واضحة هي نزعة الانسان – اي انسان – الى الوجاهة. ولا أبالغ اذا قلت ان ما لا يقل عن نصف من هم فوق سن الثلاثين من الرجال خاصة في عراقنا، يحلمون بمنصب ذو وجاهة بشكل او بآخر. ولا أظن ذلك تعطشاً للخدمة العامة او حاجة للكسب المشروع، بل انه من اجل الوجاهة بالدرجة الاولى. فهل هذه الظاهرة صحيحة؟
ربما يشاركني الكثيرون الرأي بأن هذه الظاهرة خطرة لانها تكرس حب الظهور عند المواطن وتشغله ومن حوله عن العمل المنتج وتحفزه للقفز عن متطلبات عيشه وأمنه ورفاهه الى متطلبه في تحقيق الذات والذي يفترض ان يأتي متأخراً في سلم حاجات الفرد. كما انها توجه المواطن بعيداً عن الحوار الدافئ الهادف الى بلوغ الحقيقة والمنطق وقبولهما، ويصبح هدف كل طرف في النقاش احباط الرأي الآخر واظهار عيوبه بدلاً من التمعن في ايجابياته وتعزيزها بايجابيات اخرى، والوصول الى رأي مشترك.
كل ذلك لأن كل طرف مهتم بالدرجة الاولى في الأخذ برأيه لتعزيز سعيه للظهور والوجاهة. ولا يخفى ما لهذا السلوك من أثر في ترسيخ ما نألفه لدينا من جاهزية للنقد ولو عن غير دراية واستعداد للشك والتشكيك والادعاء في كل شيء وبكل شيء حتى بما يقع خارج اطار ثقافتنا وعلمنا وخبرتنا ودائرة عملنا واختصاصنا.
وهذا يقود الى عدم الاستعداد لاعطاء الخبز لخبازه، والثقة والقبول بما يتوصل اليه ويقره المختصون والمكلفون بالدراسة والتحليل واتخاذ القرار. فما هو سر اهتمام مواطننا بالوجاهة وحب الظهور بدلاً من الاهتمام بالعمل المنتج والبحث عن الجماعة التي تشاركه افكاره واهدافه ليتفاعل معها ويحظى بالانسجام والمتعة؟
هل هو الاهتمام الزائد الذي يوليه المجتمع والجهات الرسمية لصاحب المنصب الرفيع او الوجاهة؟ ام انه رد الفعل على العادات والتقاليد التي تفرض احياناً وجيهاً غير مقنع لا بثقافته ولا تعليمه ولا اطلاعه؟ ام انه التمرد على سيطرة رأس المال احياناً في فرض الوجيه الفارغ من كل شيء الا المال؟ ام انه فشل القائمين على الاحزاب والجمعيات والهيئات والنقابات في استقطاب المواطنين واحتوائهم من خلال تأمين البيئة الاجتماعية المشجعة لهم على التفاعل والانسجام واهتمامهم فقط بالمحافظة على مواقعهم القيادية وتحقيق المزيد من الوجاهة؟
ربما يكمن السر في كل هذه الاسباب واخرى غيرها، وهي جميعاً اسباب لا بد من ازالتها.
ان حاجتنا ماسة الى توليد القناعة عند المواطن لحصر اهتمامه في العمل المنتج والتفاعل مع الجماعة والسير معهم لاعلى رأسهم، والبحث في داخله عن حقيقة امكاناته وادراك اهمية ومتعة ان ينخرط مع الجماعة الذين يشاركونه افكاره واهدافه.
والجماعات كثيرة في هذا العراق وتتمثل في الاحزاب المتعددة والمنظمات المدنية والنقابات… وغيرها الكثير.
اننا بحاجة لنشهد اليوم الذي ينحسر فيه الازدحام على طريق الزعامة والوجاهة، فهل هذا ممكن؟!
تقديري، ان اقصر الطرق لتحقيق ذلك تتمثل في ازالة اسباب الاهتمام البالغ في الوجاهة وقيام المؤسسات الاعلامية بتقديم برامج تثقيفية اضافية تهدف الى تمكين المواطن من بلورة رأي سياسي وطني، وتغرس فيه التوجيهات السليمة وتصقلها، وجعل المنصب الرفيع حملاً ومسؤولية كبيرة يتحملها صاحبه امام المواطن والصحافة ووسائل الاعلام الاخرى، مما يستلزم لديه سعة الاطلاع والتميز والتخصص والخبرة، وبالتالي الثقة الكافية بنفسه ليكون قادراً على التعامل الايجابي مع كل المواقف والانتقادات والتساؤلات.