الوسط الذهبي وضبط النفسالوسط الذهبي معناه أن لا تفرط في شيء ما ولا تقصر فيه, بل تأتيه بتوسط يلائم الحاجة أو الرغبة التي تريدها بلا مضرة, أو يحل مشكلةٍ ما بأمثل وجه بلا تقصير ولا تفريط. مثلاً الشجاعة يمكن أن تعتبر وسطاً ذهبياً, فإن قللت منها تصبح جباناً, وأن زدت عليها تصبح متهوراً. وقد وصف هذه الأوساط في فلسفة الأغريقية (وبالتحديد فلسفة أفلاطونية) بالفضائل الكاردنالية وهي : الحكمة, والشجاعة, وضبط النفس, والعدالة, كلها أعتبرت وسطاً ذهبياً من المستحب سعيها. وفرق أرسطو بين تصرفات الأخلاقية الفاضلة عن غير الفاضلة بالوسط الذهبي, ما بين التفريط والتقصير, أي أن مصدر الأخلاق يقع في وسط الخير والشر, وفي وسط المنفعة والمضرة, يجب أن تتغير تصرفاتك الاخلاقية مع تغير الحال والواقع, فلا يهم أن كنت شجاعا ام لا, فيجب عليك ان تهرب في بعض المواقف التي تعلم فيها بان الشجاعة لا تفيد. وتبنى الاغريق ايضا فكرة الوسط الذهبي في طبهم: الطب ابقراطي ينص على ان السوائل الاربعة في الجسم (الدم, الصفراء, السوداء, البلغم) يجب أن يكون في توازن وسطي تام بين الكثرة والقلة حتى يظهر الشخص سليما, وينبع الامراض من اختلال في توازن هذه السوائل, فإذا تواجدوا بكثرة في الجسم, يحث الطبيب المريض عندها على تقليل من هذه السوائل, ومن اشهر طرق التقليل كان بتنزيف المريض لتقليله من سائل الدم عندما ظن الاطباء ان كثرة دم يؤدي الى الحمى وما لاحقه من الامراض.
يقال أن فكرة الوسط الذهبي عند الأغريق يعود إلى قصة أسطورية لمهندس ديدالوس وأبنه إيكاروس في جزيرة كريت. حيث بنى ديدالوس لنفسه ولأبنه جناحين مكون من ريش ملصقة بالشمع على الجسد. ونرى في هذه القصة بأن ديدالوس ينصح أبنه أن يتوسط في الطيران ما بين رذاذ البحر وحرارة الشمس. لم يصغي إيكاروس إلى نصيحة والده, وبقي يطير إلى أعالي السماء حتى أذاب حرارة الشمس الشمع الملصق, فسقط من السماء ومات مغرقاً في البحر.
بالنسبة لسقراط (فيلسوف أغريقي), فقد جسد التوسط في مثالٍ يقارن فيه بين ممارسة الرياضة والموسيقى. ظن سقراط أن ممارسة الرياضة يجعل الإنسان متصلب العقل والمزاج, بينما تعلم الموسيقى يجعله ناعماً ورقيق القلب. وأقتنع سقراط على أن اقتناء أحداهما دون الآخر يؤدي إلى نوع من النقص, بينما امتلاك الموهبتين معاً, ينتج تناغماً وجمالاً وطيبة.
لكن فكرة الوسط الذهبي جاء قبل أفلاطون وسقراط بقرون, وكانت موجودة في قواعد دلفية منقوشة على معابد آلهة أبولو. حيث ذكرت في قاعدة 38 أنه يجب على المواطن الأغريقي أن ” لا يأخذ شيئاً إلى حده الزائد ” سواءا كان في القضاء, في أرباح التجارية, أو في حياته اليومية, كالشرب وممارسة الجنس.
ويوجد فكرة مماثلة عند البوذية الأصولية تطورت بشكل مستقل عن الأغريق. يصف بوذا طريق النبيل الثماني (وهو طريق الخلاص والتحرر من الولادة مجدداً إلى هذا العالم والرقي إلى عالم آخر) بأنه الطريق الوسط للأعتدال, ما بين فرط في الشهوات والإمتناع عنها, ما بين أبدية الوجود وإبادتها. من خلال توسطك وأمتناعك عن التفريط والتقصير, فأنك تخطو خطوة إلى طريق النبيل عند البوذيين, وهذا طريق يتمثل بثمان اشياء : الفهم الصحيح, الفكر الصحيح, القول الصحيح, الفعل الصحيح, العيش الصحيح, الجهد الصحيح, العقل الصحيح والتركيز الصحيح. سماه بوذا بالطريق الأوسط.
ظهر فلسفة التوسط ايضاً في الصين. ينقل عن فيلسوف كونفيوشس في كتاب المختارات أنه قال : “أن الفضيلة المقرة في مذهب التوسط هو من أعلى درجات الفضيلة. لكنه نادراً جداً في الناس”. وكذلك قال : “أن الزيادة كالنقصان, الحياة في الوسط.”
