عندما جعلوا من الوحدة الوطنية خرافة والحديث عنها تخريف , لم يبق لنا سوى الأستذكار الخجول لبقايا وطن في الذاكرة , منذ تشكيل الدولة العراقية عام 1921 ورغم طائفية وعنصرية بعض الأنظمة , استمر المجتمع العراقي متماسكاً , ثورة 14 / تموز / 1958 اشتركت فيها جميع القوى التي كانت تمثل المكونات العراقية ـــ جبهة الأتحاد الوطني ـــ الضباط الأحرار كانوا تشكيلاً قومياً وطنياً مثًل جميع الأتجهات العراقية في حينه , ورغم شوفينية وطائفية النظام البعثي كان المجتمع موحداً تقريباً في مواجهتة , وحتى الخمسة والثلاثين عاماً الأخيرة من حكم ــ صدام حسين ــ وما برمج له في تدمير البنية المجتمعية من داخلها , استمر للوطنية العراقية حضوراً ـــ الأنتفاضة الشعبانية 1991 مثال ـــ .
بعد الأحتلال عام 2003 , اندفع المشروع الأمريكي في العراق والمنطقة الى الأمام , وكانت الوطنية العراقية هدفه المباشر , وبقسوة تم افراغها من مضمونها عبر تقسيم المجتمع العراقي الى ثلاث , شيعي , سني وكردي وتهميش المكونات الأخرى .
تلك المجتمعات الثلاث المصنعة اقليمياً ودولياً, تقاسمت العراق جغرافية وسلطة وثروات , تفصل بينها حواجز من الكراهية والأحقاد والشك , مسحت من روزنامة التاريخ العراقي كل ما له علاقة بالتقاليد الحميدة لروابط الأخوة والتسامح والتعايش السلمي , المشروع الأمريكي المبرمج عسكرياً واستخباراتياً واقتصادياً واعلامياً , وعبر مجلس الحكم الموقت وحكومات طائفية عرقية تعاني فقر الوطنية , استطاع ان يمسخ المجتمع العراقي الوطني الى مجتمع طائفي عرقي , يقاتل نفسه ليخسرها على طاولة الأنهاك ثم التقسيم , المجتمع الطائفي لا يمكن ان ينتج حكومة غير طائفية , ولا غرابة , في كل دورة انتخابية تتكرر علينا ذات الوجوه المتخلفة الفاسدة , اغلبها متواطيء مع الأرهاب .
بعد ان اصبحت لعبة الكراهية والأحقاد وشهوة الفتن بيئة مجتمعية وثقافة يومية تمارسها رموز الأطراف الثلاثة (الشيعة السنة الكرد) , تحول المعنى للوطنية العراقية الى خرافة والتخريف حولها تغريداً خارج المضمون العام للتقسيم .
العراق ـــ الوطن الواحد ـــ انقسم عملياً الى ثلاث .
1 ـــ دولة ــ حكومة ـــ المكون الشيعي .
2 ـــ دولة ـــ حكومة ـــ المكون السني .
3 ـــ دولة ـــ حكومة ـــ المكون الكردي .
الأحزاب والتحالفات التي تكون منها كل ضلع من المثلث , صممت متشاركة متوافقة تتنفس برئـة مشروع التحاصص والتقسيم , الدستور ومعه ديمقراطية الأمتيازات , فصلا على مقاس التوزيع الطائفي القومي للسلطات والثروات , واصبح تقليداً لا يمكن القفز عليه بسهولة , ان يكون رئيس الحكومة (شيعي) ورئيس مجلس النواب (سني) ورئيس الجمهورية (كردي) , وهكذا بالنسبة للوزارات, سيادية نفعية ومؤسسات للفرهود والتهريب الشامل , ورغم الأنسجام التام لأطراف لعبة الكراهية حول الكعكة العراقية , غير انها تمارس ادوارها بمهنية فائقة في اشعال حرائق الفتن بين المكونات العراقية التي كانت يوماً متآخية .
المضمون الأمريكي الأقليمي للوحدة الوطنية العراقية , ثلاثة جغرافيات لثلاثة دول وحكومات وثقافات , لكل منها حصة من الدستور واخرى من الديمقراطية , جميعها ممثلة بالمركز الأمريكي من داخل المنطقة الخضراء , ثلاثة رئاسات وسياديات وتوافقات تحاصصية لشيعستان وسنستان وبرزانستان , تفصل بينهما حدود المتنازع عليها للفتن المؤجلة , اننا هنا لا نتحدث عن عراق المعنى بعد ان فقد المعنى , انما نعني المضمون بعد ان فقد مضمونه .
