بداية ، أنا لا أرتاح لمجرد الحديث عن الوحدة الوطنية العراقية ، لأن مجرد الحديث عنها يوحي وكأنها مهددة ــــ وهي بالفعل مهددة ــــ والوحدة الوطنية في الأساس ممارسة وعمل وإنتاج وليست مجرد شعار أو خطبة أو مجرد مشاعر إنما هي حقيقة دستورية وقانونية ، بمعنى أنها تعالج وتحمي وتعدل وتكتسب مضامينها من التشريعات والأفعال ومايتسم به العمل السياسي على الصعيد الداخلي بشكل خاص . وهي تقع دائماً على عاتق الفئات المتميزة التي تختلف باختلاف الزمن وظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمتغيرات التي يشهدها الوطن.
إن زيادة الحديث عن الوحدة الوطنية دفع بها إلى مايعرف في الاقتصاد بـ(تراجع المنفعة) . لأن الوحدة الوطنية العراقية ليست مهددة ، والشعب العراقي عالج جميع الأزمات وجميع المراحل بما فيها المرحلة التي مر و يمر بها الآن ، بأصوات متفاوتة ووجهات نظر متعددة ، ولم يكن هناك مايهدد هذه الوحدة ، لأن الجميع يلتزم في الإطار الوطني العام الذي يحمي الأمن الوطني ويحافظ عليه.
ويبدو أن بعض العقد التاريخية تشكل سمات مشتركة لدى معظم الفئات التي تتميز بالحظوة عندنا في مختلف الأزمان ، إذ أن الكثير يؤثرون مصالحهم على حساب مصالح الوطن فتأتي مرحلة أخرى يجدون أنفسهم مضطرين لدفع الثمن ، وفي كثير من الأحيان يضطر الوطن إلى دفع الثمن ، على الرغم من التوافق الجماعي تجاه بناء مؤسسة الدولة العراقية.
ولابد بالارتقاء بالطرح إلى درجة أعلى من الصراحة . إذ أننا عندما نتحدث عن الوحدة الوطنية ، أول مايقفز للذهن أن هناك عراقيين من أصل عربي، وآخرين من أصل كردي وتركماني … هذا أولاً . ثم هناك طبقات اجتماعية غير متجانسة واحتمال وجود صراع طبقي ثانياً . وكلها أطروحات تحتاج إلى بحث الوحدة الوطنية العراقية.
وفي إطار البحث عن مفاهيم الوحدة الوطنية كدولة متحضرة ، لابد لها أن تتجاوز مرحلة الصراع الطبقي . فإن هذه الدولة ذات السيادة لابد وان تزيل الشك والغموض وحالة الباطنية وبعض الممارسات السلبية . وعلينا أن لانخجل من طرح مشكلاتنا على أسس قانونية واضحة ونرتب أمورنا بالطريقة التي تضمن لنا منطقاً يعتمد أساساً على عقد اجتماعي وعلى المصلحة.
إن المواطن عندما يشعر بضمان مصالحه في أي مجتمع كان ، يستطيع أن يسهم بفعالية في العمل الإنساني والاجتماعي والنماء الاقتصادي ، مما يفرض علينا أن ندرك معنى العمل ، والمعنى الضمني لدولة المؤسسات ، ونسعى لتطويرها لتصبح دولة الحس والواجب والخدمة.
وعندما نتعامل مع هذه القضايا بشكل علمي ومدروس وقانوني وبنية خالصة ، عندها لانعود نطرح الوحدة الوطنية كمشكلة تعترض هذا المجتمع . وفي هذا الإطار تقع على عاتق القوى السياسية والأحزاب مهمة الإسهام إلى جانب الدولة في بلورة المضامين الصحية لبنيتنا الاجتماعية ، والعمل على تطوير ذهنيتنا مع المستجدات … وإخراج العمل السياسي من الأطر التقليدية القديمة.
وإزاء ماورد إلى دور الأحزاب السياسية في تعميق الوحدة الوطنية ، فإنها عليها أيضاً أن تتعمق في المسألة الديمقراطية حتى يسود الفهم الحقيقي للمعارضة السياسية – على أنها مجرد اختلاف وجهات نظر سياسية في إطار النظام السياسي العام للدولة – حتى نتمكن من الوصول إلى مرحلة التكريس التلقائي لمضامين الوحدة الوطنية ضمن الأطر الدستورية والقانونية التي تقوم عليها المجتمعات المدنية الحديثة باستخدام الأدوات التي تخدم هذا الغرض بصورة علمية ومنطقية.
وفيما أعتقد ، إن مفهوم الوحدة الوطنية الذي يجب أن يسود ، هو في أن يطبق الدستور تطبيقاً حقيقياً في تأمين تكافؤ الفرص بين الناس بشكل حقيقي ، وحماية مواقع العمل في القطاعين العام والخاص على حد سواء من مظاهر المحسوبية والوساطة وغيرها من المعايير التي تحول بين الأكفاء وبين مواقع العمل ، وبينهم وبين المنافسة على الوظائف العامة.
ولابد من الإشارة هنا ، إلى أن هناك العديد من الممارسات المتعلقة بالوظيفة العامة وبحقوق المواطنين التي يجب أن نحرص عليها أشد الحرص في تحقيق العدل والمساواة ، هذه الممارسات هي التي تحتاج إلى إعادة تقييم ، خاصة وأن تنوع الكفاءات في القطاع العام هو مصدر لتقوية العراق وإغناء ثقافته وتطوير تنميته وترسيخ مجتمعه ، وليس لإضعافه كما يعتقد البعض . وبذلك ، علينا أن نطبق السياسات والإجراءات المناسبة له لترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية بالمفاهيم الحديثة ولانستخدمها كأنها مجرد (سوط) تشهره بعض القوى لتحقيق مصالحها.
