18 ديسمبر، 2024 8:05 م

الوجدان العربي و تخمة الهتافات عند الجماهير ..

الوجدان العربي و تخمة الهتافات عند الجماهير ..

ثمة أساسات مهمة يرتكز عليها الوعي البراكماتي المصلحي , للتمكن من الهيمنة و الاستحواذ على وعي الجماهير و الشعوب , هيمنة تحاول الانزلاق الى الغاية المرسومة بالذهن و الاندافاع بشكل جنوني نحو تعبئة الحشود خلف هتافات و شعارات و عناوين مهمة , عناوين تتمحور في عقلية الجماهير فتخدرهم و تلعب على مشاعرهم . من أهم العوامل التي ضغطت و أثرت على الشارع العربي و تقهقرت به و حيدته عن الرؤيا العامة للعالم , هو المستوى الثقافي المتدني و الإصطفافات التلقينية التي تنشأ معنا منذ الولادة, مع غياب شبه تام للنزعة الابتكارية الفردية التي تحاول ربط الأشياء بمعزل عن قيود و سلطة الوهم الاولي .

إطلعت على بعض القضايا المهمة التي وقعت في البيئة العربية و كيفية تفاعل الجماهير و غضبها , ما نوعية الهتافات وكيفية تسويق الهزيمة الى نصر! ولكي يكون إطلاعي منصفاً ومحايداً ,غادرت الى بيئة أخرى تختلف بالسياق و النمط و الاتجاه و الثقافة عن بيئتي العربية , فهالني اختلاف و تباين النتائج بين البيئتين.

عام 1967 سربت المخابرات السوفيتية خبراً الى الحكومة المصرية , مفاده ان القوات الإسرائيلية ستشن هجوماً على سوريا, عندما سمع الرئيس جمال عبدالناصر الخبر استشاط غضباً , فتحرك و حرك الجماهير, جماهير متراخية, متخلفة عن النبوغ و الحصافة و التؤدة,لكنها متيقظة للجلجلة و الصخب و الصراخ, أرعد عبدالناصر فإحتشدت القوات العربية , ساعية لرمي إسرائيل في البحر.

دعونا نتأمل و نقارن قليلاً بين حركة و فعل الجماهير العربية و الإسرائيلية.

فبالوقت الذي كانت جماهيرنا العربية ترقص على شعارات النصر و حفلاتنا لا تبارح مدينة و لا زقاق , كانت الجماهير الإسرائيلية تحشد الرأي العالمي العام , تتأوه بإستياء و تبرم من كارثية الظلم الذي سيحيق بهم . كانت حكوماتنا تنفث الوهم و الخديعة في عقول الناس , فتجعلهم يرقصون بدون لحن و يفرحون بدون فعل , بينما هم إستحضروا كل معدات التحفيز العالمي ليكون بجنبهم, وهذا ما حصل بالفعل.

نشبت الحرب وكانت الرزية الفالعة, ان إنهارت جميع الجيوش العربية و خاصة المصرية وذابت كل ترسانتها الحربية و ابتلعت الصحراء جيوشنا فأرمتهم في عمق الصحراء ولم يتحقق النصر الموعود .

بالوقت الذي إستخفت الحكومات العربية بوعي جماهيرها و أوهمتهم بإمكانية النصر, الذي صدقته تلك الجماهير , كان الإسرائيليون يستخفون بعقول حكوماتنا و جماهيرنا وقدراتنا الحربية و العقلية وذلك من خلال دراسة مستفيضة عن الإمكانيات الفعلية للجيش العربي , بينما لم يملك العرب أي دراسات او إحداثيات عن الجيش الإسرائيلي.

بمقارنة سريعة بين الجمهور العربي و الإسرائيلي , سيتضح ان ,الجماهير العربية إحتفلت بالنصر قبل وقوع الحرب, بينما الجماهير الإسرائيلية كانت تحشد للحرب من خلال الاعلام العالمي و لذلك إحتفلت بالنصر الحقيقي.

