها قولاً وفعلاً وتبني مواقفها وتوجيهاتها باعتبار سلامة الأمة ومواجهة المؤامرات .
في كلّ ذلك ،تستطيع ان تكون عراقياً قالباً – بل يجب ان تكون كذلك كي تكسب ثقة العراقيين فيمنحونك أصواتهم أو تؤثر فيهم أقوالك – لكنك لن تكون مقبولاً إذا كانت عراقيتك قلباًً وقالباً ، عندها ستمثّل خرقاً في الجدار الشيعي وخروجاً عن الإجماع ينبغي العمل على تطويقه وخنقه .
ذلك يحدث إن كنت شيعياً ، أما إذا كنت سنّياً ،فمعاناة عراقيتك ليست أقل وطأة ، إذ عليك أن تكون إما قومياً عربياً ، أو إسلامياً ملتزماً ، فإن كنت من الصنف الأول ، فالأرجح أن تكون بعثياً في ” العقيدة ” وان لم تنتم رسمياً إلى الحزب الذي تحول من حاكم سابق إلى مطرود لاحق ،لكن رائحة (العروبة ) الأيديولجية ،مازالت تملأ جوانبه وأثره ، وبالتالي فالعراق هو مجرد قطر في أمّة ومصطلح واحدة في صفحة كاملة ، لذا لك ان تجاهر بعراقيتك شرط أن لاتكون على حساب إيمانك المطلق بعروبتك وأمتّك ذات الرسالة الخالدة ،لكن ربما كان من حسن حظك انك لم تعد ملزماً بمرجعية سياسية تمثلها دولة بعينها أو قائد مفدّى تقاس عراقيتك بالولاء له ، بعد انهيار الحزب القائد في العراق ، واهتزاز الوضع في سوريا البعث ، أما إذا كان انتماؤك القومي لفصيل آخر ، من حركة القوميين العرب أو الناصريين أو ماشابه ، فهؤلاء قد أصبحوا يتامى منذ أمد طويل ، وبالتالي ستبقى متردداً بين قناعاتك القديمة ، وعراقيتك الحالية ، فلا تحسم في أحداها على حساب الأخرى .
إذا كنت إسلاميا سنّياً ، فلك أن تكون بين انتماءين : في تنظيم ” جهادي ” تتبنى العنف والقتل أسلوبا وحيداً ، ذلك لأن إيمانك الإسلامي بالله ووعدك بدخول الجنة ،منوط أساساً بتمكنك من قتل أكبر عدد من العراقيين ، وعندها فالعراق ومن عليه هو مجرد سبيل تسلكه ومكان تتحرك عليه لتنفيذ (جهادك) وليس وطناً تتمسك به أو تدافع عنه ،أما إذا كنت من الإسلاميين (المعتدلين ) فلابد ان يكون لك مرجعاً فقهياً وحامياً سياسياً ، وهو مايتوفر بمملكة خادم الحرمين الشريفيين ( السعودية ) التي لاترضى إلا أن تجاهر بمدحها واعتبارها مثالاً ، وبالتالي فلا تريد منك عراقية صافية خارج ماتراه المملكة من تعريف وتكوين للعراق ،عدا ذلك ،لابدّ أن تحنّ إلى دولة الخلافة العثمانية فتتبنى طروحات تركيا الأردوغانية وطموحاتها في إحياء المجد العثماني، أما إذا لم تكن من هؤلاء ولا من أولئك ، فستبقى مجرد ( عراقي سنّي ) لاناقة تقودها ولاجملاً يحملك .
أن تكون كردياً وعراقياً كذلك ، فستضيق عليك ثيابك ، وتختنق أنفاسك ، لأن عليك أن تثبت ولاءك لحقّ تقرير المصير ومناداتك بصوابية توجهات الحزبين القائدين ، وهؤلاء (ضيوف ) على العراق بوجود واه وارتباط مترجرج ،وبالتالي فحديثك عن وحدة الهوية العراقية مثلاً ، يعني انك (خائن ) للهوية الكردية التي جرى تثبيتها بالدمّ ، فماذا يعنيك من العراق ؟ وماذا يمثل لك سوى مارأيته من المآسي والمجازر؟ بل وقد تجدّ من يشدّك من قميصك صارخاً بوجهك : إياك والتحدث بمثل هذا ، وإن كان ديمقراطياً ،فقد يكتفي بتسفيه آرائك والسخرية مما تدعيه عن هوية عراقية ، لذا عليك ان تضمّ رأسك بين كتفيك حتى لاتصفعك الرياح القومية في وجهك الكردي بملامحه العراقية .