وسع حفيد كونفيوشس فكرة التوسط أكثر في كتابه الذي سماه (مذهب التوسط). حاول زيسي أن يشرح للقارئ مذهب التوسط وكيفية الوصول إليه في جميع نشاطات الإنسان وحالاته. ينصح زيسي الفرد على تبني ثلاث أفكار أساسية للوصول إلى الوسط وهي : مراقبة النفس, التسامح مع الآخرين, والصراحة. يتمثل مراقبة النفس بمحاسبة النفس عند التفريط والتقصير, وبتأديب النفس وتعليمها الطريق الوسط. أما التسامح, فهو يعني أن تفهم المقابل وتحترمه وتتحمله, وأن تعامل المقابل مثلما تريد أن تتعامل. والصراحة هي أن تكون صريحاً مع الطبيعة ومع نفسك ومع الآخرين, فقد رآه زيسي كوسيلة للتقرب من الجنة.
لم يقتصر الوسط الذهبي على الفلسفة فقط, بل ظهرت في أديان عديدة (والذي سبقنا شرحها في الديانة البوذية), وخصوصاً الأديان الإبراهيمية. ينص سفر الجامعة من التناخ ” لا تكن باراً كثيراَ, ولا تكن حكيماً بزيادة. لماذا تخرب نفسك؟ ” (جا 7: 16), وينص الآخر ” لا تكن شريراً كثيراً, ولا تكن جاهلاً, لماذا تموت في غير وقتك؟ ” (جا 7:17). هذه النصوص من العهد القديم في قلب أقدم ديانة إبراهيمية وهي اليهودية يضع أقدم نقطة تاريخية على فكرة التوسط, أقدم حتى من الأغريق.
الشيء نفسه يظهر في الديانة المسيحية, يكتب القديس باسيليوس: المستقيمين في القلب لديهم أفكار لا تميل إلى الإفراط أو النقص, ولكنها موجهة نحو الفضيلة المتوسطة. (عن المزمار السابع, ص 29ب.244ب). ويقول أيضاً الفيلسوف مسيحي القديس توماس ايكاونوس في كتابه (الخلاصة اللاهوتية): يتكون الشر من التعارض في قاعدتهم أو قياساتهم. قد يحدث هذا أما عن طريق التفريط في القياسات أو التقصير عنه…لذلك فمن الواضح أن الفضيلة الأخلاقية يفضل التوسط.
وأكد الإسلام في عديد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية على ضرورة أخذ طريق المتوسط والمعتدل من دون تقصير ولا تفريط. نذكر منها قوله تعالى ((وأقصد في مشيك)) أي أمشي معتدلاً, لا بطيئاً ولا سريعاً, وقوله ((ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)) وهذه الآية ينصح بالطبع التقصد في المال والماديات, أي لا تمسك يدك بخلاً ولا تبسطهاً بالعطية كل بسط. ونذكر أيضاً قول الرسول (ص) : خير الأمور أوسطها. وقد أقر أبو حامد الغزالي على التوسط والأعتدال في جميع الأشياء, وحتى في الزهد بقوله: ” نهاية الزهد الزهد في الزهد “.
لكننا لم نفهم من هذه النصائح التي قدمها الفلاسفة والأديان كيف نمضي نحو التوسط, لم يبين لنا القدماء كيف نفعل ذلك, أو كيف نعرف حتى أننا وصلنا إلى الوسط.
كيف نعرف اننا أفرطنا أم قصرنا في شيء ما؟ وكيف نعلم أننا في الوسط؟ عادةً يوجد في أجسادنا مؤشرات حيوية ودوائر عصبية يعلمنا بهذا ؛ مثلا نشعر بالشبع عندما يمتلئ معدتنا وهذا مؤشر على الوسط وعدم التفريط, ونشعر بالجوع عند أكل القليل, أي عند التقصير. ونشعر بالحر أو بالبرد عند تغير كبير في درجات حرارة الجسم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى أدمغتنا, فالمشاعر هي التي تجعل أفكارنا وتصرفاتنا وأفعالنا في وسط ملائم, مثلا عندما نتصرف بشكل يعود بالمضرة علينا, يحفز أعصابنا المشاعر السيئة فينا, ومن هنا, وعن طريق الذاكرة نتعلم أن لا نتصرف أو نسلك ذلك السلوك مجدداً. وإذا تصرفنا بشكل جيد, فيُنتج في أدمغتنا مشاعر إيجابية يحثنا على أن نبقى ونعيد هذا التصرف من جديد. والعقل على عكس الجسد, لا يعرف الوسط الذهبي بالكامل, لإنه لم يولد عليه بل ولد بصفحات بيضاء, فيتعلمه بعد تبرمج الأعصاب للبيئة التي ينشأ فيها الإنسان. هذا يعني أن الوسط الذي نعرفه في عقولنا يأتي من طبيعة تربيتنا وليس من جيناتنا.
يخطو الدماغ نحو الوسط الذهبي بعدة طرق. منه, تعلمه من الخطوات الخاطئة السابقة التي أتخذها العقل نحو الإفراط والتقصير ورجع عليه بآثار ومشاعر سلبية. أي أن الشخص يخطأ مرتين على أقل في جانب من جوانب حياته لكي يعرف مكان وسطه؛ يخطأ مرةً في التفريط, ومرةً أخرى في التقصير لكي يعلم أين يقر الوسط ما بينهما. وفي بعض الأحيان أن كان محظوظاً يخطأ مرةً واحدة في أي واحد منهما حتى يجد وسطه الذهبي ويستقر فيه. ومن الممكن للشخص أن لا يخطأ شخصياً بل يتعلم من أخطاء آخرين أين يقع الوسط الذهبي. اليوم جزء كبير من معرفة الوسط الذهبي يأتي من السابقين ومن الكتب التعليمية الذي يبلغنا بمكان الوسط الذهبي. حتى لا يقع الجميع بخطأ الإفراط أو التقصير ولا يتحمل عواقبه القادمون, يكتب الشخص عن تجارب حياته وأخطاءه. فيتعلم الإنسان ممن سبقوه بالحيز الذي يشغله الوسط الذهبي في جانب من جوانب حياته أو في شيء من الأشياء, سواءاً كانت تلك الأشياء شخصية أم تجارية أم مادية أم دينية أم علمية, يقدم لنا الماضي المدون لمحة عن التصرف الصحيح أتجاه أحداث معينة سبق وأن أخطأ فيه السابقين.
