بين الميلاد والموت، نعيش فسحة من الزمن إسمها الحياة، منهم من يعيشها لكي يأكل، يتنقل بين محطاتها دون ان يترك اثرا، وعندما يموت يمكن أن يقال عنه: مات لا أحد! فلا ينسب إليه علم ولا عمل ولا موقف، لقد عاش على هامش الحياة.
ومنهم من يأكل ليعيش، واضعا بصمته في كل مفصل، يفكر، يخطط، يختلف، ياتلف، ينام بنصف عين، يعيش الألم راسما فيه صورة للأمل،ليومه طعم، ولغده انتظار إشراقة حلم قد يناى أو يقترب،ماسكا خيوط الرغبة بعين العقل، فيورق فيه عنفوان الامل في صفحته الوردية، لكنها ليست الصفحة الوحيدة، فالغيلان ما انفكت توقع بكل ذي امل، وتطيح باحلامه، لأن إشراقة النور تبدد أفكارهم ونواياهم الظلامية.
فليس سوى المواجهة، والمقاومة، والمقارعة، والثبات، فالمباديء تستحق التضحية من أجلها؛ ولأن الموت واحد، يلاقيك او تلاقيه، مصير محتوم، هو حق لا نقاش فيه، فلنختر اذن ميتة فضلى.
فطعم الموت في امرحقير*** كطعم الموت في أمر عظيم
ان تموت وأنت متربع على القمم الشماء، تعيش حياة جديدة خالدة، خير من أن تموت وتتلاشى، فلا تترك أثرا.
فالموت والشهادة يرتبطان ارتباطا عضويا، بوصفهما نهاية للحياة، اذ ان الموت صفة عدمية، وهي عدم الحياة، وبالتالي الفناء، أما الشهادة فتشترك مع الموت في فناء الأجساد، لأنها تضع ابعادا مستقبلية وكونية مثلت مفاهيم قيمية عليا، تعمد بالدم بناء الأمة ومسيرتها.
وفي الميادين، تحتدم الصراعات والحروب الطاحنة بين بني البشر، لكن شعلة النصر تومض في النفوس، ليضيء نورها كل من استظل تحت مظلتها، وعرف فلسفتها التي تخرج من حدود الظاهر والمحدود، تنطلق من الأعماق لتغذي جذوة ثورة كامنة، ثم تضع لها القواعد والأصول والمبادئ والأسس، تستجلي العقائد، وتوضح سمات التضحية والفداء، تلهب المشاعر، تؤسس لانطلاق الصورة من الداخل مؤطرة سلوكها بالصبر والإباء، متمثلة برفض الظلم والاستعباد والاستبداد والاستضعاف، رسالة يتخرج في مدرستها اصحاب المثل والمبادئ السامية، وذوي القلوب والسرائر النقية.
بهذا النهج روض شهيد المحراب (قد) نفسه الزكية، وبدأ حياته مناضلا، مكافحا، وضع العراق في قلبه، ونصرته وخلاصه من الاستبداد نصب عينيه، فقارع الظلم بصلابة الشجعان، فلم يكن عنده للحياة معنى ولا طعم في ظل من استعبدوا الشعب واستضعفوه.
مارس نضالاته واثقا أن للشهادة وجهان، رسالة ودم، رسالة يضعها على غرة جبينه، يناضل من أجلها، ودم يسترخصه في المقارعة، فعندما تتضافر الرسالة والدم، يولد الإقدام والمواجهة الشجاعة من أجل القيم والمثل العليا.
وعندما تناثرت أشلاء جسده الطاهر، صعدت روحه إلى عليين لتكون نبراسا يضئ طريق المسيرة المقدامة ليضع التعريف العملي لمعنى الشهادة، في درس رائع وبليغ وحكيم، يوصف مقومات العطاء المستمر، ويوقظ الضمائر، وينقي السرائر، ليفجر في جيل جديد كل الطاقات والإمكانات.
انها رسالة مضمخة بالدم، متوجة بالفخر والعز، تؤسس إلى النضال والكفاح، وان تزرع في النفوس بذور الذوبان في محراب الوطن، لينام قرير العين بين شهادة المحراب ومحراب الشهادة.