صدق الثائر الفرنسي الشهير جورج جاك دانتون عندما قال وهو أمام مقصلة الإعدام: (الثورة تأكل أبنائها).. مستكملاً المثل الفرنسي القائل: (من السهل أن تبتدئ الثورات.. لكن من الصعب أن تنهيها بسلام).
بالطبع ثورة 14 تموز 1958 في العراق ليست استثناءً في تاريخ الثورات التي شهدها تاريخ العالم القديم والحديث والمعاصر.. فهي ككل الثورات التي مرت عبر التاريخ لم تخلِ من الدم والفوضى والخلافات ما بين الثوار.. وابتدأت بين قائدي الثورة.. ولم تتوقف إلا بالقضاء على الثورة ومؤيديها.. وتصفية معظم الضباط الأحرار.. (تحت يافطة التآمر.. أو خيانة الثورة).
الثورة.. التي سمع بها الثوار من الإذاعة:
قبل الثورة حاول كل من الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف استبعاد رفاقهم في اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار من المشاركة بها.. أو حتى معرفتهم بموعد الثورة.. فلم يبلغوا أحداً منهم.. على أساس خوفاً من انكشافها.. وبالتالي مباغتة النظام الملكي.. وقد أفلحا في ذلك.. فحتى ناجي طالب نائب رئيس اللجنة العليا لتنظيم الضباط الأحرار (أي نائب عبد الكريم قاسم).. تفاجأ بقيام الثورة وإذاعة اسمه من إذاعة بغداد.. وزيراً للعمل في حكومة الثورة.
ومنذ الساعات الأولى للثورة.. بدأت حياكة المؤامرات ضد الثورة.. ليس من قبل أعدائها.. بل من قبل (الثوار).. وقادة وكبار الضباط الأحرار.
لقد أعلن الزعيم عبد الكريم قاسم في 4 شباط 1963 (أي قبل سقوط نظامه بأربعة أيام) انه نجا من (38) محاولة لاغتياله.. واستطعتُ (أنا كاتب هذه الدراسة) من تثبيت 27 محاولة اغتيال له وبشكل تفصيلي وموثقة في كتاب أصدرته العام 1990 بعنوان.. (محاولات القضاء على عبد الكريم قاسم).
ـ كانت معظم تلك المحاولات يقودها أو يشارك بها قادة من الضباط الأحرار.. من رفاق عبد الكريم قاسم.. معظمهم كانوا يشعرون إنهم غبنوا ولم يحصلوا على مناصب رفيعة أو عليا بعد الثورة.. ومعظمهم اتخذوا من التوجه القومي أو الإسلامي منطلقاً لمحاولاتهم الانقلابية.
البداية.. خلافات على توزيع المناصب:
ـ منذ الساعات الأولى لقيام ثورة14 تموز 1958بدأ كل الضباط الأحرار بالتنافس على المناصب.. وبدأت الخلافات تحت يافطة (تشكيل مجلس قيادة الثورة).. وبدأ الاصطفاف بين ضباط أحرار خرجوا من المولد بلا حمص.. أو بمناصب ليست بمستواهم كما يعتقدون.. وبين قائدي الثورة الذين رفضا بشدة تشكيل مجلس قيادة الثورة.
ومنذ الساعات الأولى للثورة أيضاً بدأت الخلافات بين قائدي الثورة (عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف).. حتى وصلت الى الصراخ بينهما في الاجتماعات الأولى لمجلس الوزراء.. وأخذ كل منهما يحاول التخلص من الأخر.
ومنذ الساعات الأولى للثورة تخندقت الأحزاب الوطنية الكبرى بخندقين.. خندق الى جانب قاسم.. يقوده الشيوعيون والديمقراطيون.. وخندق الى جانب عارف.. يقوده البعثيون والقوميون العرب.. لتتحول البلاد الى فوضى وبركة دماء.
محاولات عبد السلام عارف لإزاحة صاحبه:
محاولة الاغتيال الأولى:
لم يمضِ شهر حتى بدأ عبد السلام عارف بمحاولة القيام بعملية عسكرية للإطاحة بعبد الكريم قاسم.. وتنصيب نفسه رئيساً للوزارة وذلك عن طريق لواء المشاة العشرين.. الذي قاده إلى ثورة 14 تموز.. وحدد عارف يوم 14 أيلول 1958 لتنفيذ العملية.. ويبدو إن الزعيم عبد الكريم قاسم وصلته معلومات عن حركة عبد السلام عارف.