قد نتسائل ,في خضم هذه المعلومات الهائلة التي نملكها اليوم عن التاريخ وعن الاشخاص الذين أرادوا أن يرشدونا نحو الوسط الذهبي, هل يوجد قانون عام للوسط الذهبي؟ بدلاً من الشروع إلى حفظ معلوماتٍ وتجارب هائلة عن السابقين لمعرفة التصرف الصحيح, ربما يوجد قاعدة معينة في الحياة يمكننا من خلالها إيجاد الوسط الذهبي وتجنب أخطاء التفريط والتقصير من دون جهد, تكهن أرسطو بعدمية ذلك.
لأرسطو, الوسط الذهبي هو الفضيلة التي يجب على كل البشر إتباعها. في نظره, يجب أن يتوسط الإنسان في أغلب أمور حياته ما بين التقصير فيه أو التفريط. لكنه لم يعطينا أي دليل أو قانون لإرشاد الناس حول كيفية بلوغ ذلك المسعى. وصف أرسطو الشخص الفاضل ذو الأخلاق بأنه ” يفعل الشيء الصحيح, في الزمن الصحيح, بالطريقة الصحيحة, وبالكمية المناسبة, وبأتجاه أشخاص صحيحين “. آمن أرسطو بأن الوسط الذهبي لا يمكن إدراكها من القراءة فقط أو التعلم من الآخرين, بل هي مهارة يُدرك فقط بالتجربة. فبذلك, نستنبط من أفكار أرسطو بأنه حرض الناس على الخوض في تجارب الحياة عالماً بأنهم سوف يخطأون أحدى الخطئين, اما خطأ التقصير أو التفريط, ثم بعد فترة من الأخطاء, يلقح الإنسان من هذه الأخطاء ويجد وسطه الذهبي في جانب معين من الحياة. ونستنتج أيضاً بأن الوسط الذهبي هو شيء نسبي لأرسطو, فالوسط يعتمد على الشخص وعلى حاله وعلى موقف الذي هو فيه. فأن تطلب الأحوال أن تفرط في شيء ما, فيجب عليك الإفراط, وأن تطلب التقصير فيوجب عليك التقصير. لكن في غالبية الأحوال, التوسط هو الخيار الأمثل.
ويجدر الإشارة هنا بأن أرسطو لم يظن بأن هناك وسطاً لكل شيء, بل هناك بعض الأشياء الثنائية لا تقبل التوسط بينهما أبداً, مثلاً هناك الحقيقة وهناك الزيف, وهناك حق وباطل, وهناك عدالة وظلم, وهناك صواب وخطأ, كل هذه الأمور لا تقبل التوسط فيهم, يجب أن تختار أحدى الطرفين من دون مزجه مع الآخر. الوقوع في هذا الفخ الوسطي الكاذب يسمى بمغالطة الوسط الذهبي, وهي مغالطة منطقية يقع فيها الفرد عندما يقتنع بأن الحل أو الحقيقة يكمن فيما بين الوسطين أثنين, لكن في الواقع, الحقيقة يوجد بجانب طرف واحد. مثلاً لو أخذنا موقف شخصين, أحداهما يقول بأن السماء زرقاء, والآخر يقول بأنها صفراء, فأن الحل إذا طبقنا نظرية الوسط الذهبي يكمن ما بين هذين الإدعائين, أي أن السماء يجب أن تكون في الحقيقة خضراء, لإن لون الأخضر هو الوسط ما بين الأزرق والأصفر. لكن كلنا نعلم أن السماء زرقاء وأن طرف الأول هو الصحيح والآخر مخطأ بالكامل.
فليتذكر القارئ أن هناك ثلاث طرق للوصول إلى الوسط :
أولاً – عن طريق التجربة والخطأ.
ثانياً – عن طريق التعلم من أخطاء الآخرين.
ثالثاً – عن طريق قراءة التاريخ والكتب الأخرى للتعلم من السابقين, سواء من الذين أخطؤوا في مجال معين أو من الذين وصلوا فيه إلى وسط مثالي.
هذا الوسط الذي نبحث عنه هو عبارة عن جسر يحاول الربط ما بين الإنسان وبيئته سواء كانت تلك البيئة أجتماعية أم طبيعة مادية, ويريد أن يجعل الإنسان المتبني لهذه الفكرة أن يتناغم وينسجم مع تغير الأحوال والأزمان في بيئته, ثم يرشده إلى رد فعل وأستجابة مناسبة لما يقتضي عليه الأمور والأحوال. أنه مذهب يحقق ثلاث أهداف في نفس الوقت: البقاء على قيد الحياة, وإيجاد المنفعة المثلى في الحياة, والتأقلم مع ظروف الحياة.