1 ـــ جغرافية شيعستان : حصة المراجع والأحزاب الشيعية من العراق المقسم , تتحاصصه ثلاثة احزاب شيعية رئيسية , المجلس الأعلى , التيار الصدري , حزب الدعوة , وهناك كتل فرعية اخرى , جميعها تربطها مصالح نفعية اكثر منها عقائدية مع المراجع العليا والعظام , عقد تاريخي لا يمكن القفز عليه , يتلخص في افراغ مجتمع الجنوب والوسط من مضمونه الوطني وتمزيق الهوية الحضارية حد الأحتقار والألغاء التام , وهذا يتطلب اجتثاث جذور الأنتماء والولاء للوطن ــ بالعراقي الفصيح ــ ان يخلعوا عراقيتهم كهوية مشتركة مع الذات والآخر , مهمشين على قارعة تعقيدات التاريخ المنقول للمذهب , الأمر هنا يتطلب دراسات واختصاصات مبرمجة بقدرات روحية وعاطفية عالية وحرفية في مسخ الوعي الوطني , ملخص الأمر, ان يستمر هذا المجتمع الرائع , رزمة ارقام واصفار جاهزة للقسمة على اعداد المراجع والأحزاب الشيعية , عملية اخصاء غبية لأكثر من ( 20 ) مليوناً من عراقيي الجنوب والوسط , هنا ايضاً لا يمكن تجاهل صعوبة الأمر على المدى البعيد , فالمضمون الوطني عريقاً في معناه , راسخاً تاريخياً وحضارياً في الشخصية العراقية لمواطني الجنوب والوسط , الأمل معقوداً على التحولات النوعية والمتغيرات الكمية العاصفة التي وحدها تستطيع قلب طاولة التغيير والتحديث والتقدم على رأس برنامج التجهيل والأفقار والهدم الصحي , وفي جميع الحالات , ليس بالأمكان الأمساك بعنق الرأي العام للجنوب والوسط الى ما لا نهاية , فقط ان يبدأ المتبقي من الخيرين جادين من نقطة الوعي .
2 ـــ جغرافية سنستان (داعشستان) : مع انهم مجتمع لا يجتمع حول التأثير المباشر للمراجع الدينية , كما هم عليه الشيعة , انهم تحت تأثير آخر اشد وطأة , سطحية وازدواجية الخلط بين القومية والطائفية في آن , محكومين بقناعات فقدت ازمنتها ومنطقها , حالمون وهماً بعودة العراق الى مرحلة تجاوزها الواقع لاتملك حرفاً في قاموس المتغيرات, الوطن بالنسبة لهم, اقل شأناً من السلطة, والحصول عليها لا يمنعهم من مقايضة اجزاءه , اقلية فقدت تاريخياً وعملياً مقومات ادارة الدولة بمفردها , لهذا اصبح مجتمعهم ارضية رخوة لنفاذ اختراقات انظمة الجوار السنية وكذلك الدولية , افضل ما يملكون من طباع ومواهب البداوة , الحراك المخادع وشهوة المغامرات المسلحة وعتمة التخطيط للأنقلابات (وفضائل !!) الغدر والوقيعة , انهم وعلى المدى المنظور , لا يصلحون طرفاً يؤتمن له في الوحدة الوطنية , مضمون سيء محشو بالمفاجئآت غير السارة , سليلي التقوقع العشائري الضيق , يمكن ان يستعملوا الوطن , لكنهم لا يؤمنون به , الوحدة الوطنية في ثقافتهعم المنغلقة, لا تتجاوز فرصة القفز على ظهر الآخر ثم كسره .
3 ـــ جغرافية برزانستان (الكردية) : عند الحديث عن تلك الجغرافية (الدولة) , يجب حذفها من قاموس الوحدة الوطنية العراقية اولاً, قياداتها , اضافة لتطرفها الشوفيني , مصابة بداء الأحقاد والكراهية لكل ما هو عراقي , انتقلت عدواها الى مجتمعها فسرطنت فيه جينات الأخوة والتعايش المشترك , انها بمجملها ثغرات خطير لأختراق السيادة الوطنية وتدمير الدولة واعادة تمزيق الهوية المشتركة للمجتمع , اربيلها ملتقى لنشاط استخباراتي مخيف , قاعدة عسكرية سياسية للأنظمة التي لا تريد خيراً للعراق, يطمح جنرالها مسعود , للأستحواذ على ما يستطيعه من جغرافية وثروات العراق , يبتزون الدولة بالدعوة للأنفصال , وهم لا يؤمنون به ولا يرغبون , حيث لا يأتي في صالح النشاط الأستخباراتي الخارجي على جغرافية الأقليم , الأنحسار في دويلة صغيرة تضيق داخلها مساحة النشاط الأستخباراتي , تعد خسارة مقارنة بالحدود المفتوحة على العراق ثم التمدد الى محيطه عبر الشراكة النافذة في حكومة المركز , فالمنطقة الخضراء تعتبر مجال حيوي لنشاط الأستخبارات الدولية والأقليمية , عبر استعمال المراكز الحكومية النافذة التي يحصل عليها المكون الكردي في حكومة المركز , انها في الواقع , مؤسسات تديرها انظمة الجوار والعالم , وبشكل خاص امريكا وتركيا واسرائيل , وهذا افضل بكثير من ثقب مراقبة عديم الرؤيا في اربيل , فالدولة العراقية من الناحية العملية , بلا اسرار ولا سيادة ولا حصانة ولا هيبة , مختركة مفككة حد العظم .
العراق على حافة اكثر من هاوية مبرمجة , ومثلما تقاسمته ديدان الطوائف والمذاهب والأعراق , ستتقاسمنا لعنة التواطي , ان اردنا ان نترك اثراً طيباً وذكرى تحترمها الأجيال , علينا ان نبدأ عراقيون , الوطن مرجعنا ومقدسنا , كنا فيه وجئنا منه قبل ان نكون شيئاً آخر.