إن التنوع السكاني في العراق لايهدد أمن البلاد ، لكن التنوع المصلحي هو الذي يمكن أن يهدد الأمن . وماحدث في عام 1991 لم يكن نتيجة للتنوع السكاني والديموغرافي بل كان نتيجة للتنوع المصلحي حيث شعرت فئة من فئات المجتمع العراقي بأنها تعاني من ظروف اقتصادية واجتماعية غير متجانسة وتدعي المظلومية مقارنة مع بقية فئات المجتمع العراقي ، فعبرت عن سخطها ورفضها بما كاد يهدد أمن العراق.
أما إذا أردنا أن نتحدث عن الوحدة الوطنية على خلفية بعض الأصوات الإقليمية فإن هناك – كما ذكرنا سلفاً – فئات في المجتمع العراقي ، منها من أصل عربي ومنها من أصل كردي وتركماني ، وإن هناك تميزاً لهذه الفئة أو تلك حاصل الآن في أغلب دوائر الدولة ، فهذه قضية يجب أن يبت بها بوضوح وبدون تستر ، إذ لابد أن يكون الولاء الوطني هو الحقيقة الوحيدة وليس الانتماء المناطقي الفئوي القومي.
وطالما أن الغاية مصلحة الوطن وبناء العراق الجديد ومجابهة تحديات المستقبل ، وطالما هناك توجهات لترسيخ قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية ، لابد أن تطرح الأمور وأية مشاكل أو مشاعر بكل صراحة ووضوح ، وتناقش على خلفية ماضمنه الدستور للمواطن العراقي . وهنا لابد لمراكز صنع القرار أن تقول الكلمة النهائية والحاسمة في هذا المجال.
إن الدستور والقوانين ، هي الناظمة لعلاقات أفراد المجتمع المتنوع الأصول بالسلطة . والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في الدولة ، هي قواعد محايدة بدليل أن الحوارات التي تنشأ أحياناً حول الوحدة الوطنية هي ضمن الحوارات السياسية وليس الحوارات القانونية ، لأن القانون لايميز بين مواطني الدولة ولابأي شكل من الأشكال ، بحيث لايجوز أن نجتزئ علاقة المواطن بالدولة ببعد واحد لأن العلاقة مع الوطن ومع الدولة ككل ، إذ ليس من أهداف القانون تحقيق غايات غير نشر العدالة بين الجميع . لذلك ، يأتي القانون مجرداً لتنظيم مسألة معينة بين المجتمع كأفراد ومؤسسات ، وبين المجتمع والدولة.
وحين نشير إلى دولة المؤسسات ، فإن الإنسان ومنذ بداياته الأولى وحتى وصوله إلى ماهو عليه من حالة مدنية ، تأكد له أنه يكون أقوى وأكثر فاعلية عندما يكون منظماً يحتكم في حياته للأنظمة والقوانين المتحضرة التي تنظم جميع علاقاته في الحياة في مختلف المجالات والميادين بعيداً عن أية مؤثرات تتعلق بالدم والعرق واللون أو بما يسمى الواسطة والمحسوبية والجهوية وغيرها.
وفي إطار العمل السياسي ، فإن العمل المؤسسي الشعبي يكون من خلال الأحزاب السياسية ، والعمل الرسمي المؤسسي يكون من خلال السلطات الثلاث ، حيث نصل إلى مرحلة الإنسان الذي يعرف حقوقه وواجباته ويدرك حدوده ، وبذلك نصل بدولتنا إلى الأنموذج الأفضل في منطقة مازالت تستهين بالعمل المؤسسي وبالإنسان.
لابد أن نخرج من دائرة المواطن الذي يريد الحقوق فقط ومن دائرة الدولة التي تريد من المواطن واجباته فقط لنحدث التوازن الطبيعي بين الحق والواجب بعيداً عن كل المؤثرات غير المتوافقة مع الأنظمة والقوانين التي تحكم جميع المسائل الحياتية ، لكي تستقر حياتنا الاجتماعية بالمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص خاصة وأننا في مرحلة حرجة ستواجه التنافس الذي نحتاج إلى حشد جميع الطاقات في المجتمع بطريقة منظمة في جميع الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية لنتمكن من إدارة الصراع بطرق علمية سليمة تمكننا من مواجهة المجتمعات المنظمة التي علينا أن نتعامل معها في المرحلة المقبلة وفق ثقافة عالم الرقميات القائمة على المعالجات المنطقية للمسائل وبطريقة منتظمة تربط بين الأسباب والنتائج ، وأن نضع الأسس التي تولد لدينا الثقة في القدرة على المواجهة.
إن شكل الصراع في المرحلة القادمة قوامه التنافس العلمي التقني وسيادة منطق الحضارة بالمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية المؤطرة في العقد الاجتماعي بالأنظمة والقوانين ، مما يفرض علينا أن نخرج من دوامة الماضي ونأخذ من الموروث القيم الأخلاقية ونصيغها مع متطلبات العصر بعيداً عن الحساسيات لنحاكي في الإنسان الكفاءة والقدرة والإبداع والعمل.
إن مهمات المرحلة القادمة تتطلب بناء الوحدة الوطنية بمعايير الإسهام في بناء العراق الحديث بالعمل والإبداع وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية ورفع مستوى المعيشة لجميع فئات المجتمع العراقي مما يحتم على الفعاليات السياسية والثقافية العراقية بما في ذلك الأحزاب أن تدفع باتجاه تطوير نظرة المجتمع العراقي نحو المستقبل بمزيد من المهارات في مجالات الحياة المختلفة.
[email protected]