لكن يبقى هناك عائقاً يمنع الشخص من الوصول إلى الوسط النافع, إلا وهو عائق المشاعر.
مشاعرنا من الحالات الأستثنائية الثنائية الخاصة التي تمتلك أتجاهاً واحداً فقط لا يحبذ نفسها على التوسط فيه. يتجه مشاعرنا من السلبية إلى الإيجابية, من الحزن إلى السعادة, من الخوف إلى السلام, من الألم إلى الراحة, من الغضب إلى الرضا, من الكآبة إلى النشوة, من الكراهية إلى الحب. كلنا نذهب من أتجاه السلبي إلى الإيجابي دون العكس ودون أخذ طريق الوسط بينهما, لا أحد يريد أن يستقر عواطفه ما بين السعادة والحزن, الجميع يبحث عن السعادة ويخطو خطوات نحوها. هذه الدوائر العصبية مبرمجة سابقاً في أدمغتنا عن طريق جيناتنا الوراثية, فهي الحافز الأهم التي تحفزنا للتقدم نحو مصلحتنا والطمع بالمزيد وأجتناب المضار. لكن مشاعرنا الايجابية معرضة للخطف, فكر في المخدرات مثلاً, فهو واحد من الطرق الذي يتشرد العقل من طوره عند تعاطيها. بل أسوء من ذلك هو طمعنا في المزيد من هذه المشاعر الايجابية, أدمغتنا يجعلنا دائماً مشغولين بالسعي وراء هذه المشاعر الممتعة, حتى لو وصلنا إلى الهدف المنشود وشعرنا بالعواطف التي كنا نرغب فيها, فإن عقولنا لديه خاصية الملل من وضعنا الراهن. هذا الملل يجعلنا أن نطمح إلى المزيد من هذه المشاعر الايجابية التي تألفنا عليها. وهذا الأمر سوف يؤدي حتماً إلى هلاكنا إن لم نردعه. قرارنا في التوسط في المشاعر الايجابية وعدم الطمع بالمزيد هو أصعب قرار ممكن أن نتخذه لكن ذات نتائج نافعة جداً. ثلث مشاكل العالم العاطفية اليوم ينبع من الطمع بالمزيد من هذه المشاعر الايجابية. المخدرات, السمنة, أمراض جنسية, القتل, السرقة, وغيرهم. جميعنا نعلم أن المخدرات مرتبطة مباشرتاً بكمية المشاعر الأيجابية التي يشعرها الفرد عند تعاطيه لتلك المواد, وكذلك الأمر بالنسبة للسمنة, فأن الشخص السمين لا يمكنه التوقف عن التفكير في المشاعر الايجابية التي يحدثها الطعام عند أكل كمية زائدة منه ولفترة طويلة, فأن الطعام يمده بكميات هائلة من هذه المشاعر. القتل والسرقة ممكن أن يدخل إلى هذا النطاق أيضاً, ربما يكون القاتل أو السارق قد أرتكب فعلته من أجل الحصول والرغبة في المزيد, وهذه الرغبة جعله يذهب إلى حد التجاوز لعواقب هذه الأفعال وأرتكابها على أي حال.
ما هو الحل إذاً؟ كيف يمكننا منع هذه المشاعر الايجابية من قيادتنا إلى التهلكة؟ واحد من أبسط الحلول هو تفادي وضع العقل في حالة الغرق بهذه المشاعر الايجابية, لانها فور تجربتها لها, سوف تقوم بالرغبة فيها, وينقلب كل منافع الحياة ومتاعها رأسا على العقب, ويكتئب الفرد في الدنيا وما فيها سوى عند اللجوء الى هذه المشاعر الايجابية, لان كميتها كثيرة جداً مقابل كمية المشاعر الايجابية الطبيعية التي نأخذها من العالم اليومي الطبيعي. ونحن لا نخطو أي خطوة في يومنا من دون المشاعر. أي تصرف نتصرف به يكمن في جوهره شعور من المشاعر المعينة إلى جانب المنطق, بل المنطق بأكمله يبدأ من المشاعر المحفزة له. نتيجة ذلك, يخضع المنطق نحو المشاعر, بل يصبح عبيداً لها, ويعمل ليلاً ونهاراً, ويبتكر خططاً وإرشادات من أجل البلوغ إلى نفس كمية المشاعر التي حسها الدماغ من قبل وجربها. إذاً, ببساطة يمكنك اجتناب تعاطي المخدرات حتى لا يقع عقلك في هذا الفخ ويدور في دوامة دائمة حتى يجر المنطق والجسد إلى القبر.
سوى إن أغلبنا جرب هذه المشاعر من قبل وعاش فيها. من منا لم يجرب طعاماً مضر للصحة الذي دفع لنا بالمقابل كمية من المشاعر الايجابية التي لا يمكن للدماغ رفضها, من منا لم يجرب الشعور الجنسي وطريقتها المميزة في مساس منطقنا وإجبارنا على فعل أفعال نتجرع مرها إلى أبد الدهر, من منا لم يطمح في المزيد من المال والماديات والشهرة التي تدفعنا إلى حسد الآخرين والتصرف بسلبية أتجاههم.
هنا يظهر لاعبٌ ضروري, حيث لا يمكن للإنسان بدونه بلوغ الوسط الذهبي والإستقرار فيه, إلا وهو ضبط النفس.