واستطاع قاسم قبل ثلاثة أيام من تنفيذ الحركة المقررة أن ينتزع المبادأة من عبد السلام ويعزله بطريقة بارعة.. من دون إثارة قلاقل ..وجاء في بيان لمجلس الوزراء: (إن هذا التدبير ليس إقالةً.. وإنما ليستطيع عبد السلام عارف الانصراف لمهمات وزارته.. كوزيراً للداخلية).. حيث تضمن البيان إعفاء عبد السلام عارف من منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة.. وبالتالي إبعاده عن الجيش.. مستنداً بذلك من تذمر قادة الفرق من إن عارف اقل رتبة عسكرية منهم.. فكيف يكون نائباً عاماً لقيادة القوات المسلحة؟.
ـ بعد اسبوعين حسم عبد الكريم الأمر لصالحه.. بتوجيه ضربته القاضية لرفيق دربه.. حيث اصدر في الثلاثين من أيلول العام 1958 بياناً بإعفاء العقيد الركن عبد السلام محمد عارف من مناصبه كنائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية وكالة.. وإبعاده الى خارج العراق.. بتعينه سفيراً للجمهورية العراقية لدى جمهورية ألمانيا الاتحادية.
محاولة الاغتيال الثانية:
رفض عبد السلام الالتحاق بمنصبه الجديد.. ويقول في مذكراته: (يوم 9 /10 /1958 استدعاني قاسم فاصطحبتُ معي أخي عبد الرحمن إلى الاجتماع الذي يضم أصفياء قاسم الذين أحضرهم لإقناعي بالسفر.. لكنني أصريتُ على الرفض.. وقلتُ لهم بوضوح: إن سفري إلى بون هو جزء من خطة يريد الشيوعيون تنفيذها.. وتركتُ الاجتماع.. الذي استمر عشر ساعات.. وخرجتُ وقدمتُ استقالتي رسمياً من المنصب الذي عرضه عليً قاسم في أول تشرين الأول.. (أي سفيراً في بون).
وفي صباح يوم 11 تشرين الأول 1958 استدعاه قاسم في محاولة لإقناعه ثانية بالسفر الى بون.. وحدثت مشادة كلامية عنيفة بين الاثنين.. سحبً عبد السلام مسدسه.. لكن قاسم لمحة صدفة فسارعً نحوه ومسكً يده.. وقام كل من عبد الكريم قاسم والزعيم الركن المتقاعد فؤاد عارف (متصرف كربلاء) الذي كان حاضراً اجتماعهما.. بانتزاع المسدس من يد عبد السلام وافرغ أطلاقاته.. وحضر في ذات الوقت الزعيم الركن محي الدين عبد الحميد.. والعقيد الركن عبد الكريم الجدة.. وعلى اثر هذا الحادث عقد اجتماع موسع حضره قادة الجيش الذين أكرهوا عبد السلام على السفر لتولي منصبه الجديد.. حلاً لهذا الموقف.. فقد اتهم قاسم عارف بمحاولة قتله.. فيما برر عارف سحب مسدسه لغرض انتحاره.. لكن عارف أكد في مذكراته انه كان يهدف قتل عبد الكريم قاسم.
سافر عارف في اليوم التالي.. على أن يعود إلى بغداد بعد ثلاثة أسابيع.. وقد حضر عبد الكريم قاسم وجميع قادة الجيش إلى المطار في توديعه.. لكن عارف لم يذهب إلى بون وإنما ذهب إلى فيينا.. وعاد إلى بغداد بعد ثلاثة أسابيع.. فأصدر قاسم أمراً بحجزه.. بعد أن استدعاه إلى وزارة الدفاع ووبخه على مجيئه دون موافقته.. وفي نفس الليلة أذيع بيان من الإذاعة العراقية إلى الشعب العراقي يعلن فيه توقيف عبد السلام عارف وإحالته إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة.. وذلك لتدبيره مؤامرة لقلب نظام الحكم.. وهكذا أكلت الثورة (الرجل الثاني بها.!!
محاكمته:
أحيل عبد السلام محمد عارف إلى المحكمة العسكرية الخاصة في 9 كانون الأول 1958 ليحاكم وفق المادة (80) من قانون العقوبات البغدادي.. وعن جميع الوقائع التي قد تظهر إثناء المحاكمة وتطبيق المواد القانونية بذلك.. وفي 27 كانون الأول 1958 عقدت المحكمة جلستها السرية لمحاكمة عبد السلام عارف وقد وجهت إليه التهم التالية:
1ـ عدم ذكر اسم عبد الكريم قاسم إثناء خطاباته في المدن التي زارها عقب الثورة.
2- انحيازه إلى الفئات القومية ودعوته للوحدة العربية الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة.
