(أخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعة) و(العراق أولاً) وغيرها مِن الشِعارات هي شِعارات جَميلة، لكنها تخفي ورائَها إنقساماً قبيحاً وتشَرذماً مُرعِباً بَين شَرائح الشَعب العراقي المُختلفة. فهي للأسَف عاجزة عَن أن تحفظ أرواح مَن يَرفعونها ويُردّدونها مِمّن يَسقطون يَومياً ضَحية لنقيضها مِن الشِعارات الطائِفية، كما إنها في الحقيقة باتت لا تساوي على أرض الـواقع اليومي البائِس الذي يَعيشه العراقيون حَتى ثمَن الحِبر الذي تكتب به، بل ولم تعُد تصلح حتى للإستهلاك المحلي، الذي أصبح مُستهلِكاً للبضائع الإيرانية والتركية أكثر مِن إستهلاكِه لها. شِعارات دِعائية كذبتها أنهُر مِن الدماء الزكية والأرواح البَريئة التي قتلت وهُجِّرَت على الهوية المَذهبية والدينية. شِعارات خيالية تتحَدّث عَن وحدة مُفترضة غير مَوجوة بَين كتل بَشرية لا تدين بالوَلاء لوَطنها، بل لطوائفها المَذهبية والعِرقية والدينية، ولأمَراء حَربها الذين باتوا يَحكمون العراق بإسم هذه الطوائف وبحُجة الدفاع عَنها وعَن أبنائِها.
يَتحَدّثون عَن الوحدة الوطنية وعِندما يَأتي وقت الإنتخابات تنتخِب الغالبية القوائم التي تدّعي تمثيل طوائِفها وقومِيّاتها، حَتى إن لم تكن مُقتنِعة بمُرَشّحيها ولا مُرتاحة لتوجّهاتهم ولا عِلم لها ببَرامِجهم، لا لشَيء سوى إنها تدّعي تمثيلها والمُطالبة بحُقوقها التي لم يَنتزعها مِنها أحَد يوماً. ويَتحَدّثون عَن الوحدة الوطنية وأغلب مُدُن العراق باتَت تخشى بَعضَها البَعض ومُغلقة على لون طائفي واحِد مِن الناس، ومُحاطة بأسوار تحميها مِن بَعضها وتفصُلها عَن بَعضها وتراقِب الداخل لها والخارج مِنها. لم يَعد يَنقص سِوى إصدار فيزا، بَعد أن كان العراقي يَتنقل ويَعمل ويَسكن في جَميع أرجاء وطنه أينَما وكيفما يَشاء، وكان السُني جاراً للشيعي، والمَسيحي صَديقاً للمُسلم بالجامعة، والعَربي زميلاً للكردي بالعَمل.
وحدة المُجتمَع تحتاج الى شُعور أبنائه بالمُواطنة التي تبَيّن بأنها مَفقودة الآن لدى غالبية العراقيين، أو رُبما وهو الأصَح لم توجد لدى غالبية أبنائه أصلاً، وما ظهَر مِن وَلائات طائفية وعِرقية خلال السَنوات الأخيرة لم يَكن جَديداً ولم يَظهر فجأة بسَبَب الظروف وبفِعل الأحزاب التي جائت بَعد 2003 كما يَدّعي البَعض، بَل كان مَوجوداً ومَكبوتاً كنار تحت رَماد الآدولوجيات اليَسارية الأمَمية والقومية الإقليمية التي طغَت على مَفاهيم القرن العشرين، وأجهَظت مَشاريع بناء وتأسيس الدول الوطنية، فكانت تُهاجِم وتسَقِّط وتُخَوّن مَن يَتحَدّث بقيَم ومَفاهيم المُواطنة وتسَفِّهها، ولم تسمَح بتبَلـور الشُعور الوطني في وجـدان غالبية أبناء الشَعب العراقي، الذي أعادَته تداعِيات مابَعد2003 الى حقيقته المُنقسِمة المُرتبكة التي يَرفض الكثيرون الإعتراف بها حَتى اللحظة، رَغم أنها باتت ساطِعة كسُطوع الشمس في وَضح النَهار. فلو كانت هذه الوحدة الوطنية مَوجودة على أرض الواقع، ولو كانت لها قاعِدتها المُتغلغلة في نفوس العراقيين لما رَفعوا شِعاراتها، بَل لرَأيناها مُتجَسِّدة قولاً وفعلاً بتصَرّفاتِهم ومُمارَساتِهم وأوضاع بَلدِهِم. ففاقد الشيء مُنجذِب إليه، وما ترديد العِراقيين لهذه الشِعارات إلا تأكيد لفقدانِهم لمَعانيها ولروحِيّتها في دَواخِلهم وفيما بَينهُم.
قد يُنَظِّر البَعض ويقول بأن ما نراه إنقِساماً في الشَعب العِراقي هو في الحَقيقة تنَوّع وفسَيفِساء، وسَنجيبُه بالقول أن المُجتمَع المُتنوّع الفسَيفِسائي هو ذلك المُجتمَع الذي تختار شرائِحه المُختلفة العَيش سَويّة طواعِية دون ضُغوط، وليسَ المُجتمَع الذي تجبَر شَرائِحه على العَيش سَويّة، وعِند أول إنفِلات أو فرصة للحُرية تعطى لها تبدأ بقتل وتهجير وظلم بَعضِها البَعض !!