تعريف ضبط النفس هو: القدرة على السيطرة على الذات, وتنظيم الإنسان لمشاعره وأفكاره وتصرفاته في وجه الإغراءات والأفعال البدائية الآنية. الهدف من ضبط النفس هو لبلوغ عاقبة أنفع وأسمى من الذي ينتجها مشاعرالآنية والتصرفات التلقائية. وضبط النفس نفسه يحتاج أيضاً إلى التوسط فيه وإلا سوف ينهار الفرد من كثرة السيطرة على مشاعره الطبيعية وتصرفاته الفطرية. يجب أن تعلم أي من الأفعال والمشاعر يحتاج إلى السيطرة عليه في أوقات معينة وفي مكان معين, وتترك التصرفات والعواطف الأخرى التي هي تعتبر أقل أهمية لتعبر كما هي. يركز ضبط النفس على المستقبل وليس الحاضر, فنتائجه يأتي لاحقا في الغالب. هل سوف نجني مشاعر جيدة قادمة او هل سوف نقي انفسنا من مشاعر السيئة القادمة.
نحتاج إلى ضبط النفس لغرضين:
أولاً: من أجل أنفسنا. يمكن لضبط النفس أن يقينا من مضار الأشياء التي تنتج مشاعر مزيفة جيدة في العقل, مثل المخدرات والسجائر والأطعمة الضارة للصحة.
ثانياً : من أجل الآخرين. سواء كان الآخرون عائلتنا أم مجتمعنا, فنحن يجب أن لا نتصرف بأنانية أو بشكل يؤذي الآخرين. ويلعب ضبط النفس دوراً في الحد من الغضب, والقتل, والأغتصاب, والتخريب, وتقديم مصلحة ذات على مصلحة العامة. ويمكنه أيضاً تعزيز الأخلاق القويمة عند أفراد المجتمع.
المشاعر هي عملة العقل, فإننا يجب علينا أن نجني أكبر عدد من المشاعر الجيدة, وبالمقابل نجتنب أو نخسر أكبر عدد من المشاعر السيئة. يمكنك أن تشبه العقل بالمصرف, والمشاعر الجيدة بالنقود والثروات التي عندك, والمشاعر السيئة هي الديون التي عليك. فأنت تحاول طيلة حياتك الزيادة من نقودك وفي نفس الوقت التقليل من ديونك, هذه هي قاعدة الدماغ.
نحكم على الأشياء والمواقف بإنتاجها لمشاعر جيدة من خلال ثلاث تقنيات : الأول هي تقنية التجربة, فمن التجربة نعلم أن الجنس ينتج مشاعر جيدة. ثانياً من شهادة الآخرين, سفرنا إلى يونان جاء بسبب توصية أقاربنا عليه. ثالثاً من المنطق, نستنتج إذا كان التسكع مع الأصدقاء ينتج مشاعراً جيدة, فإن السفر معهم على يونان سوف ينتج ضعف من تلك المشاعر الجيدة.
لكننا كما قلنا أن بعض الأشياء في الحياة ينتج مشاعر جيدة بالرغم من عاقبتها السيئة. هنا, نضطر أن نقاوم تلك المشاعر الجيدة التي تأتي من تصرفات خاطئة, وضبط النفس هو الأداة التي يمكن أن تساعدنا في ذلك. أي أن ضبط النفس يجعلنا نقاوم الأشياء التي تنتج مشاعر جيدة آنية ولكن تخلف ما بعدها مشاعر سيئة لاحقة. لو فكرنا في التشابه السابق, فإننا نحاول إجتناب صفقات التي تعطينا نقوداً آنية وقليلة ويتركنا مغرمين بالديون لاحقاً. وفي نفس الوقت, نحاول أن نضبط أنفسنا لكي نتحمل الديون الزائلة القليلة بمقابل النقود طويلة الأمد التي تأتي منها لاحقاً.
هل هذه هي الحقيقة؟ هل فعلاً ضبط النفس يجنينا عملات أضافية أو يقينا من المشاعر السيئة القادمة؟ بالتأكيد, لو ترك متعاطي المخدرات هوايته, فسوف يصحى ويصبح واعياً للأشياء أخرى حوله الذي يجلب المتعة والمشاعر الجيدة للعقل, وهذه الأشياء مجتمعةً سوف يفوق مشاعر الجيدة التي يحثها المخدرات في عقل المتعاطي. وينطبق نفس المنطق للفرد السمين الذي إذا ترك الطعام, لربما زاد من عمره وصحته وقدرته على عيش الحياة بكامل جوانبه.
المشاعر عادةً تنتج تصرفات تلقائية لا يمكن ان يتحكم بها الجاهل غير المتدرب على ضبط النفس. وفي كثير من الاحيان, بل في غالب الاحيان في هذا العصر, يكون إظهار المشاعر امرا غير حسنا (كالغضب), في البداية على الاقل, وكذلك التصرف بتلقائية وعدم التفكير في الموضوع يؤدي الى الندم ما بعد اختفاء المشاعر والعواطف. لذلك نلجأ الى ضبط النفس حتى نسيطر على مشاعرنا ونستغلها لكي يظهر في المكان والوقت المناسب.
ضبط النفس يساعد ايضا على تبطيأ التصرف بتلقائية, بعض احيان نتصرف بشكل مباشر وسريع للاحداث والمواقف ظنا منا باننا تصرفنا وفق سلوك اكثر منطقيةً, لكن سرعان ما يتضح في النهاية باننا كنا على خطأ, بل هناك شيء اكثر منطقيا نسيناه بسبب سرعة التصرف.
