لم يشهد الواقع التعليمي في العراق في عصره الحديث، هذا التدهور والتردي كالذي يعانيه اليوم، وعلى جميع الأصعدة، ألبنا التحتية لمؤسساته التعليمية تعاني من التقادم وانعدام الخدمات الضرورية فيها، كالمرافق الصحية والإنارة ووسائل التدفئة والتكييف، صفوف مدارسه متخمة بالطلبة وتعاني الزحمة حتى وصل الحال إلى أن يكون عدد الطلبة في الصف الواحد الخمسين طالبا، مجانية التعليم أصبحت عنوانا كبيرا براقا تختبئ خلفه قائمة طويلة منهكة للعائلة العراقية، من مستلزمات دراسية وقرطاسية، وشراء لبعض الكتب المنهجية التي تعجز الكثير من المدارس على منحها للطلبة، والدروس الخصوصية، حتى أصبح التعليم يمثل عبأ ثقيل على كاهل أرباب الأسر، يضاف إلى أعبائهم اليومية في ظل الإرهاب والأزمات الاقتصادية ومتطلبات الحياة الصعبة في هذا البلد الذي يعيش في ألفيته الثالثة وهو على هامش الحضارة الإنسانية، لكن ما يثير الاستغراب ويفتح بابا للتساؤل المشروع الذي يبحث عن إجابة شافية من المعنيين بالشأن التعليمي هنا، هو لماذا تحولت الدروس الخصوصية من حالة مرفوضة يحاسب عليها القانون، إلى ظاهرة مستشرية تمارس علنا، وضرورة لا يمكن الاستغناء عنها لدى اغلب طلبتنا حتى ذوي الدخل المحدود منهم، حتى ملأت الإعلانات التي تدعوا الطلبة إلى هذه الممارسة الخاطئة الشوارع ؟.
هذه الممارسة التي تعكس واقعا تعليميا سيئا، وتشير وبشكل واضح إلى أمرين مهمين، الأول هو ضعف مستوى المؤسسات التعليمية التنفيذية منها والرقابية، والثاني يؤكد حقيقة يجب مواجهتها بشجاعة وطرحها بطريقة أكثر جرأة ووضوح، إلا وهي الضعف في الأداء لدى الكثير من المعلمين والمدرسين، وعدم امتلاكهم القدرة على إيصال المادة التعليمية بصورة جيدة إلى الطلبة، ويعود سبب هذا إلى عدم إشراك أعضاء الهيئات التعليمية في دورات تطويرية تساعدهم في تحسين مستوى أدائهم وخبراتهم، وكذلك كثافة المادة الدراسية التي تعطى إلى الطلبة في فترة قصيرة لا تتناسب معها، مما يضطر الكثير من المعلمين والمدرسين إلى تدريس هذه المواد بشكل سطحي هامشي، عندها يبدأ الطالب بالبحث عن وسائل أخرى لاستيعاب هذه المواد الدراسية، وأسهل هذه الطرق هو اللجوء إلى الدروس الخصوصية بكل ما تحمل من مساوئ، لكن هذه الانعطافة الخطيرة في الواقع التعليمي جرت إلى أمورا أكثر خطورة، منها ما يحدث في بعض المناطق الشعبية في بغداد والمحافظات حيث يقوم المدرسين الخصوصيين للصفوف الغير منتهية بشراء أسئلة الامتحانات الشهرية والنهائية، من بعض المدرسين من ضعاف الأنفس بصورة مباشرة، ومن ثم الاكتفاء بتدريس ما جاء في هذه الأسئلة فقط للطلبة، وبالتالي سينجح هؤلاء الطلبة بسهولة ويحصلوا على درجات عالية لا يستحقونها في نتائج امتحاناتهم النهائية ، لكن الحقيقة المرة هي أنهم ازدادوا جهلا على جهلهم، وتحولوا إلى طفيليات اجتماعية تعتاش على جهود الآخرين ، ونشأوا على نمطية حياتية مغلوطة ستؤثر بشكل سلبي على طريقة حياتهم المستقبلية.
في دول العالم المتقدم التي تمتلك قدرات اقتصادية اقل بكثير مما نمتلك هنا في العراق، تشكل المدرسة للطالب هناك محطة استجمام، يعيش نصف ساعات يومه بين أروقتها، بين تعلم وقراءة، وتحضير لواجباته المدرسية، وممارسة هواياته، وتناول طعامه المفضل، دون أن يتحول عبأ أو مشكلة لا على عائلته ولا على مجتمعه، بعكس ما يحصل هنا تماما.
فهل سيتدارك المعنيين بالواقع التعليمي في العراق هذا النكوص، ويضعوا حلولا ناجعة لمشاكل واقعنا التعليمي، أم سيترك الحبل على الغارب حتى تصل الأمور إلى ما هو أسوء مما يحصل الآن؟.