3- الإعداد لانقلاب ضد عبد الكريم قاسم.
4- محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.
وبعد محاكمته وسماع شهادات الشهود ودفاع المتهم ودفاع محامي الدفاع صدر قرار الحكم في الخامس من شباط العام 1959 بالحكم بحق العقيد الركن عبد السلام محمد عارف بالإعدام شنقا حتى الموت.. وتودع الرأفة به لأمر الزعيم عبد الكريم قاسم باستعمال سلطته الواردة في المادة (80) من قانون معاقبة المتآمرين.
ـ حركة عبد الوهاب الشواف:
حضر العقيد الركن عبد الوهاب الشواف صبيحة يوم الثورة الى وزارة الدفاع.. وتحرك فوراً على بقية كبار الضباط الأحرار لفرض إقامة مجلس لقيادة الثورة.. وبعد وصول الزعيم الركن عبد الكريم قاسم إلى وزارة الدفاع إلتقاه الشواف وهنأه بالثورة.. لكن لم يطل في حديثه مطالباً بتشكيل مجلس قيادة الثورة..بعد برهة دخل عبد السلام عارف وتصافحا وتبادلا التهنئة وكرر الشواف طلبة.. فابتسم عبد السلام وقال له: سنبحث الموضوع.. لكن عبد السلام كرر أكثر من مرة: (نشكل مجلس للثورة ممن كانوا نائمين في بيوتهم مع زوجاتهم؟ ونحن نقوم بالثورة)!!
من جانبه فان الزعيم عبد الكريم أمرا بتعيين عبد الوهاب الشواف حاكماً عسكرياً عاماً للعراق.. لكن عبد السلام محمد عارف رفضً هذا التعيين بشدة.. وأصر عبد السلام محمد عارف بتعين عبد الوهاب الشواف آمرا للواء الخامس الذي مقره في مدينة الموصل.. وعلقً عبد السلام على قراره (طقه.. بطقه).. أي وحدة بوحدة.. حيث سبق للشواف أن رشح عبد السلام عارف لهذا المنصب في حالة نجاح محاولة 11 مايس 1958 الذي كان يروم تنفيذها الشواف.
الانقلاب على الزعيم:
حقد الشواف على عبد السلام عارف وعلى طروحاته القومية والإسلامية.. والتحق بعمله الجديد في الموصل.. وانحاز إلى الزعيم عبد الكريم قاسم والى الشيوعيين.. وبشكل علني لعله يحصل على منصب رفيع.. واخذ يتردد إلى وزارة الدفاع.. ويلتقي الزعيم ليذكره بنفسه وإخلاصه له.. لكن الأمور استقرت ولم تعد هناك مناصب شاغرة.. وما أن اعفي عبد السلام محمد عارف في 30 أيلول 1958 حتى حضر الشواف إلى وزارة الدفاع واخذ يلتقي قاسم ثانيةً ويحاول استمالته.. تعددت تلك اللقاءات بعد اعتقال عبد السلام عارف بتهمة محاولة اغتيال الزعيم قاسم في 5 / 11 / 1958.
وعندما وجد الشواف انه لن يكون بديلاً لعبد السلام عارف في منصبه انقلبً على عبقيه وأصبح من عتاة القوميين.. واخذ ينتقد الزعيم قاسم ويقرب القوميين إليه.. ويحارب الشيوعيين والديمقراطيين وكل من يؤيد الزعيم عبد الكريم قاسم.
وبدأ بالتخطيط لقلب نظام الحكم.. فاتصل بالضباط والمدنيين القوميين وبالزعيم ناظم الطبقجلي قائد الفرقة الثانية التي كان مقرها في كركوك.. وبالعقيد رفعت الحاج سري مدير الاستخبارات العسكرية وكالة في وزارة الدفاع.. واخذوا يخططون للإطاحة بالزعيم قاسم.. كما اخذ الشواف بالاتصال بالمسؤولين بالجمهورية العربية المتحدة.. ويرسل رسله للتنسيق والتآمر على ثورة 14 تموز.. وفعلاً قدمت مصر وزعيمها جمال عبد الناصر الدعم لحركة الشواف.. فقدمت له الإذاعة والأسلحة والأموال والدعم الإعلامي الكبير.. ووعدته بالدعم العسكري في حالة تنفيذ حركته.
ـ وضع الخطة:
كانت الخطة أن يعلن الزعيم ناظم الركن الطبقجلي قائد الفرقة الثانية (التي مقرها كركوك) الثورة يساعده العقيد الركن عبد الوهاب الشواف في الموصل.. ثم تتحرك العناصر المؤيدة لهم في بغداد وتستولي على معسكر الوشاش ومعسكر الهندسة في الرستمية.. وحامية وزارة الدفاع.. ثم تقوم العناصر القومية في وزارة الدفاع باعتقال الزعيم عبد الكريم قاسم وأنصاره.. ومطالبته بتقديم استقالته ومغادرة العراق.. فإذا رفض يقضى عليه في الحال.