ضبط النفس يجعلنا نتحكم بمشاعرنا ويجعلنا نزن ما نراه منطقياً اكثر. من سهل جداً إيجاد عذر لنعمل ما نراه يستنتج مشاعر جيدة آنية, ومن صعب جدا إيجاد اسباب للمضي الى ما نشعر به بمشاعر سيئة مؤقتة. فهذه المشاعر قد يضللنا بعض الاحيان بالأجمل القادم ومشاعر الجيدة القادمة, وإن تخطينا مرحلة مشاعر السيئة فإننا سوف نقع منطقياً إلى مشاعر جيدة, اذا كان منطقنا صحيحاً.
قبل الخوض إلى تقنيات ضبط النفس, علينا أن ندرك لماذا نضبط أنفسنا؟ ومن أجل ماذا؟ الإجابة على هذا السؤال كانت محددة وجزئية في الفقرات السابقة. بشكل عام, وكقاعدة, هناك أربع أشياء في الحياة يهدف إليه الإنسان, وهم:
البقاء على قيد الحياة: ويشمل أيضاً النمو (الطعام وغيره من المواد)
الجنس: ويشمل أيضاً النسل (حب الأطفال وما لاحقه)
الرتبة الأجتماعية: وتعني رقي الفرد أجتماعياً, ورغبته في الصعود إلى أعالي طبقات الأجتماعية.
تقليل من الطاقة وتقصير السبل: أي إيجاد طرق ووسائل بسيطة وسهلة وقصيرة من أجل فعل نفس الشيء بأقل طاقة وجهد من الفرد. مثلاً يمكنك إنارة الغرفة بمصباح ذات خيوط نحاسية أو بمصباح الدايود. أثنانهما ينتجان ضوءاً, لكن الأخير أفضل بكثير وأقل تكلفةً من الأول, لذلك نرغب به ونهدف إليه.
يمكنك أن تسميهم بال”القوى الأربعة”, وهم يأتون بالتسلسل في الأهمية, بدءاً من الأكثر أهمية إلى أقل أهمية. والمشاعر الجيدة والسيئة التي تحدثنا عنهم في السابق يمكن تجسيدهم بداخل هؤلاء. مثلاً يمكننا تجسيد مشاعر السيئة عند خسارة البقاء على قيد الحياة, فعندما نشعر أن حياتنا في خطر, يتحفز في دماغنا مشاعر السيئة من الخوف والقلق والتوتر, وكذلك عندما نضمن بقاءنا على الحياة, فنحن نشعر بمشاعر إيجابية من طمأنينة والسلام ونوع من الحرية ربما. وكذلك الأمر بالنسبة للجنس, فعندما نمارس الجنس, نشعر بمشاعر جيدة من الحب والنشوة والإنتماء والسعادة, وعندما نحرم منها, نشعر بالمشاعر السيئة من النبذ والكراهية والحرمان والحزن.
آخذاً هذه الأهداف البدائية بنصب أعيننا, يمكننا الآن الرجوع لمعرفة أسباب الذي يجعلنا نمنع أنفسنا من بعض الأشياء في بعض الأوقات والمقامات.
نحاول في عديد من المواقف أن نزن مكاسبنا, سواءاً كانت تلك المكاسب مادية أم معنوية, بهذه القوى الأربعة. في أي لحظة من لحظات حياتنا يكون لدينا خياران على الأقل, الخيار الأول هو التصرف بأي شكل من الأشكال, والثاني هو الإمتناع عن التصرف. هذان الخياران يحكم على أفضلية أحداهما عن الآخر عن طريق الموازين الأربعة, فأي منهما ينتج أثقل ربح لنا وأقل خسارة يحكم عليه بالأفضلية.
بالرغم من أن هذه القوى يمتزجان مع بعضهما البعض, إلا أنهم مصنفين حسب الأهمية. إذا كان الموقف فيه ربح قصير معين, فلنأخذ مثلاً الأغتصاب, يشعر الفرد بمشاعر جيدة من النشوة ويحقق القوة الثانية (قوة الجنس), ولكنه ذات عاقبة سيئة للقوة الرئيسية الأولى وهي البقاء على قيد الحياة (فلنفترض أنه سوف يُعدم بعد هذه الفعلة), فيحكم على هذا الموقف بالخسارة منطقياً, لأننا أقدمنا الجنس على العيش, ويوجب على الفرد عندها بالإمتناع عن التصرف في مثل هذه المواقف وضبط النفس. أما إذا كان الموقف فيه بعض من الخسارة الوقتية, كالأمتناع عن أخذ منصب معين, ولكنه ذات عاقبة جيدة للقوة الثانية وهو البقاء على قيد الحياة, فيحكم على هذا الموقف بالأيجابية منطقياً. وهكذا..
