في الاونة الاخيرة تركزت حملة من البحوث والدراسات على مسرحنا العراقي لتكشف من خلالها عن مراحل غير معروفة لدى المتابع لهذا التاريخ ، بل توسع البحث حتى راح المثقف ومشاهد المسرح يشارك هو الآخر الرغبة في التعرف على ما لا يعرف والاقتراب من جوانب كانت بعيدة عنه .
واذا كان المسرحيون يشخصون ، او قد شخصوا الانتقالة النوعية في مسرحنا في السنوات الاخيرة حيث بات المسرح ” قضية ” رئيسة من قضايا الثقافة والفكر والامتاع العالي ، واصبح الاهتمام به من قبل المسؤولين يأخذ الاولية والصدارة بل والمتابعة المستمرة . فانهم – اي المسرحيون – قد تعرفوا ايضا على مراحل عديدة من مراحل مسرحنا . والخطوات التي قطعها لتكون له المكانة التي يتبوأها الان – كأحد المسارح العربية المتقدمة ، لكن الذي عرفته ان قطاعا كبيرا من المسرحيين انفسهم ومن المثقفين والقراء والمشاهدين غابت عنهم الصورة الحقيقية لمرحلة هي في تقديري انتقالة ، كانت ومازالت لها الاثر الهام في وضع المسرح والحركة المسرحية عامة كما لها وضع المسرح والحركة المسرحية عامة كما لها موضع الجد والحداثة في آن واحد ، وانها واجهت من الازمات والصعاب ما لم يتصوره المسرحي الشاب او المشاهد الذي يتلقى بالمسرحية الجاهزة يتمتع بها او لا يرضى عنها او قد يرفضها .
فقبل ان تشكل الفرقة القومية – وهي مرحلة اعتبرها هامة ورئيسة في تاريخ مسرحنا – وقبل ان تتسع مجالاتها وتتعدد فروعها ، وقبل ان يتحول مسرح بغداد بفرقته (المسرح الفني الحديث) وبقية الفرق الزميلة الاخرى الى مسرح جماهيري كان المسرح العراقي يعيش المعاناة المرة والمريرة وكان العاملون فيه – من بقي حيا او من بقي في الساحة او من قد غاب عنها – يناضلون بصمت الابطال ويرسمون مسرحهم حجرا حجرا ولبنة لبنة ليكون له الاثر ويقدمه ويتباهى به الاشقاء في اكثر من قطر عربي . فماذا كان ذاك المسرح منذ ثلاثين عاما ؟ وماذا كان حجم درجات سلمه صعودا وهبوطا ، واي انفاس تقطعت لتجتاز الحواجز والجدران والحفر وكل العوائق؟
لم تكن هناك مؤسسة تعني بشؤون المسرح بصوة عامة ، ولم تكن هناك بطبيعة الحال فرقة حكومية ، او رسمية كما نسميها – بل كانت مجرد كلمات واقاويل واجتماعات تدور من اجل تكوين هذه الفرقة والتي لم تتكون الا بعد اكثر من عشرين عاما تقريبا .
كان هناك فرع التمثيل بمعهد الفنون الجميلة الذي تخرج فيه عدد من شباب المسرح كون بعض منهم الفرقة الشعبية والتي كانت في تقدير الكتاب والنقاد الفرقة التي ضمت بحق باقة من دارسي المسرح ومن الموهوبين فيه والذين استطاعوا ان يقدموا نماذج متقدمة عما كان يقدمه المسرح الرسمي – طلبة فرع التمثيل / بمعهد الفنون الجميلة .
وكان هناك النشاط المدرسي – على نطاق محدود – فليس كل المدارس تقدم نشاطا مسرحيا عام . وان قدمت فلا تكاد تختلف بالشكل او المحتوى ، وكان مع هذا النشاط ، نشاط تبنته بعض الكليات منها الكلية الطبية ، دار المعلمين العالية ، كلية الحقوق .. وكان لكل كلية من هذه الكليات سمات خاصة بانتاجها يمكن ان نشخصه بما يلي :
• الكلية الطبية – كانت من حيث الاساس كلية لا يدخلها الا الموسرون ! وهم يمثلون الاوساط المثقفة انذاك وبهذا كان تصورهم للنشاط الثقافي والفني عبر ما يطلعون عليه تصورا متقدما ، وهكذا كان نشاطهم المسرحي يأخذ الصيغة التي تعلو على مستوى الجماهير بصورة عامة لكنها كانت تتسم بصيغ فنية متقدمة كما ذكرت .. وهي – الكلية الطبية – ظلت تلاحق الصيغ الجديدة حتى اخذت – في نهاية المطاف – تتشبث بين حين واخر بما يكتبه المسرحيون التقدميون ليكون مادة رئيسة في نشاطهم المسرحي والذي كان من حيث الاساس وفي أغلب الاحيان ضمن حفلات – التعارف – او الاعياد او المناسبات القومية والوطنية ثم تحول الى حفلات مسرحية صرفة .