التركماني بدوره ليس أفضل حالاً ،بل قد يكون أكثر قلقاً بسبب اضطراره لتوزيع ولاءاته ، فإن كان شيعياً ، عليه ان يكون منتمياً أو مقرباً أو مرضياً عنه من قبل أحدى القوى الشيعية المذكورة أعلاه ، إضافة إلى ضرورة التمسك بتركمانيته كقومية خالصة وربما الإنتساب إلى حزب تركماني يدور في نطاق القوى الشيعية ،أما إذا كان سنّياً ، فهو قومي تركماني قد يكون منتمياً الى أحد الأحزاب التركمانية التي تجاهر بقوميتها وتنشدّ إليها أسوة بالآخرين ، أو إلى إحدى الحركات الإسلامية القريبة من تركيا
باعتبارها المرجعية السياسية والسند المجتمعي مع الإفتخار بالتاريخ العثماني بفتوحاته وسلاطينه وقادته ، وبالتالي فالهوية الوطنية العراقية ، يسودها كذلك الإلتباس ويخترقها التساؤل – خاصة في واقعها السياسي وتوجهاتها الفكرية – .
الكلدوا / آشوريين ، وهم الجذر الأكثر عمقاً في العراق ،بدأت عراقيتهم بالاهتزاز بدورها ، فهم بعد الضربات التي وجهت إليهم وما تعرضوا له من استهدافات طالت تجمعاتهم وكنائسهم ، ومع محدودية دورهم السياسي وهامشية مشاركتهم في القرار ، تحوّل العراق بالنسبة لمعظمهم ، الى مايشبه كابوساً وليس حلماً ، لذا أصبحت الهجرة إلى بلاد الله ،هي موضع التوجه والسعي الأجدى .
المفارقة الأخرى ، إن الارتباط بالخارج والتبعية له تعتبر في نظر الأمم والشعوب ، تهمة جنائية ومثلبة اجتماعية يعاقب صاحبها قانوناً أو ينبذ اجتماعياً ويحرم من ممارسة العمل السياسي أو يفصل من وظيفته إن كان موظفاً ، ذلك في الأمم الطبيعية ، أما في العراق ، فالتبعية كانت جواز مرور إلى الثروة والنفوذ والوظيفة المرموقة ، خاصة إن تلك التبعية لاينظر اليها باعتبارها خيانة أو جرماً ، بل (عقيدة) سياسية وربما فكرية آيديولجية لاغبار عليها – حسبما ورد في العرض أعلاه – .
الخلاصة ان عراقيتك أصبحت ” تهمة ” عليك دفع أثمانها ،فإن كنت ناشطاً سياسياً أو إعلامياً تنادي بأولوية الهوية الوطنية ، فأنت معرّض لاحتمالات التصفية الجسدية المباشرة ، أو التصفية المعنوية- المباشرة كذلك – حيث يسلطّ عليك من يشكك بوطنيتك وشخصك ويستجلب لك من العيوب والمثالب مايطعن بصدقيتك وجدواك ،وفوق هذا تغلق أمامك أبواب الوظيفة وتتجاهلك وسائل الإعلام المرتبطة ، فيما تحاول وسائل إعلام أخرى شراء صوتك وقلمك ونشاطك ، وتجيره لاستخدامه من ثم للطعن بقوى منافسة ، وهكذا تجد نفسك ” غريب الوجه واليد واللسان ” حتى لو كانت نظافتك لامعة ووطنيتك ساطعة وكفاءاتك تحمل نفحات من المتنبي ونسمات من شكسبير وربما شذرات من هيغل أو لمحات من علي الوردي ، فمادمت عراقياً قلبا وقالباً ، إذا أنت ملعون سرّاً وعلناً .
تلك خريطة لمشهد واقعي تلمسه وتراه في العراق الجديد، لم ينبت في الخيال ولا هو عرض انتقادي لقوى سياسية بعينها،لذا قد يصل القارئ إلى استنتاج مفاده : أين العراق إذاً ؟
تلك مفارقة أخرى : العراق حاضر في الأزقة والحواري وفي بيوت العراقيين الباحثين عن لقمة عيش نظيفة وهم يواجهون الموت في كلّ لحظة ، ذلك هو العراق :حاضر في قلوب الناس ، لكنه يملأ أفواه السياسيين كذلك ، خاصة أولئك الذين يضيف وجودهم مفارقة جديدة خلاصتها : إن المحاصصة لم تقتصر على السياسة والمناصب وحسب ، بل هي موجودة في التبعية كذلك ؟