نأتي بعد هذه الشروحات إلى تقنيات ضبط النفس. كيف نستطيع أن نضبط أنفسنا؟ يجب ان نعلم ان ضبط النفس هي مهارة لا تأتي مباشرة بل تحتاج الى خبرة وتجربة, ويجب عليك ان تدخلها الى حياتك تدريجيا وليس فوريا. هناك عدة تقنيات لضبط النفس نتناول أفضل تقنيتين هنا :
تقنية المنطق: وقد شرحناه في النص أعلاه عندما بينا القوى الأربعة وكيف نحكم على إيجابية وسلبية المواقف. فأذا كان الشيء يصدر منطقاً إيجابية شرعنا في التصرف فيه ولا نمنع أنفسنا منه. وإذا كان سلبياً فيوجب علينا ضبط النفس والإمتناع عنه. يساعدنا التفكير المنطقي وتحليل المواقف والاشياء في الضغط علينا على التصرف بالشكل الصحيح. يمكنك أن تذكر نفسك في المواقف التي تتطلب ضبط النفس بالعاقبة الجيدة وبالمشاعر الجيدة وبالأشياء الجيدة التي سوف تأتي بعد الأمتناع عن هذه الإغراءات المؤقتة. هنا, منطقك يدفعك نحو ضبط نفس ويجبرك على الألتزام بها. وهذه التقنية عادة فعالة جداً في تحريض النفس على ضبط النفس وعدم الخروج على أطراف التفريط والتقصير. دائماً فكر في المواقف كأرباح وخسائر, ولا تنسى أن تأخذ عامل الزمن (الربح طويل أم قصير الأمد, الربح آني أم يأتي بعد وقت معين) بنظر الأعتبار.
تقنية الإلهاء: ثاني أفضل تقنية ما بعد تقنية المنطق. لكي تمنع نفسك من فعل أفعال أو قول أقوال خاطئة, يجب أن تلهي وعيك مؤقتاً عن هذه الإغراءات والحالات. ويشترط أن تُنتج هذه الملهيات مشاعر جيدة في العقل مثل مشاعر النشوة والسعادة والضحك, وليس مشاعر سيئة كالملل والصبر. مثلاً, بدل الشروع إلى الأغتصاب, يمكن للشخص الذهاب إلى تناول الآيس كريم التي تنتج مشاعر جيدة أيضاً ولكن واحد من شروطها هي عدم اللزوم بالامتناع عنها أيضاً (أي أن لا تكون مجبراً عن الامتناع عن هذه الملهيات في نفس الوقت – مسموح لك تناول الآيس كريم). يحاول تقنية الإلهاء أن يشتت أنتباهك عن التصرف بتصرفات خاطئة في أوقات ومقامات خاطئة أو نحو أشخاص خاطئيين, بتقديم حلول أخرى تنتج مشاعر جيدة قريبة من تلك المشاعر التي تنتجها هذه التصرفات الخاطئة, لكنها تحتاج إلى قرار واعي لكي تشتغل مفعولها, لإنها ليست مثل تقنية المنطق, فيوجب عليك أنت أن تختار سبل الأخرى بدل من سبيلٍ ذات عواقب سيئة. ونذكر مثالاً آخر حتى يثبت الفكرة: بدل من أكل الأطعمة المضرة لصحتك, يمكنك أكل أطعمة المفيدة في الوقت التي تشتهي فيه هذه الأطعمة المضرة, ولكن بشرط أن يكون هذه الأطعمة مفيدة لذيذة ومشهية أيضاً ويجب أن تنتج مشاعر لذيذة متقاربة لمشاعر التي ينتجها الأطعمة المضرة. أو يمكنك حتى أن تلهي نفسك بمصاحبة الأصدقاء بدلاً من الجلوس وحيداً في المطبخ.
ينقسم ضبط النفس إلى ثلاث أقسام:
ضبط المشاعر: هنا يحاول الفرد من البداية أن يكبت مشاعر التي يشعره أتجاه شيء سيء أو شيء ذات عاقبة سيئة. لا ينجح هؤلاء عادةً في التحكم على أنفسهم لإن المشاعر يولد في الوعي من دون الوعي. جل ما يقدر عليه الفرد هو الأبتعاد حرفياً عن البيئة والاماكن التي تتواجد فيه هذه الأشياء سيئة. مثلاً, الأبتعاد عن أماكن الملاهي الليلة من أجل عدم ممارسة الجنس مع الدعارات.
ضبط الأفكار: يرقد الأفكار في الوسط ما بين المشاعر التي حفزها وما بين التصرفات التي يتحكم بها الأفكار. السيطرة على الأفكار والتعارض مع مجراها يكون أسهل من التعارض مع المشاعر. يقدر الشخص على تغيير أفكاره عن طريق تقنية المنطق.
ضبط التصرفات: تغيير التصرفات لن يكون ذات أثر دائمي على رغبة الفرد في أرتكاب هذه الأشياء السيئة له وللمجتمع ذات مشاعر جيدة, لكنه يُرجع الإنسان إلى رشده وقتياً ويمنعه عن التصرف بسوء في ذلك الموقف المحدد. تغيير التصرفات يمكن أن ينجز بتقنية الإلهاء ويرجع أثره على تغيير المشاعر أيضاً وجرها إلى مجراً آخر دون التي بدأت منها.
قبل البدأ بالخاتمة, نعود إلى فكرة التوسط لنرى إرتباطه بشكل أعقد مع ضبط النفس. التوسط بإختصار هو الإبتعاد عن أطراف التقصير والتفريط, وضبط النفس هو الإمتناع عن التصرفات السيئة. يحتاج التوسط إلى ضبط النفس لإن مشاعرنا التي هي ذات أتجاه واحد – وهو الإبتعاد من المشاعر السيئة نحو المشاعر الجيدة – يسبب لنا مشاكل في الإفراط في الأشياء التي تحفز فينا مشاعر جيدة كالمخدرات والأطعمة والجنس التي تكون عادةً ذات عواقب سيئة ويعود بمشاعر أسوء علينا. وهذه الإفراط في الأمور السيئة يجعلنا مقصرين في الأمور الجيدة أيضاً, فبالتالي نخرج هنا من الوسط نحو التفريط والتقصير.