• دار المعلمين العالية – طلبة دار المعلمين العالية يشكلون الطبقة المتوسطة في المجتمع العراقي ، والطبقة الكادحة ، وهناك من يدخل هذه الكلية رغبة في ان يكون مدرسا او يدرس الادب او العلم حين يكون ولوعا فيه رغم كونه من عائلة غنية قد لا يخطر ببالها ” الراتب ” الذي سيتقاضاه عند التخرج .
دار المعلمين بطلابها كانت تمثل حركة ثقافية جادة لكنها ظلت مرتبطة بقضايا الشعب بالقدر الذي تسمح الظروف – او العمادة بها .. ومنها تخرج شعراء كبار نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر (السياب ، البياتي ، عبدالرزاق عبدالواحد ، لميعة عباس عمارة … وغيرهم .. وغيرهم) .
المسرح كان له موقع هام في دار المعلمين العالية ، لابد من مسرحية تقدم نهاية كل عام .. ومع ما كان من عون يقدمه اساتذة معهد الفنون لهم خاصة – عميدها – الاستاذ حقي الشبلي كانت صيغة المسرحيات تلك تأخذ الوجه الثقافي والفني اكثر من اهتمامها بالصيغ الاخرى .. وهكذا كانت (اوديب) ، و(تاجر البندقية) وغيرهما .
مع هذا اللون من المسرح كانت تجري فعاليات مسرحية من قبل جمعيات طلابية ، تترك اثرها الممتع في نفوس الطلبة وعوائلهم وكانت جمعية – جحا اخوان – واحدة من هذه الجمعيات الهامة في كلية دار المعلمين العالية .. ومنها ومن الفعاليات الفنية الاخرى كان المنفذ الحقيقي للتعبير عن اماني وآلام الشعب آنذاك .
• كلية الحقوق – انها تعني في مفهومها وادراك طلابها كلية القانون ! ومن يدخلها سيكون “حاكم” المستقبل ، سواء في القضاء او الادارة او الحياة العامة الاخرى .. وكانت هي الوتر الذي يسمع صداه عبر كل حدث او حادثة تقع على ساحة القطر العراقي او اي قطر عربي آخر .. وكانت الكلية تضم مختلف الاوساط والطبقات .. لكن صيغة الدراسة فيها وواقع حال الكلية واساتذتها تجعلها في مواجهة الاحداث التي ذكرتها .. والمسرح كان مهجورا فيها لفترة طويلة ، ومع ضيق الحفلات المسرحية وقلتها برزت مجموعة من طلبتها وطالباتها ليخلقوا حركة بدت في اول الامر ساذجة وضيقة لتتسع بعد حين ويكون لها دور وشأن لا في كلية الحقوق وحدها وانما على صعيد عدد من الكليات . ثم على صعيد فرع التمثيل بمعهد الفنون الجميلة بعد ذلك .
(جبر الخواطر) مجموعة من الشباب الموهوب ، اتخذ النقد والسخرية من الظواهر السلبية سبيلا له ” بمسرحها ” – اي تلك الظواهر – ويقدمها بصيغة المسرح الذي كان اعضاء الجمعية يدركونه ، ليكون مثار تحريك وتحفيز او امتحان او طرح اشعار .. والذي اصبح بعد حين سمة مسرح شعبي له اثره ودوره الهام نصا وعرضا .
• واذا كنا قد ذكرنا ثلاث كليات فان ” كلية التجارة والاقتصاد ” لم تكن قد تأسست بعد ، وحين قدر لها عميد فذ كالاستاذ المرحوم (جابر جاد) جعل للمسرح فيها مكانة هامة ، حيث عين ولاول مرة في تاريخ الكليات العراقية فنانا يشرف على النشاط المسرحي بمختلف اشكاله وكان ذلك عام 1950م حيث عين كاتب هذا البحث مشرفا فنيا في الكلية بعد تخرجه في كلية الحقوق .