عندما سُحقت كامل القوات العربية إستمرت الجماهير المصرية ترقص على نغمة التزييف, بينما لم تُخبر ماكنة الاعلام الإسرائيلي ,الإسرائيليين بالنصر, الا بعد إنقضاء يوم كامل من الحرب الذي تحققت به مكاسب عظيمة.

دققوا بالمنظر جيداً , ستجدون ان شعوبنا التي تجيد الهتافات تحتفل بالهزيمة, دون الادراك أنها هزيمة , لأنها شعوب مُنقادة و مُلقنة و محطمة في الذات, بينما الشعوب التي تدرك معنى الذات تعرف كيف تنتصر و تهتدي الى التفوق و التقدم بدون جلجلة. عند الإمعان بهذه الصورة الموحية الى ضحالة الوعي العربي و هشاشته, دب أمل من أن الشارع العربي سيستفيق من هذه النكبة , لكنه لم يكن كذلك , بل عزز في وعي الخصم, من أنه بسيط و خانع , وذلك بعدما إستقال الرئيس عبدالناصر من منصبه, لأنه المسؤول الأول عن هذه الهزيمة الفادحة. وبدل ان تتظاهر الجموع بمحاسبة جميع المسؤولين العسكريين و السياسيين, كان رد فعل الشارع العربي غير الواعي , تظاهرات عارمة تكتسح المدن المصرية , مطالبة بعدم إستقالة الرجل الأول الذي تسبب في النكبة العربية الكبرى.

هناك إشارة مهمة, فحرب 67 و حرب فيتنام متعاصرتان من الناحية الزمنية, متماثلتان في التوجهات و الدعم , متخندقتان مع الدولة الروسية, لكنهما مختلفتان بالنتائج و الأداء و الإمكانيات . هذا الموضوع يحتاج من الواعين دراسة و مقارنة بين الحالتين.

ليست حرب 67 الوحيدة في تاريخ الجماهير العربية, التي أسهمت و برهنت على أنها جماهير ,تجيد الترديد و الهتاف, تأريخ ممتلئ و يتكفل بهدم أي منجز واعد او مشروع لنهضة مستقبلية.

ليست هذه محاولة لإسترجاع التأريخ بقدر ماهي نقد له, للإنعتاق منه و التخلص من أوهامه, نقد وان كان فيه إيضاح و إقرار لرفعة و عظمة الخصم و تصريح وإعتراف بتراخ وهراء وركاكة و غباوة شعوبنا الواهمة. لكنه لا يخلو من أسى وحزن للنتائج المتكررة التي إعتادت عليها شعوبنا العربية.

الى متى تبقى جماهيرنا العربية مذعنة و منقادة ؟ سؤال طالما أرق الشعور الواعي في المنظومة العربية, لكنه لم يأخذ الحيز الفعلي و التفاعلي في مساحة الوطن المثخن بالنكبات.

العاملان الاساسيان في تردي واقعنا العام هما :

السياسة السلطوية التي ينهش بها القادة العرب خصومهم من أبناء وطنهم
تفعيل النفوذ الديني للهيمنة على الجماهير وزجه بإشكالية السياسة.

ويبقى السؤال المهم حارناً على عتبات الفعل الواعي, متى ستتوقف الجماهير عن الهتافات و الشعارات و الولاءات؟

متى سيستفيق الشارع العربي من الوهم الذي نفثه فيه المغرضون, من إمكانية دحر الخصم بالصياح و التهديد و الصخب؟

متى سينتبه الشارع العربي لنفسه و يثور على ذاته و ينقد قادته السياسيين و الدينيين ؟

هناك ثمة أمل متبقي لكي تنتفض جماهيرنا على موروثنا القديم و تأريخنا الغابر لكي تنعتق من وهم التفوق و التقدم الى مرحلة المراجعة و النقد و التشذيب, يجب ان ينتبه الفرد العربي, ان التغيير خطوة نحو التقدم ولا يمكن ان نتقدم مالم نغير المنظومة المعرفية التي إعتدنا عليها , يجب ان لا يرهبنا التغيير, بقدر ما يكون همنا هو التطور و الارتقاء.