22 ديسمبر، 2024 8:12 م

الوجه الآخر لكوردستان

الوجه الآخر لكوردستان

في 19 آب الماضي دخل اقليم كوردستان العراق مرحلة سياسية جديدة بعد انتهاء ولاية الرئيس البارزاني الثانية وماتبعها من رفض قوى المعارضة الكوردية ترشحه لولاية ثالثة (يترك لصندوق الاقتراع المباشر أمر حسمها من عدمه) وهو ماولد فراغ دستوري وخلق أزمة سياسية واشكالية قانونية تعد الأخطر على مستقبل الاقليم “شبه المستقل” منذ تسعينات القرن الماضي في ظل ظروف محلية واقليمية ودولية حرجة يخوض فيها الأكراد حربا ضد الارهاب وسط تكهنات باعادة رسم لخريطة المنطقة وهو ماقد يسمح لهم أخيرا بميلاد دولتهم المنتظرة .

فمنذ الغزو الأمريكي للعراق بدا الاقليم الكوردي بمثابة الواحة الخضراء والحلم الوردي لكثير من العراقيين لما شهده من نهوض اقتصادي واستقرار سياسي ناهيك عن استتباب الوضع الأمني ، فقد صبت ظروف “العراق العربي” السيئة سياسيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا في مصلحة الاقليم الذي وحدت قواه السياسية مواقفها استثمارا منها لهذه اللحظة التاريخية ، تلك الوحدة كانت مبنية في الأساس على اتفاق تقاسم السلطة الموقع عام 1999 برعاية أمريكية والذي أمتد نطاقه ليحصر الحصة الكوردية من الحكومة الاتحادية في بغداد بالحزبين طرفي الاتفاق ، غير ان تلك المحاصصة قد ساهمت في ارتفاع نسبة الفساد الاداري والمالي وتفشي البطالة وهو ما أسهم بظهور حركة كوران على الساحة السياسية عام 2009 بدعم ملفت من الشباب الباحث عن التغيير وأخيرا جاء تعذر دفع رواتب الموظفين من قبل حكومة المركز كالقشة التي قصمت ظهر البعير لتمثل هذه العوامل الطارئة على المشهد الكوردي تهديدا لوضعا قد يبدو مثاليا للسيد البارزاني حيث غدت عاصمته أربيل مركز جذب اقتصادي وتجمع سياحي معززا قبضته على الاقليم خصوصا بعد مرض الرئيس

السابق المام جلال كما تمكن من السيطرة على كركوك و وارداتها النفطية ليقترب أكثر من حلم الدولة والتي لطالما لوح بخيارها لانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات الحكومية.

ان الأزمة الكوردية الحالية تعكس خلافا حادا بين وجهتي نظر بخصوص مستقبل الاقليم السياسي أولها تميل لنظام رئاسي يتسم بالمركزية وربما الشمولية بشكل تدريجي يؤكد مجد العائلة ويرسخ حكم الفرد الواحد والتاريخ يحكي لنا عن عوائل قادت أممها لترسيخ قيادتها لها في المقام الأول على غرار الأسرة السنوسية في ليبيا .

ومن هنا يفهم مانطالعه ونقرأه من تصريحات المحسوبين على هذا الاتجاه والتي تجعل الولاء للفرد معيار للوطنية ومقياسا للانتماء فيما يبدو الرأي المخالف أقرب للعمالة والخيانة بل هو كذلك فعلا وبالتالي يمكننا فهم ردة الفعل العنيفة التي تعرض لها رئيس برلمان اقليم كوردستان ووزراء ونواب حركة التغيير والتي وصلت لطردهم من العاصمة والحكومة معا !!!

أما وجهة النظر الثانية القائلة بالنظام البرلماني لضمان تداول السلطة أو باستعادة نظام الادارتين كحد أدنى للحيلولة دون الانفراد بالحكم من طرف واحد (كأحد الحلول المقترحة للخروج من الأزمة الراهنة) فتمثلها حركة التغيير والتي كان شعارها محاربة الفساد والوقوف بوجه المحاصصة الحزبية فقد وجدت الحركة الفتية نفسها بعد انتخابات عام 2013 التاريخية في المركز الثاني خلف الحزب الديمقراطي الكوردستاني وقبل حزب الاتحاد الوطني الذي تلقى هزيمة قاسية في عقر داره (السليمانية) وهو مافرض عليها الانخراط في المحاصصة كأمر واقع لتجد نفسها في مواجهة حكم العائلة المترسخ منذ أمد طويل وهو ماولد الصراع القائم اليوم والذي ان كان له دوافع اقتصادية واجتماعية بالنسبة للشباب والموظفين والمواطنين فانه ذو خلفية سياسية عنوانها السلطة بالنسبة للأحزاب الكوردية مجتمعة .

السيناريو الكوردي يحمل في طياته أوجه شبه عديدة مع تجربة العملية السياسية العراقية والتي مثل عام 2010 لحظة فارقة فيها حاملة معها عودة السنة وبقوة للمشهد السياسي من بوابة القائمة العراقية والتي اصطدمت بمحاصصة شيعية – كوردية مسبقة سرعان ماشكلت ثالثها ليبدأ الصراع الذي لم تخمد نيرانه ليومنا هذا مثيرا في الوقت نفسه ذات التساؤل هل يكون العراق وكوردستان أفضل بنظام رئاسي يحقق الأمن ويهدر الحريات ويعيد القائد الضرورة في دولة مركزية بوليسية أم ان المحاصصة العقيمة اقتصاديا وتنمويا والمتلونة بلون التعددية السياسية مع هامش بسيط من الحرية وفقدان تام للأمن وزوال للاستقرار هي الخيار الأفضل للعرب والكورد العراقيين معا ؟ مع تجاهل واضح لحقيقة ان الخلل في العراق يكمن في نوعية الطبقة السياسية لا نوع النظام السياسي .

اجابة هذا السؤال لم يعد حقيقة في يد العراقيين فهناك من يخطط اقليميا ودوليا ليحصد حصاده على أرض العراق وفي الحالة الكوردية تبدو ايران واحدة من أكثر المستفيدين من صراع كوردي داخلي يساهم في لجم

طموحات البارزاني الانفصالية ودرء خطر مواقفه الداعمة لأكراد سوريا في الوقت الذي تترقب فيه تركيا بحذر تفاصيل المشهد الكوردي العراقي في غمرة صراعها ضد مسلحي حزب العمال الكوردستاني والذي تدور جزء من مواجهاته العسكرية في جغرافيا الاقليم بينما تظهر الولايات المتحدة بمظهر الساعي للتهدئة لضمان سير الأمور وفق ماتقتضيه مصالحها المبنية على أمن كوردستان وحماية أراضيها .

المهم حقا ان هذه الأزمة قد كشفت للكثيرين عن الوجه الأخر لاقليم كوردستان العراق لكن الأهم فعلا انها أعطت مؤشرات سلبية قوية حول مستقبل مشروع الدولة الكوردية !! ففي ظل الصراع على السلطة لن يختلف مصيرها كثيرا عن مصير جمهورية مهاباد أو دولة جنوب السودان على أقل تقدير حتى في حالة البقاء ضمن عراق فيدرالي وستكون الأيام القادمة كفيلة ببيان اجابة سؤال محوري وهو هل سيضحي الفرد بطموحاته الشخصية وأمجاد أسلافه الكبار لصالح مستقبل البلاد ومصلحة العباد أم سيقودهما الى الجحيم معه كماجرت العادة في هذا الشرق الكئيب .