• وكان نشاط كلية الاداب بعد ان تأسست ، واضحا احد اكثر من صيغة وربما كانت اعمال الفنان (سليم البصري) أقرب الى النفوس واكثر شعبية وامتاعا ، وكذلك كان النشاط يتفاوت في كمه ونوعه بكلية الهندسة ايضا .
واذا كنا قد اشرنا الى الكليات بهذا التفصيل فلابد وان تذكرنا بكثير من التقدير دور دار المعلمين الابتدائية التي كانت هي الاخرى تواصل العطاء المسرحي . سواء شخصية الفنان (جعفر السعدي) ومن معه او بشخصية الفنان المرحوم (شهاب القصب) ، وكذا الحال لبعض المدارس الاخرى متوسطة كانت ام ثانوية والتي كانت ادارتها وبعض اساتذتها يعنون العناية الفائقة والكبيرة بالنشاط المسرحي مواصلة ومستوى وان كان بعضهم ينتمي الى فن آخر غير المسرح – اكاديميا – كالاستاذ (حافظ الدروبي) مثلا . ومثل هذا النشاط ينسحب على مدارس اخرى داخل بغداد وخارجها ، وفي بعض المدن الاخرى شمالا وجنوبا وشرقا وغربا .
علينا لكي نتعرف على واقع مسرحنا ، وقبل الدخول في صلب اعماله وممارساته ، ان نتعرف اولا على واقع حياتنا عامة .. والسياسة بصورة خاصة لانها جوهر تلك الحياة والمؤثرة فيها – سلبا او ايجابا – ولان المسرح كان والى حد كبير مرآة لذلك الواقع يعكس ما فيه بقدر موقع المرأة منه ، ان كانت امامه او على طرف منه قريبة منه او بعيدة عنه ، لكن الصورة تظل انعكاسا له بالقدر الذي تلتقطه بوضوح كامل او بشيء قليل من الوضوح احيانا !
كان للاستعمار اكثر من بداية مع شعبنا ، واذا اردنا ان نحصر الحديث بايجاز كبير ، وفي حدود الخمسينات وما قبلها بقليل فقد كان الاستعمار يضع المشاريع منذ عام 1947م ، فكان حلف الاطلسي ، وكان مشروع مارشال ثم التلويح بحلف البحر الابيض المتوسط ثم معاهدة بورتسموث .. وقد قبر الشعب المعاهدة فتحطم ذلك المشروع الاستعماري في الشرق الاوسط لعدة سنين .
كان عالم الشعوب ، عالم معارك القوميات المتحررة ينتفض وينتصر . وكان عالم الاستعمار ينعار وبتداعي .
وفي عراقنا الحبيب كان لنا شأن مع المستعمرين والرجعية . فقد افزعهم ما اصابهم من دمار وخراب في مواقفهم منه وفي كل مكان .
لم يكن امام الاستعمار سوى العمل على اذلالنا واخضاعنا وكما يقول فلاسفة المستعمرين ” ترويض الشعوب لاخضاعها ” .. فكانت كل حركة وطنية وقومية تقابل بالارهاب والتعذيب والتقتيل وكم الافواه وسلب الحريات ..
وكان الجوع والبطالة والتسيب والفوضى ، والتفسخ في أجهزة الحكم والسلطة .. وكان ما كان من تدن على مختلف المستويات ..
مساحة عريضة من الصراع الحاد المعلن عنه واللا معلن . والتفجير المكبوت والمتوهج .. وكان العراقيون المخلصون امام كل هذه المساحة لهم دورهم في التصدي والكفاح الباسل .
وشباب المسرح والنشاط المسرحي ليس كالفعاليات الثقافية الاخرى . الشاعر قد ينظم قصيدة وينشرها في جريدة او مجلة حتى وان كانت هذه القصيدة ذات مضمون تقدمي – قياسا الى ذاك الظرف اعني في فترة الخمسينات . فقد كانت تمر على العراق فترات قصار من الانفراج المقصود او المبرمج . او قد تنشر مقالة او تقدم اغنية او مونولوج ناقد . او حتى قطعة موسيقية او ترسم لوحة او يصدر كتاب … كل هذه الفعاليات تكاد ترتبط الى حد كبير بنشاط فرد واحد الا ما يتعلق بنشر الكتاب . اما المسرح فمسألة اخرى . المسرح ادب وفن وفعالية جماعية لابد لها من مقومات كي تأخذ سبيلها من حيث النتيجة الى الجمهورة ، لان المسرح ، وهذه بديهية – بلا جمهور لا وجود ولا قيمه له .