يفرض علينا التوسط في الأشياء والتصرفات التي تؤدي إلى الإدمان أو إلى الإفراط فيه إلى حد التقصير في الأشياء الضرورية الأخرى في الحياة. ونحن نتوسط في الكمية بالإباحة أو الإمتناع في الأشياء الروتينية أو في الأشياء التي نفعلها مراراً وتكراراً, بينما نتوسط في التصرف نفسه في الأشياء التي نفعلها مرات قليلة أو نادرة.
الفارق الزمني بين التفريط والتقصير هو أمر مهم أيضاً. علينا أن ننسق بين كمية تصرف معين مع زمن فعله. مثلاً, أكل ألفي غرام من اللحم يومياً يعتبر أمراً متوسطاً للشخص المعتدل, لكن أكل نفس الكمية من اللحم في جلسة غذاء واحدة يعتبر إفراطاً. وبعض الأشياء يمكن تقسيمها على زمن فعلها لكي يتم معرفة الوسط ذهبي فيها, والبعض الآخر لا يقبل التقسيم, ويتصنف من ضمنه الأشياء البحتة مثل الشجاعة والعدل, وكذلك أشياء نادر الفعل والقول, والأشياء التي يجب أن تأتي في أوقات مناسبة محددة, هذه الأشياء نتوسط فيها أما من خلال التجربة كما قال أرسطو أو من خلال التعلم من الآخرين بمكان وسطهم الذهبي.
وفي الأخير يستحيل علينا الخروج من دون الإندهاش والذهول بمرونة الهائلة التي يتمتع بها دماغ البشري, نستطيع من خلالها أن نغير من أفكارنا وتصرفاتنا لنمتنع عن الأشياء التي نعلم مضارها علينا منطقياً نحو أشياءٌ إيجابية تؤمن مستقبلنا وصحتنا الجسدية والنفسية. نحاول بقدر المستطاع أن نستسيغ من حياتنا أكبر كمية من السعادة والمتعة قبل الموت, بل وربما ننافس الآخرين في ذلك. نحن كائنات نكره الشعور بالسيطرة والتقيد والإمتناع, ونسعى إلى الحرية والتحرر والإباحة, لكن في حريتنا عن الإنضباط والتوسط يسكن بأسنا وسقوطنا وقبورنا. لا نختلف كثيراً عن الحيوانات سوى في العقل, ويمكن لأبسط المركبات أن يطيح بهذا العقل, ليعيد الإنسان إلى وحشيته, المخدرات والأطعمة المضرة والإدمان والتصرفات البدائية والسلوكيات المؤذية للنفس وللآخرين, كلهم لديهم عواقب وخيمة, لا يسلم الإنسان منهم سوى بضبط النفس والتوسط, لكي يعيش حياة طويلة وسعيدة وممتعة ومطمئنة ومفيدة وحضارية.
بعض الأحيان مشاعرنا تكون هي المؤشر التي ترشدنا إلى الأعتدال والتوسط والأفضلية, نرى بعض الأحيان أن ما بين السعادة والحزن تقر الفائدة, ما بين النشوة والكآبة تقر المتعة, ما بين الغضب من المعين والتعلق به يقر الرضا, ما بين الشك واليقين التام تقر الحقيقة, ما بين الخوف والطمأنينة يقر الوجود, كل هذه العواطف تنقل لنا لمحة عن طريق الصحيح والمعتدل. كان يمكن لهذه أن تنجح في إرشادنا نحو الصواب لو لم تكن قاعدتها المزيد والمزيد من هذه المشاعر الممتعة والشهية إلى حد الإفراط فيهم, بل يمتلك هذه المشاعر بطاقة الملل مما يزيد من الطين بلة, لإننا نمل من أشياء التي يحفز فينا نفس المشاعر الجيدة, نحاول بقدر المستطاع أن نزيد من كمية هذه المشاعر أو نغيرها بأقوى منها مع مرور الزمن مما يدفعنا إلى الإفراط في ذلك الشيء.
لكن في الحقيقة نحن ننمو بصفحات بيضاء, لا نعرف كيف نشعر أتجاه مواقف عديدة في حياتنا, بل نكتشف شعورنا بعدما نخطأ باتجاه تلك المواقف, ثم نحللها لنعرف أين يكمن درب الصحيح. إلا إن درب الصحيح في دماغنا هو هروبنا من المشاعر السلبية إلى الأيجابية, وليس البقاء فيما بينهم. الهروب من الخوف إلى السلام, الهروب من الحزن إلى السعادة. وكما تعرف أن هذا النظام المؤشر لنا يمكن أن ينكسر بسرعة, والمثال عليه هو السعادة والنشوة التامة التي نشعر بها عند أخذنا للمخدرات, فهذا ليس يعني طريق الصحيح والمعتدل حتى لو كانت مؤشراتنا المشاعرية تؤشر إلى ذلك. إذاً, يبقى القرار لنا نحن لإجتياز الأسوء, وليس على أجسدنا أو أدمغتنا.