اتحدت المانيا منذ اكثر من عشرين عاما ، وحدث ذلك لأول مرة في تاريخها الدموي الطويل ، بدون هدر نقطة دم واحدة ، وعلى عكس جيرانهم يفكر الألمان أكثر من غيرهم بالمستقبل ، تاركين مهمة اجترار الأمجاد العتيدة للآخرين ، وربما للعرب والمسلمين اللذين تفوقوا على الجميع في هذا المضمار ! وحتى نفهم سيكلوجية الوحدة الألمانية فلا بد في هذا الصدد من نظرة مجهرية للتاريخ الألماني : فقد خلق بسمارك ما يسمى بالرايخ الثاني عام 1871 ، وانشأ هتلر من بعده ما يسمى الرايخ الثالث ، ويعتبر الألمان عكس ما يعتقد الكثيرون شعبا عريقا ، يعود تاريخه لألفي سنة تقريبا ، فقد بدا باجتماع القبائل الجرمانية على هدف قومي واحد، وقد احرزوا سمعة جيدة في بسالة القتال . وعكس الاعتقاد السائد ، فقد غزا الرومان هذه القبائل بغرض فرض الاستسلام عليها ، كما تميزت سلوكيات الرومان تجاههم بالنهب والتنكيل والذبح ، ولكن القبائل الألمانية واجهت هذا الغزو بمقاومة باسلة وبأساليب حضارية –ديموقراطية فريدة في اختيار زعماؤهم …ولقد واجه الشعب الألماني طوال تاريخه الدموي ، كوارث وغزوات ومآسي ، ربما كان اكبرها الحرب الالمانية –السويدية عام 1632 ن والتي امتدت لأربعة عشر عاما ن مما ادى لتدني عدد السكان من 21 مليونا الى 13 مليونا فقط ، وقد تركت هذه الحرب الطويلة جرحا عميقا في الذاكرة الألمانية ، وخلفت مجاعات وكوارث وحرائق اهلكت قرى بكاملها !
لقد مورس ضد الشعب الألماني قمع منتظم ، حتى ان احد الكتاب قد سمى الامة الألمانية “بالامة المضطهدة ” ، لأنهم لم يمنحوا فرصة التنوير والحرية السياسية ، اسوة بالشعوب الاوروبية الاخرى ، وربما ينطبق نفس الوضع ” بشكل ما ” على شعوب الامة العربية (مع تكالب الاستعمار بوجوهه القديمة والحديثة )ومع اختلاف التفاصيل وأهمها عشق العرب والمسلمين للماضي ورغبتهم المستميتة باعادة احيائه ولو بشكل “دموي” مشوه ! كما أن المانيا عانت من حروب أهلية متقطعة (كما تعاني دول ما يسمى الربيع العربي واضف لها العراق بتاثير الاحتلال الأمريكي ) ، استمرت ثلاثة قرون ، واخيرا ، وبعد عشرين عاما من المهارة السياسية الفائقة ، تمكن بسمارك من المحافظة على السلام في اوروبا ، ولقد كانت الأمبرطورية الألمانية حينئذ ، متقدمة نسبيا ، حتى أنها اعطت مثالا متميزا لأول نظام امني اجتماعي في اوروبا .