مقومات او عناصر العمل المسرحي يمكن تحديدها بما يلي :
1. المجموعة المسرحية – واقول المجموعة المسرحية وليس ” فرقة ” مسرحية ، لان البداية لا يمكن لها ان تتحول الى فرقة دون ان تكون هناك مجموعة منسجمة متآلفة ، لها قدر من الامكانات الفنية والثقافية ، فنحن هنا لا نعني الجماعات او المجاميع المسرحية التقليدية ، او الرسمية التي تقدم العمل المسرحي كأي واجب يناط بها لكي ” تحلل ” الراتب الذي تتقاضاه من الدولة ! انا اعني التوجه الجديد لمسرح آخر ينعكس كما اسلفت – من الحياة على سعتها – وانعكاف عن واقع معاش ، وان يكون تأثيره واضحا ، ومستواه الفني متميزا عن الرتابة والصيغ الجامدة المعروفة والشائعة قبل مرحلة الخمسينات او خلالها ، والتي اسميناها ” رسمية ” او تقليدية جامدة .
هذا النوع من ” المسرح ” يتطلب بلا شك وعيا سياسيا متقدما ومنسجما مع حركة الحياة ذاتها والا لما كان الا انعكاسا للحياة الراكدة التي تريدها السلطة – آنذاك – وامتدادا لمسرح ضجر الناس منه ، وظل على عزلته وغاب في سجل النسيان .
المجاميع المسرحية وجدت طريقها كمجاميع ثقافية اولا ، من خلال اللقاءات ومن خلال المشاركات في الفعاليات التي كانت الكليات باديء ذي بدء تقيمها بين الحين والحين ، ومن تآلف الهدف ووضوحه ثانيا . واخيرا وليس آخرا من خلال ممارساتها على مختلف المواقف ، سياسية كانت او اجتماعية وبأكثر من شكل وصيغة .
لنأخذ لذلك كثلا تطبيقيا ..
قلنا ان جمعية (جبر الخواطر) في كلية الحقوق كانت تقدم الوانا من المسرح الذي نسميه الآن ” المسرح الناقد ” لكنه كان في ذلك الوقت المنفذ الوحيد للموقف السياسي الذي يتمسك به هؤلاء الهواة من فناني المسرح . نضج هذا الاحساس ، ثم انتقل الى معهد الفنون الجميلة ، ومع مجموعة (جبر الخواطر) في كلية الحقوق ، ومجموعة من كلية التجارة ، وقبلهم طلبة دخلوا فرع التمثيل بمعهد الفنون الجميلة ولديهم نفس الطموحات ونفس الاهداف ، التعلم من جهة وتغيير صيغ المسرح الشائعة المعهد المسرحي الوحيد في القطر .
كان الانسجام بين هذه المجموعة واضحا ومن شذ عنها واختلف معها انعزل عن الحيوية التي اشيعت في ارجاء مسرح العهد وحولته الى قبلة فنية تزحف اليها الجماهير من مختلف الاوساط والمستويات لانها – وكما اشرت ابتداء – تعكس الواقع المعاش بصيغ اكثر حداثة عما كان يقدم عبر مجاميع اخرى لا تحمل طموح مثل هذه الجماعات المثقفة والملتزمة .
مثل هذا النشاط – دون شك وفي ذلك الوقت – لا يمكن ان يظل بلا رقيب وبلا حد وبلا ردع ، بل وليس من المعقول او المقبول – لدى السلطة – ان يسمح به .. فكان من الضروري اذن تشتيت المجموعة ” الرسمية ” التي تدير المؤسسة الرسمية ، وان تعاد اليها الصيغة القديمة ، وان يظل الركود شعارا لها وفلسفة الفن للفن الهدف المنشود من كل ما تقدمه !
