18 ديسمبر، 2024 6:29 م

الوجودية الإسلامية في ميزان التقييم ح2 الوجودية المؤمنة والوجودية الملحدة

الوجودية الإسلامية في ميزان التقييم ح2 الوجودية المؤمنة والوجودية الملحدة

تعرفنا في المقال السابق على شيء من تاريخ الوجودية وبداية ظهورها ومفكريها، وعرفنا من المقالة السابقة إن هناك وجودية مؤمنة-مسيحية في الغالب وهناك من يقول بوجود وجودية يهودية، وسنعرف لاحقاً بوجود من طرح وجودية إسلامية ولأجل ذلك كتبنا سلسلة المقالات- ووجودية ملحدة، وهناك من قال بوجود ما بينهما.
الوجودية المؤمنة بصيغتها المسيحية يمثلها الدنماركي سورين كيركغارد وهو كما عرفنا سابقاً الأب الحقيقي للوجودية –إذ لم يكن حينها للوجودية الملحدة أي وجود- وفي القرن العشرين يعد الفرنسي غابرييل مارسيل الممثل للوجودية المسيحية وأبرز مفكريها وهو معاصر لجان بول سارتر.
أما بصيغتها اليهودية   فيمثلها اللاهوتي والفيلسوف النمساوي مارتن بوبر كما في كتابه “انا وأنت” ، و زميله  فرانز روزنزويج ، وهانس جوناس وآخرون، وتناولت مواضيع متنوعة منها ثيوديسيا أو مشكلة الشر.
وبصيغتها الإسلامية فسنبحثها في مقال مستقل وهو هدف سلسلة المقالات كما قلنا سابقاً.
الوجودية الملحدة بدأت تدريجياً مع الألماني نيشته وبرزت عند الألماني أيضاً مارتن هايدغر ووصلت ذروتها عند الفرنسي جان بول سارتر وزميله الفرنسي أيضاً ألبير كامو وآخرين في منتصف القرن العشرين، حتى أصبحت هي الصورة المتداولة للوجودية وغطت على باقي الصور مما أضطر الوجودي المسيحي البارز غابرييل مارسيل إلى استخدام مصطلح “فلسفة الوجود” للتهرب من هذا التعميم.
الفرق الرئيسي بين الوجودية المؤمنة(الدينية) بصورتها المسيحية والوجودية الملحدة هو الموقف من القول بوجود إله من عدمه، فالوجودية المؤمنة تنطلق من ذلك، وترى وفقاً لرؤية كيركيغارد مثلاً إن الكون متناقض وإن أعظم التناقضات فيه هو الاتحاد بين الله والبشر في شخص يسوع المسيح، وتقول بوجود علاقة شخصية مع الله تحل محل جميع الأخلاقيات المقررة والأعراف الاجتماعية، وتقول بالمعادلة أو التساوي بين الله والحب، وإنه عندما  يمارس الفرد فعل الحب فإنه يحقق جانب من جوانبه الإلهية في الواقع.
انطلقت الوجودية المسيحية من القول بانحراف المسيحية الحالية عن المسيحية في القرون المبكرة وطرحت البديل بهذه الصورة الممزوجة بالصوفية التشاؤمية، وكرد فعل على الإغراق في العقلانية في فلسفة هيجل، ويمكن إن القول إنها في جزء منه رد فعل على تبني اللاهوتية الليبرالية.
أما الوجودية الملحدة فتنطلق في كل مواقفها من رفض فكرة المتعالي(الإله) والبعد الميتافيزيقي والمعتقدات الدينية من حساباتها.
رغم إصرار مفكري الوجودية أو فلاسفتها أو أدباءها أو سمهم ما شئت على إن الوجودية تجربة شخصية وبالتالي فلا يمكن أن تحكم بأسس وثوابت إلا إن تتبع أفكارهم سواء من كان يمثل الوجودية المؤمنة أو الدينية منهم أو الوجودية الملحدة يمكن الخروج بالثوابت التالية من مصادر عدة بتصرف مع الملاحظات:
1-إن الوجود يسبق الماهية، فماهية الكائن كما هو ما يحققه فعلاً عن طريق وجوده، ولهذا هو يوجد أولاً ثم تتحدد ماهيته ابتداءً من وجوده.
وقد عد سارتر إن القول بأسبقية الماهية من جملة أخطاء التفكير الديني وضرب أمثلة لذلك، والحال إن التفكير الديني –ممثلاً بالفكر الشيعي-قد تجاوز تفكير سارتر بمراحل مع السبق الزمني الكبير-بحدود ثلاثة قرون- حيث بحث الأصالة ولم يبحث الأسبقية ووصل للقول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية.
 
2- هم يجعلون من الوجود المركز الأساسي الذي تدور حوله أبحاثهم. وبرأيهم إن الإنسان هو وحده الذي يحتوي على الوجود، وأنه هو عين وجوده. وإذا كان للإنسان من ماهية، فأن ماهيته هي وجوده أو هي حصيلة وجوده.
 
3-الوجود متناه، وسر التناهي فيه هو دخول الزمان في تركيبه.

4-العدم عنصر جوهري أصيل يدخل في مقومات الوجود ويكشف عن نفسه في حال القلق، التي هي الحال الوجودية في الطراز الأول.