في الوقت نفسه يقوم فوج المدرعات الموالي لهم باحتلال محطتي الإرسال والإذاعة.. وأجرى هؤلاء الضباط اتصالات مع البعثيين والقوميين للمشاركة في تنظيم التظاهرات للسيطرة على الشوارع.. والتصدي لأية حركة مضادة.. إضافة إلى حماية المراكز المهمة.
وفي نهاية شباط 1959 عدلت الخطة بإعلان الثورة في كركوك.. تدعمها الموصل.. تعقبها تظاهرات في بغداد تنظمها القوى القومية.. فيضطر عبد الكريم قاسم إلى إصدار الأوامر إلى الوحدات العسكرية في بغداد لتفريق التظاهرات.. فيستغل الضباط القوميين في هذه الوحدات المرتبكة لتسيطر على وحداتها.. ومن ثم تحتل المراكز الحساسة في بغداد.. وتعلن تنحية الزعيم عبد الكريم قاسم.
استعجل الشواف الأمر.. خاصة بعد أن علم بإقامة مهرجان السلام في الموصل بمناسبة حلول الربيع.. فاخذ الشواف يراجع وزارة الدفاع ويلتقي الزعيم عبد الكريم قاسم ليحثه في عدم إقامة هذا المهرجان لطبيعة المدينة المحافظة.
من جانب آخر كان الشواف يلتقي الضباط القوميين في بغداد وكركوك للإسراع في تنفيذ الحركة ضد الزعيم قاسم.. مؤكداً إن الموصل مستعدة لإطلاق الشرارة الأولى.. من جانبهم فان القادة العسكريون تأكدوا إن الشواف يريد سرقة ثورتهم.. فاخذوا بالتماطل خاصة الزعيم الطبقجلي والعقيد رفعت الحاج سري.. من جانبه استمر الشواف في خطته.
التنفيذ:
كل ذلك لم يثني الشواف من تنفيذ حركته.. ففي الساعة الثانية من بعد ظهر يوم 6 آذار 1959 بدأ مهرجان السلام أعماله في مدينة الموصل بأغاني ورقصات وإطلاق حمامات السلام وأهازيج شعبيه.. وفي الساعة الرابعة عصراً أعلن عريف الحفل انتهاء الاحتفال لرداءة الطقس.. حيث كان ذلك اليوم ممطراً بشكل كثيف.. وغرقت الشوارع بمياه الأمطار وتعطلت الحركة والنقل .
بالمقابل أعلن الشواف منع التجول في المدينة.. وفي الساعة السابعة من صباح يوم 8 آذار أذيع البيان الأول لحركة الشواف.. وكان الصوت في تلك الإذاعة مشوشاً وغير مسموع بوضوح.. ويبدو إن الإذاعة سمعت بعد الظهر في بغداد والمحافظات الأخرى.
المهم أخذت إذاعات القاهرة ودمشق وإذاعة صوت العرب بإذاعة بيانات الشواف والتكبير للثورة.. ودعوة المواطنين لتأييدها.. وكانت البيانات تذاع باسم (زعيم الثورة) العقيد الركن عبد الوهاب الشواف.
لم تلق حركة الشواف آذاناً صاغية من قبل جميع الضباط في أنحاء العراق.. مثلما لم تلق آذاناً صاغية من الجماهير العراقية.. بالرغم من وسائل الإعلام المصرية والسورية الموجهة إلى العراقيين بدعم حركة الشواف.. وهكذا ظل الشواف يقصف مقر الزعيم عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع.. وقصف مرسلات والإذاعة العراقية في أبو غريب ببغداد لإسكاتها.
فشل المحاولة.. ومقتل الشواف:
فيما تحرك الزعيم قاسم لإجهاض الحركة في مهدها.. فأرسل أربع طائرات لتقصف مقر الشواف في الموصل بدقة متناهية.. فقد أصاب احد الصواريخ الزاوية التي يجلس فيها الشواف فأصيب بجروح في وجهه وأماكن أخرى من جسده.. وتناثر زجاج النوافذ ودخل
بعضاً منه في عيني العقيد نافع داود.. وعلى اثر هذه الغارة الجوية تفرق الجنود.. وترك الشواف وضباطه المعسكر وغادروا المقر.