من هنا اصبحت ” الفرقة المسرحية ” حاجة ملحة لاستمرارية الطموح الذي ابتدأ متفرقا في اكثر من كلية وتجمع الى حد كبير في معهد الفنون الجميلة ثم حيل بينه وبين الجمهور حين وضعت عوائق امام هذه الفعاليات واصيب بعض من مارسها بعقوبات انضباطية وغير انضباطية واذكر للتاريخ ان (ابراهيم جلال) كان قد ابعد من معهد الفنون الجميلة ، وكذلك الحال للاستاذ (عزيز سامي) الذي كان عميدا للمعهد .
المجموعة كانت موجودة ولها حضورها المسبق .. وكان عليها ان تعيد وجودها وحضورها بصيغة اخرى … فتشكل فرقة ، ولكن كيف؟
تأسيس او تشكيل الفرقة يخضع لتعليمات كثيرة وصارمة وبعض منها ” تعجيزية ” .. لكن الامر امام الاصرار والالتفاف حتى على بعض التعليمات والقوانين ممكن ، فهو نوع من انواع الابداع والكفاءة ! في التصرف بمثل هذه الحالات ..
لابد للفرقة من شخص يكون ” صاحبها ” ولابد من توفر شروط فنية فيه ، فالفرق المسرحية تخضع لقانون الملاهي ! اي وببساطة ينظر لها – للفرقة – كما ينظر لاي ملهى ليلي رخيص – كباريه – بل وينظر بعض المسؤولين الى الممثلين او فناني المسرح نظرتهم الى من يعمل في اي ملهى او كباريه ..
وكان – ابراهيم جلال – من تتوفر فيه صفات ” صاحب الفرقة ومؤسسها ” فقدم الطلب اسمه واعيدت الجماعة الى مشروعية تقديم نشاطها بصيغة بعيدة عن الرسمية الضيقة وان كان ” الضيق” موجود في كل مكان لكنه يتسع حينا ويخفت حينا آخر حتى يصل حد الاختناق .
وكان ذاك – اي تأسيس فرقة المسرح الحديث – في 4/نيسان/1952م .
2. المكان ، ولا اقصد مكان الفرقة المسرحية ، فبيوت اعضائها كانت ارحب من ان تضم الفرقة واصدقائها وانما اعني مكان العرض المسرحي الذي لابد من توفره كي يصل الى الناس ..
وهنا لابد من حكاية فيها بعض التفصيل المراحل التي سنتظرق اليها وتتقدم لتحجز قاعة فيصل ” قاعة الشعب حاليا ” او مسرح قاعة الكاظمية – واحيانا وبحكم مكانة العاطلين في بعض الفرق المسرحية ، تحجز بعض القاعات المدرسية لتقديم العروض المسرحية .
لكننا هنا نضرب مثلا بقاعة فيصل لانها القاعة المناسبة والملائمة للعرض المسرحي الجيد .
القاعة كانت كأنها مكان مقدس . وحين تتقدم بطلبك للحصول عليها – وانت تمثل فرقة مسرحية – لابد من طقوس ! تمر من موظف الى موظف ولا يمكنك ان تصل الى ” أمين العاصمة ” فالقاعة كانت تابعة لامانة العاصمة .. بل لا تستطيع الا بجهد جهيد الوصول الى ” سكرتير امين العاصمة ” وهو من الشخصيات المقربة للبلاط الملكي .. وحين تدخل عليه ، وقد دخلت عليه كمراجع وبيدي حقيبتي كمحام اضافة الى كوني – ممثلا – حين تدخل عليه لابد من اناقة تتوفر فيك مسبقا وادب جم تتسم به – وهو موجود والحمد لله – وكلمات تختارها لتبدأ الحديث .. وتظل واقفا كأنك في حضرة شخصية ” مباركة ” وحينما تفتح فمك لتوضح طلبك .. بأن فرقة مسرحية “اهلية” تظلب استئجار المسرح لتقدم مسرحية مجازة ، وان الشروط متوفرة في العرض يصرخ فيك ويرفض ان تدخل المسرح مجموعة .. – ويصفها بأوصاف عديدة غير مؤدبة ! – وبكل سهولة يطردك – وقد طردني فعلا ذات مرة – وعذرا ان كنت اسرد تفاصيل قد تبدو غير منسجمة – لاول وهلة – مع سياق الموضوع “الفني” الذي اتناوله ، لكن الحقيقة التي تظل مطمورة لسنوات طوال لابد وان تظهر وتعلن عن نفسها ذات يوم ، وليس انسب من الملف الذي هيأته مشكورة – آفاق عربية – مكانا للكشف عنها .