5-الإنسان حر يختار ، وفي اختياره يقرر نقصانه ، لأنه لا يملك تحقيق الممكنات كلها، ويعتبرون الإنسان ذاتية محضة، وتتخذ الذاتية عند الوجوديين دلالة إبداعية، فالإنسان هو وحده الذي يخلق ذاته بمطلق حريته، لأنه لا فرق عندهم بين الإنسان وحريته.
ولنفهم ما يقصدونه بالحرية-خاصة في الوجودية الملحدة- نقرأ ما كتبه سارتر في روايته “الذباب”  حول عدم وجود سلطة أو قواعد مفروضة على الرجل في أي نوع من أنواع السلوك ويقول نصاً على لسان أورست مخاطباً جوبتير “وليس شيء في السماء ، خير مطلق ، أو شخص من الأشخاص، قادراً على توجيه الأوامر إلي، ذلك لأنني إنسان، ياجوبتير، وعلى كل إنسان أن يخلق طريقه”.
 
6-الذات الوجودية تسعى بين الإمكان –وهو الوجود الماهوي- وبين الواقع وهو الوجود في العالم، والذات تعلو على نفسها بأن تنتقل من الممكن إلى الواقع فتحقق ما ينطوي عليه، وهي بذلك تخاطر لأنها معرضة للنجاح والاخفاق ومن المخاطرة يولد التصميم.
7-اللحظات العليا للوجود هي التي يكون فيها الوجود مهدداً في كيانه الأصيل مثل لحظات الموت أو الخطيئة أوغيرها.
8-التركيز على الشعور والعاطفة والوجدان فالفيلسوف الوجودي يفكر بانفعال عاطفي، والعقل في رأيهم لا يوصل إلى معرفة حقيقية، وهذا ما يجعل الوجودية بنظر الكثيرين تياراً فلسفياً لا عقلانياً أو “ثورة ضد المنطق والعقل” بحسب تعبير كولن ولسون.

9-العناية بالجانب العاطفي للإنسان-وعده البعض أحد أسباب انتشارها-في قبال تهميش الفلسفات السابقة لهذا الجانب، وقد بحث الوجوديون جوانب إنسانية كالقلق والملل والغثيان والاغتراب والخطيئة وقرروا إنها ذات مغزى فلسفي.

10-الانطلاق من تجارب شخصية أو حياتية يسمونها التجربة الوجودية وأنها تتخذ طابعاً خاصاً عند كل واحد من هؤلاء الفلاسفة. فهي تعني عند ياسبرز الإحساس إحساساً مرهفاً بمدى ميوعة وهشاشة الوجود الإنساني. وتعني عند هايدجر المعنى نحو الموت، وعند سارتر الإحساس بالغثيان والتقزز.
11-الإنسان عندهم ليس كائناً انفرادياً ولا منغلقاً على نفسه بل هناك صلة مزدوجة بين الأنا والغير واتخذت هذه الصلة تسميات مختلفة عندهم فهي عند هايدجر الوجود مع الاخرين وعند ياسبرز الاتصال وعند مارسيل اقتحام وجود الأنت.
12-التشاؤمية والعبث إلا عند كولن ولسون اتخذت طابعاً مختلفاً بعض الشيء لذا عده البعض صاحب تجربة وجودية منفردة رغم الاشتراكات أسموها الوجودية الجديدة أو الولسونية.

من هذه المشتركات يمكننا تفهم المآخذ على الوجودية-من كتاب الوجودية والوجوديون للاوند بتصرف- والتي عد منها البعض:

1-الدعوة إلى الخمول، واليأس.
2- تقوية الروح الفردية الحالمة، التي تبتعد عن المجتمع ومشاكله الراهنة، وتقنعه بالهرب من تلك المشاكل.
3- استحالة تحقيق أي إنتاج ذي طابع اجتماعي عام في ظل أجواء الإيمان بالوجودية.

4-اكتفاء الوجودية بتصوير مظاهر الحياة الحقيرة: من جبن وفسق وضعف وميوعة، ونسيانها مظاهر الحياة الآملة القوية التي تؤمن بمستقبل عظيم.
5-لا تؤمن الوجودية بالتعاون الاجتماعي.
6-تنكر الوجودية-في صورتها الملحدة وهي الصورة الغالبة- لفكرة الله، وتنكرها للقيم الالهية، وإعطائها-في صورتها المؤمنة-تصورات غير واقعية وغير مجدية فردياً واجتماعياً عن العلاقة مع الله والقيم الإلهية.
7-الوجودية أداة للتفسخ الاجتماعي لأنها تحول دون أن يصدر أي من الناس حكماً على تصرفات الآخرين، بحيث يكون كل فرد عالماً قائماً بذاته في مجتمع يحتاج إلى التعاون، والانضواء الجماعي والمسؤولية المشتركة المتبادلة.
وغير ذلك من المؤاخذات مما حدا ببعض الوجوديين إلى الرد في كتابات متنوعة على تلك المؤاخذات ومنهم سارتر نفسه ولكن كانت ردودهم غير منسجمة مع ما يطرحون في الغالب، ومما حدا ببعض الوجوديين ككولن ولسون-البريطاني-على سبيل المثال إلى أن ينحى منحى مختلف بعض الشيء ليخرج بصورة مقبولة-بحسب تصوره- عن الوجودية خارج إطار بلدان المولد لها أي فرنسا وألمانيا.
هذه-باختصار شديد- صورة الوجودية المؤمنة والوجودية الملحدة والمشتركات والفروقات، لعلنا نكون قد وفقنا في بيانها.