كان “هتلر” خطأ تاريخيا ، ولم ينتم حقيقة للتاريخ الألماني ، لذا فقد انتهت ظاهرته الى غير رجعة ، هكذا قال الفيلسوف ” ارنست كاسبير “، ولقد كان المؤرخ جوردون كريغ بليغا جدا ، عندما لخص التاريخ اللماني كما يلي :” رحلة طويلة بطيئة من الاحباط ن باتجاه الحرية والتنوير ، بدأت بالنهضة السياسية ، وهزمت ، واعادت الكرة ثانية ، وهزمت بعد ان تحررت من فرنسا ، وهزمت مرة ثالثة من الداخل عام 1870 ، واخيرا ، منحت الفرصة الخيرة بعد دمارها المريع عام 1945 ” ! وربما تتشابه لحد بعيد مع الاحباطات والانتكاسات المريعة التي واجهتها الامة العربية بعد تحررها من الاستعمار وخاصة مع عدوانية اسرائيل الغاشمة ، ولكن مع غياب كبير للقادة التاريخيين (الا فيما ندر) ، وتغول مفاهيم التفرقة والاقليمية والجهوية ، وأخيرا بطغيان الطائفية ومفاهيم التكفير والاقصاء واحتقار الآخرين ، وفقدان البوصلة التاريخية والتخبط ، مما جعلنا كعرب نعادي بعضنا البعض لمصلحة الأعداء التاريخيين وبشكل غبي وغير مسبوق ، وربما يصنفنا المؤرخون مستقبلا كشعوب فريدة ” كارهة لنفسها ” ” وتستجدي الاستعمار الجديد لكي يعيد احتلالها وتقسيمها ” ! كما انها تبدو فاقدة لوعيها الحضاري الانساني تماما ومستلبة من قبل الفقه الديني المشوه ، الذي انحرف عن جادة العقل والمنطق والصواب ، واتجه تجاه ظلامية “دينية-طائفية- تكفيرية” غير مسبوقة ، ناهيك عن تجار العقائد والأديان والأيدولوجيات الوضعية اللذين خلطوا مصالحهم وعشقهم المستميت للجاه والثراء والسلطان بادعاء رغبات معلنة بالاصلاح والمصلحة العامة ، فخلطوا الحابل بالنابل ، وجروا وراءهم عامة الشعب والدهماء وكأنهم في حالة غيبوبة وتنويم مغناطيسي !
ان السؤال الذي ما زال يحير المحللين السياسيين هو فيما اذا كانت الحرب العالمية الثانية حتمية تاريخية ونتيجة منطقية للانهيار الاقتصادي الذي عم العالم الصناعي في ثلاثينات القرن الماضي ؟ ومهما كانت اسباب هذه الحرب المدمرة ،فهي لم تتشابه مع اسباب الحرب الكونية الاولى ، التي كانت “عبثية” بكافة المعايير ، والتي كانت تعبيرا واضحا عن ” الغباء السياسي الدولي ” في حينها !
يعتبر بعض المؤرخين ان الوحدة الألمانية هي الهدية النادرة ، التي قدمت للشعب الألماني مكافأة له لمعاناته التاريخية طوال العصور ، ولكن آخرين ما زالوا يعتبرونها خطرا على العالم ، وعلى المانيا نفسها ، ومنهم الأديب الألماني الشهير “جونترغراس” الذي قال ” لدينا كل الأسباب للخوف من انفسنا اذا اتحدنا !” ، بينما يرى آخرون أن الوحدة الألمانية كانت نتيجة منطقية للتغيرات العالمية التي انتهت بالبيروسترويكا ، وبانهيار الاتحاد السوفيتي وما يسمى اصطلاحا بالحرب الباردة ، ولكن للحق فقد أثبت العقدان الفائتان أن المانيا الموحدة لم تتحول لخطر على العالم بقدر ما اصبحت رهينة كاملة لأهواء السياسات الأمريكية- الغربية وحتى الاسرائيلية ، فشاركت عكس المتوقع ولو بشكل رمزي بكل حروب امريكا العدوانية ، وامتثالا لعقدة “الشعور بالذنب” الهائلة تجاه اليهود فقد زودت اسرائيل ( الدولة المعتدية الغاشمة) بالتعويضات المالية الهائلة وبالأسلحة النوعية الفتاكة ( ومنها الغواصات النووية ) ، كما أنها مارست سياسات عدوانية غير مفهومة تجاه حق الشعب العربي الفلسطيني ودعمت القمع الاسرائيلي الممنهج ضده بلا أي وازع اخلاقي –ضميري، ناهيك عن الدور الخفي المشبوه الذي تلعبه مخابراتها ضد ما يسمى دول الممانعة العربية وحزب الله وايران ، وكان المتوقع ان تحاول ان تحاول أن تميل (نوعا ما) للحياد “كسويسرا والنمسا” ، ولكنها آثرت ان تنجر وراء أمريكا كما اليابان ! وللحقيقة فقد نجحت كل من المانيا واليابان بضرب مثال عالمي لقوة الارادة والتنظيم والانضباط وعشق العمل والنجاح والرغبة بصناعة المستقبل ، فخرجتا من انقاض الحرب العالمية الثانية لتصبحا نموذجا عالميا فربدا للصناعة والجودة والازدهار الاقتصادي الشامل والقوة المالية (الفائضة) القادرة على دعم الدول الاخرى …
ولعبت المانيا دورا محوريا في الاتحاد الاوروبي ، حيث كانت “المانيا الموحدة” هي القوة الديناميكية القادرة على دفع عملية الوحدة الاوروبية للأمام ، كما نجحت بتمويل الدول المنهارة ماليا كاسبانيا واليونان نظرا لقوتها الاقتصادية-المالية ، وقد كان هلموت كول مستبصرا للتاريخ عندما قال : كيف نواجه تحديات العالم الثالث في المستقبل ، اذا لم يقف الأمريكي والياباني والألماني معا لمواجهة هذا التحدي ؟ وربما ادخل “أمريكا” كنوع من الحذلقة الكلامية والنفاق ، حيث لم يثبت ان أمريكا كدولة عظمى قد اهتمت يوما ما بتنمية وتطوير العالم الثالث بعيدا عن اجنداتها السياسية ورغباتها بالهيمنة والنفوذ ! ولكنه كان مواربا ومناورا عندما قال : ” تقف السياسة الألمانية على عمودين : العمود الألماني- الأمريكي والعمود الألماني- الفرنسي” ، وربما كان صادقا فقد ثبت ذلك واقعيا مع ارتهان كامل للسياسات الأمريكية العدوانية بلا ادنى مساءلة واستقلالية ! وعكس التوقعات فلم تستعر صراعات الشمال –جنوب كما كان متوقعا ، وظهرت بجانب امريكا ودول المجموعة الاوروبية واليابان ومجموعة النمور الأسيويين ، مجموعة تحالف “دول البريكس”، والتي قد تتحول قريبا الى عملاق اقتصادي منافس (وربما سياسي …) وبوجود اقتصاديات ناجحة عملاقة كروسيا والصين واخرى واعدة كالهند والبرازيل وجنوب افريقيا …
وبغض النظر عن السياسات الألمانية المتحيزة ، فاني اراهن على ان المانيا الموحدة ستبقى تمد يد العون لشعوب دول “الجنوب” الناشئة والمتخلفة والواعدة في مجالات التنمية الصناعية والبيئة والتعليم والمياه والطاقة بانواعها ، كما ثبت ذلك في حقيقة الأمر…لنمجد الارادة المستقلة للشعوب جميعا بعيدا عن “رائحة السياسة” التي تزكم الانوف ، ثم دعونا نتعلم من تجربة الوحدة الألمانية ، ونستنتج ان الشعوب التي تتمتع بقوة روحية كبيرة ( كما الشعوب العربية أيضا) لا يمكن ان تهزم ، ان شعبا يعشق العمل ، ويهدف الى النجاح والتميز ، لا يمكن ان يهزم … ان شعبا لا يحتفل الا بعد ان ينجز ويحقق المعجزات ، وخاصة مع تميز جودة الصناعة الألمانية عبر العالم ، يستحق التحرر والوحدة … فالشعوب العظيمة لا يمكن ان تذوب مهما ألمت بها المحن والنكبات والاخفاقات والتاثيرات ، ودعونا نأمل ان تخرج الشعوب العربية أخيرا من محنتها الى آفاق المجد والحضارة والمستقبل !
كاتب وباحث
[email protected]