اذن كان امام الفرقة المسرحية الجادة ان تفكر في سبيل آخر ، وكان امامها سبيلان : “الاول” ان تنشيء لها مسرحا و”الثاني” ان تدخل ضمن بعض الجمعيات التي تحمل ” الاسم” لا الجسم – كما يقولون – والتي كانت تحظى برضا السلطة لتقدم من خلالها مسرحياتها كتنشيط لها من جهة – او تنشيط ظاهري بكلمة أدق – وممارسة حقيقية للفرقة المسرحية في واقع الحال .. وهكذا بنت فرقة المسرح الحديث – مسرحا طينيا لها – على نهر دجلة قرب المقبرة الملكية .. وفي مقر جمعية النداء الاجتماعي .. واستطاعت ان تحصل على قاعة فيصل من خلال جمعية الاتحاد النسائي الذي كن تحت اشراف زوجات المسؤولين الكبار في الدولة !
لقد كان بعض الناس يعتقدون ان الفرق المسرحية تستطيع ان تمثل في اي مكان تريد . وكم صرخ البعض بنا : مثلوا في الشارع . مثلوا في كل مكان ! كانوا يرددون ذلك وهم جالسون في بيوتهم الدافئة لايدرون عن واقع المسرح شيئا .
لكننا وبعد حين دخلنا النوادي نمثل على مسرحها وفي غرفها وفي ساحاتها الصيفية فكان ذلك منفذا آخر ومكانا ثانيا للمكان الذي شيد ليكون المسرح الحقيقي للنشاط المسرحي . اعني مسرح قاعة فيصل .
3. النص المسرحي – اذا كان البعض يسمي “النص المسرحي” – اي المسرحية – بمادة المسرح الخام ، فاننا كنا نسميها – العملة النادرة – وندرة هذه العملة لا تأتي من غلاء ثمنها كما يبدو لاول وهلة ولكن الطموح في تقديم مضامين تتوفر فيها الفكرة الانسانية ووضوح الرؤية .. والمتعة العالية – من خلال المشاهدة – كثيرا ما توقعنا بأشكالات مع الرقابة تصل الى حد الرفض بل والمحاسبة الصارمة ، والتهديد بالتوقيف او السجن لكاتبها !
وهنا تثور امامنا صعوبة الاختيار ، ثم التوفيق بين ما تختار من جهة وبين ما يمكن ان يمر على الرقابة من جهة أخرى .
وكان هناك صراع عشناه بمرارة حين نتقدم للحصول على رضا الرقابة .. واحدا واحدا .. الامر الذي اوقعنا في مواقف محرجة من حيث اختيار الكيفية في السلوك والتعامل مع بعض “أعضاء” الرقابة حين يجابهونك بآراء فجة وأخرى تصل احيانا الى حد “البذاءة” في التفسير .. فتشعر بالبون الشاسع بين ما تريد انت .. وبين ما يدركه المسؤولون عن الثقافة والفن في البلد … فيزيدنا ذلك سخرية منها ومقتا لها . وهكذا كنا نلجأ الى “الرمز” و”الايماءة” احيانا – وهذا ما يوقعنا بعد ذلك في اشكالات جديدة ! وهكذا تدور الرحى !!
4. الامكانات الفنية – لم تكن تتوفر للفرق المسرحية امكانات فنية جيدة بل وحتى امكانات تحمل اوليات توفير المستوى الفني المطلوب .. فالفرق ليست لديها امكانات مادية يمكنها بها توفير ما تريد ، اضافة الى ان بعض تلك الامكانات غير متوفرة اساسا .
كنا نطمح بخلق المستوى الفني كي يحس المشاهد – اضافة الى المضامين او المواضيع الجديدة او القريبة منه – يتوفر مستوى يطل هو الآخر حديثا وجديدا عليه .. وكنا نحقق قدرا منه من خلال الابداعات الذاتية والمحاولات الجادة المخلصة ويمكن ان نشير الى محاولات (اسماعيل الشيخلي) في الديكور في (ماكو شغل) و(ست دراهم) و(اغنية التم) والمحاولات الاخراجية لـ ( ابراهيم جلال) و(جاسم العبودي) .. والتي كانت في حينها محاولات لفتت الانظار اليها – وهناك محاولات أخرى لمعت هنا وهناك بعد حين .
