-1-
الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر –رضوان الله عليه – حطّم حواجز الزمان والمكان ، واستقرّ في وجدان الأمة ، وعقول المفكرين في شتى أرجاء العالم …
وتوّج فتوحاته العلمية والاخلاقية والانسانية والسياسية بالشهادة، على يد أشقى طواغيت العصر وأكثرهم وحشية وشراسة وتنكراً للقيم والمقدسات
وشاء الله أنْ يسقط الصنم في 9/4/2003، وهو اليوم الذي تم فيه اغتيال المرجع الاسلامي الكبير اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر وشقيقته العالمة المجاهدة امنة الصدر في 9/4/1980
لقد تمت ترجمة بعض مؤلفاته الى اللغة اليابانية فضلاً عن اللغات الاجنبية الحيّة كالانكليزية والفرنسية …
الأمر الذي يكشف عن الاهتمام العالمي بفكره وآثاره .
انّ ” جامعة موسكو ” عمدت الى إقامة نصب تذكاري للامام الشهيد الصدر، اعترافا منها بمكانته العلمية المتميزة وريادته الحضارية الكبرى..
ولعلها المرّة الأولى في تاريخ المرجعيات الدينية الكبرى، أنْ يتم العكوف على تداول النظرات والنظريات المطروحة من قبل شخصية دينية عملاقة من قبل الجامعات العالمية وكبار الاكاديميين والباحثين في مختلف الاقطار .
نعم انه “الصدر” المرجع، والمفكر، والمجدد، وصاحب الابتكارات الفريدة، فكيف يبقى محصوراً في نطاق الحوزات العلمية ؟!
لقد كان اغتيال الامام الشهيد الصدر جريمةً بحق الانسانية والعلم والحضارة، كما كان جريمة بحق الدين والامة الاسلامية بأسرها .
انه النسخة الفريدة التي لم تتكرر ،
وانّه النبع الصافي الذي تدّفق بالرواء والعطاء فأثرى وأغنى وأبدع .
لقد قلتُ في احدى قصائدي في رثائه :
إنْ راحَ يَخْطِفُك الباغونَ في جسدٍ
فانَّ نهجَكَ باقٍ ليس يُختطف
نعم ان الطغاة لن يستطيعوا الاّ ان يغيّبوا الأجساد، أما المناقب والمآثر والمواهب فانها لن تموت :
اذا ما اختفى جسدٌ في التراب
فانّ المناقب لا تختفي
-2-
إنّ هذه المقالة الوجيزة ليست مكرّسة للحديث التفصيلي عن الجانب العلمي للامام الشهيد الصدر ، انما هي محاولة لاعطاء لمحة سريعة عن مروءاتِهِ وانسانيتِه العالية التي جاءت متناغمةً مع سائر أبعاد العظمة الاخرى في شخصيته الفذّة .
وسأسرد بعض الوقائع واستلها من ملف ضخم لا يضم الا الباهر الناصع من المواقف والمآثر .
-3-
قال تعالى :
{ ان الله يأمر بالعدل والاحسان }
وعلى هذا فان الاحسان هو المعادل الموضوعي للعدل .
ومن أروع التطبيقات العلمية التي شهدتها في هذا المضمار هي انّ الامام الشهيد الصدر – قدس سره – كان قد ترافع أمامه رجلان :
أحدهما من مقلديه ومريديه ،
والثاني : لم يكن كذلك ،
فأصدر حُكمه على ” المُحِبِّ ” وفقا لمقتضى العدل :
وقد ألزمه بدفع مبلغ كبير من المال لخصمه .
وجاءني هذا ” المحكوم عليه ” بدفع المال ، حاملاً رسالة من سماحة السيد الامام الصدر طيب الله ثراه، يوضح فيها القضية ويأمرني أن أتصل برجل – من مقلديه أيضا، وهو محام كبير معروف بالثراء – بغية الحصول على دُفعةٍ من المال ، تُمكّن حامل الرسالة من الايفاء بالتزامه..!!
وهذا هو الاحسان بعينه .
لقد امتزج العدل والاحسان في هذه القضية بنحو جعلها صالحة لان تكون المثال البارز في هذا الباب .
لا محاباة وانحياز لأحد حتى إنْ كان من المحبين المريدين .
لكنّ هذه الصرامة في الحق لا تعني التخلي عن تقديم العون والمساعدة متى كانت الحاجة اليها قائمة .
هذا التوازن بين العدل والاحسان قلّ أنْ تلقى له عشّاقا في المسارات الحياتية – للاسف الشديد – .
وفي موقف الامام الشهيد الصدر درس بليغ يمكن انْ تكون له ثمارُه الكبيرة في حياتنا العلمية .
إنّ بعض الذين يدّعون الانتساب الى مدرسة الامام الشهيد الصدر (رض) آثروا الانحياز لأحبابهم على حساب القيم الموضوعية والشرعية .. انحازوا لهم رغم تجاوزهم الصريحة للخطوط الحمراء ، وهم بذلك يعلنون عن انفصالهم العمليّ عن خطه ونهجه ومواقفه بالرغم من كثرة تشدقاتهم وثرثرتهم الممجوجة ..!!
-4-
نقل لي الأخ العزيز السيد (كريم المؤمن) –قبل اسابيع- عن احد السادة الأجلاء من “آل الخرسان” في النجف الاشرف :
ان رجلاً خليجيا من مقلدي السيد الامام الشهيد الصدر – تربطه علاقة خاصة بالسيد الخرسان – قَدِمَ الى النجف الاشرف وعرض على السيد رغبتَهُ في شراء بيتٍ له، والكل يعلم ان السيد الشهيد الصدر لم يكن يملك داراً لسكنه – فما كان من السيد الامام الشهيد الصدر الاّ ان قال له :
اني سوف اشتري بهذا المبلغ بيوتاً للطلبة …
انه (رض) يرفض العرض مواساةً منه للمئات من طلاب العلم الذين لا يملكون بيوتا لسكناهم، نكرانا لذاته، وعرفانا بأهمية الايثار حيث قدّمهم على نفسه …
اننا اليوم في وقت طغت فيه “الانانية” على سائر الصفات، ولم يكتف الكثير من السلطويون – اصحاب الادعاءات العريضة – بأفخم القصور والمساكن، بل راحوا يتسابقون في مضمار اصطياد المال العام بشتى الحيل والاساليب دونما وازع أو رادع ..!!
اين انتم من “الصدر ” الخالد في زهده وورعه وايثاره ونكران ذاته ؟
انه ركل الدنيا بقدميه واختار منازلة الطغاة بكل بسالة دفاعا عن الدين والشعب والوطن ، فحملته المبادئ التي ضحى من اجلها الى قمم المجد والخلود .
لم يبلغ الخمسين لكنْ بات في قلبِ الزمان يُطاول الأعمارا
فبناصعٍ من فِكْرِهِ وبساطعٍ مِنْ هَدْيِهِ تَرِكَ العقولَ حيارى