ذهب الشواف للمعالجة في وحدة الميدان الطبية.. ويبدو إن الجماهير دخلت المعسكر وأخذت تهتف بحياة الزعيم وبموت الشواف.. ويقال: إن الشواف سحب مسدسه وانتحر.. فيما تذكر مصادر أخرى إن إصابته كانت خطرة ومات بعد مدة قصيرة.. وبموته أسدل الستار على الشواف وحركته.. فقد انطلقت التظاهرات الجماهيرية في مدينة الموصل تأييداً للزعيم عبد الكريم قاسم.. فلم يجد ضباط أركان الشواف إلا الهروب إلى سوريا.. فيما جرت إحالة المساهمين في هذه الحركة إلى محكمة الشعب.
محاكمة المشاركين:
القيً القبض على عشرات الضباط والمدنيين المشاركين في محاولة الشواف.. وتم إحالتهم الى محكمة الشعب التي حكمت على غالبيتهم بإعدام وبمدد مختلفة وبرأت بعضهم.. ونفذ حكم الإعدام بمجموعة من الضباط أبرزهم: ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وآخرين كانوا من بين قيادة تنظيم الضباط الأحرار قبل ثورة تموز.
عملية رأس القرية:
ـ وهي العملية التي خطط لها حزب البعث بالتعاون مع الضباط الأحرار المتواجدين في وزارة الدفاع.. وبعض الوحدات العسكرية في بغداد خاصةً.. لاغتيال عبد الكريم قاسم عند خروجه من وزارة الدفاع والسيطرة على الحكم.. وبدعم شخصيات قومية معروفة.
نفذت العملية عصر يوم 7 تشرين الأول 1959.. في شارع الرشيد في منطقة رأس القرية.. أصيب خلالها الزعيم قاسم بكتفه ويده.. وفشلت العملية.. وجرت بعد ذلك حملة اعتقالات في صفوف البعث والضباط المشاركين فيها.. أحيل المنفذون والمشاركون فيها الى محكمة الشعب التي أصدرت أحكام متفاوتة بين الإعدام والمؤبد وغير ذلك من أحكام.
سياسة عفا الله عما سلف.. والعودة الى البداية:
لم يجد عبد الكريم قاسم طريقاً لإنهاء المؤامرات وتهدئة البلاد.. إلا بالتصالح مع ضباط الجيش الذين كان معظمهم من رفاق الأمس في قيادة تنظيم الضباط الأحرار.. كذلك الصلح مع رجالات العهد الملكي.. فاتخذ سياسة جديدة.. ففي أواخر العام 1960 رفع الزعيم عبد الكريم قاسم شعار (عفا الله عما سلف).. ليطبقه منذ تموز العام 1961.. فأطلق سراح جميع السجناء من أقطاب النظام الملكي.
وفي 24 تشرين الأول العام 1961 توجه اللواء الركن عبد الكريم قاسم الى سجن معسكر الرشيد.. وطلب إحضار عبد السلام عارف وأمسك بيده.. واركبه سيارته الخاصة.. وأطلق سراحه ..
ثم طبقه على بقية المتآمرين في عهده من عسكريين ومدنيين المساهمين في كل المؤامرات ضد نظامه.
مثلما أعاد معظم الضباط المشاركين في محاولات اغتياله وقلب نظام الحكم الى الجيش.. وأكثرهم في مواقعه أو مواقع مماثلة.. واعتبر هذه الاتجاه خطر على نظامه.
الانقلاب.. والنهاية:
كل قرارات عفا الله عما سلف وإعادة الضباط القوميين الى الجيش أو الوظيفة.. لم ينهي الفوضى.. بل ليبدأ الإضراب الطلابي في خريف العام 1962.. الذي كان التمهيد وتهيئة لتنفيذ الانقلاب.
ليكون العراق على موعد مع انقلاب 8 شباط 1963.. الذي استكمل تنفيذ مبدأ (الثورة تأكل أبنائها).. فأعدم عبد الكريم قاسم ورفاقه.. فيما قتل في معركة الدفاع على يد الانقلابين الكثير من ضباط الثورة.. وجرى قتل وإعدام مئات الضباط من قبل انقلابي شباط 1963 معظمهم من الضباط الأحرار أو من مؤيدي قاسم.. واستمرت مجازر الدم لتشمل كل الشيوعيين والقاسمين.
واليوم بين فرح وألم سقوط الثورة .. وتصفية رجالاتها فيما بينهم.. ولم نستفاد من الدرس.. بل مازلنا نزيف التاريخ.. فنمدح البعض ونذم الآخرين على أساس متآمرين.. فيما كل العملية إن الثورة أكلت أبنائها جميعا.