واذا كنا قد تحدثنا من الامكانات الفنية – والتقنية كذلك – فلابد ان نشير الى ” العقم” الذي كنا تعاني منه نتيجة الوجود الشحيح في “العنصر النسائي” وهو وان كان ظاهرة عامة عانينا منه كثيرا ، الامر الذي جعل بعض كتاب المسرح – وانا منهم- ان يكتب المسرحية ويضع في حسبانه العناصر النسائية كي لا يزيد شخصية – امرأة او فتاة – على ما هو متوفر في الفرقة .. واقولها صراحة انني حين كتبت “فلوس الدوه” لم يكن في الفرقة عنصر نسائي واحد .. فحولت الام الى أب عجوز وقدمت المسرحية بلا ” ممثلة” !
5. العرض المسرحي – قد تكون الفرقة مجازة ولها حق العمل المسرحي كما ذكرت ، وقد يجاز النص المسرحي .. وتبدأ التدريبات وقد تحصل على قاعة للعرض ، سواء كانت “قاعة فيصل” او مسرحيا آخر ، او بالجمعية التي اتخذتها الفرقة جسرا لعبور عملها المسرحي .. قد يتوفر كل هذا .. لكن الذي يتبقى امام الفرقة ، امر هام واساس ، بل هو القصد من كل ما تقدم : العرض المسرحي للجمهور .
وهنا على الفرقة ان تنال اجازة “حفلة” .. كأي حفلة ساهرة اخرى .. لان اي تجمع لابد وان يخضع لقانون التجمعات من جهة ، وان أية “حفلة” لابد ان تخضع لتعليمات “المتصرفية” وتشملها تعليمات الضرائب والرسوم.
كل هذا حينما تكون الاوضاع طبيعية ، اي ان قانون الاحكام العرفية غير سار في ذلك الوقت .. اذن ان الحصول على اجازة الحفلة – رغم موافقة المتصرفية – لابد وان يقترن بموافقة ” الحاكم العسكري ” بل له الحق ان ينقض موافقته في اي وقت يشاء . او لأي سبب يريد .. وبالفعل منع لنا – لفرقة المسرح الحديث – وفي يوم الافتتاح – عرض مسرحي في نادي السكك – صيف 1953م ، وكذلك منع عرض مسرحي على مسرح جمعية النداء الاجتماعي قبل موعد العرض بيوم واحد .. وهكذا تجدنا مشدودين الى تأزم نفسي حتى اللحظة التي ترفع فيها الستارة ويبدأ العرض !
واذا كنا قد ذكرنا العرض المسرحي من خلال موافقات وشكليات الموافقات ، فاننا لابد وان نشير الى تعدد الجهات التي لها الحق في السماح او المنع ، فاذا تخطينا رقابة النص – كما ذكرت – جاءنا منع من (التحقيقات الجنائية) اذا ماكان احد اعضاء لجنة الرقابة وهم ثلاثة – غير موافق على اجازة النص وان الموافقة جاءت بالاكثرية ! في مثل هذه الحالة يكتب هذا العضو – وهو موظف ومسؤول في وزارة الشؤون الاجتماعية – الى دائرة التحقيقات الجنائية يضمنه رأيه ويطالب بمنع الاجازة التي منحت للفرقة لتقديم المسرحيات التي طالبت باجازتها .. اضافة حالة المنع التي تهدد الفرقة من – الحاكم العسكري- في اي وقت – كما اسلفت – وان هذه العناصر (عناصر العمل المسرحي) والتي تشكل العملية الفنية كاملة ، والمرتبطة – كما اكدت- بواقع الفترة التي مر بها عراقنا خلال الخمسينات .. هي واجهة من واجهات الكفاح المسرحي ، الذي كان يسعى جاهدا بلا كلل ولا ملل الى ان ينقل المسرح الى مرحلة متقدمة واكثر حداثة سواء في الفهم لأثر المسرح او في موقع المسرح في الحياة الثقافية التي تشكل الروح الحضارية لكل شعب ينشد السعادة والمستقبل البهيج له وللشعوب الاخرى في عالمنا الواسع .
ومسرح الخمسينات كان وجها مشرقا في دوره لعكس الواقع الصميم – بالقدر الممكن – من جهة ، ولاكساب المسرح حداثة وفهما جديدا من جهة اخرى .