18 ديسمبر، 2024 9:59 م

الواقع التربوي الجميل

الواقع التربوي الجميل

منقول عن قصة تربوي عراقي ((استاذ متقاعد حالياً))…
بداية ارحب بكل من يتابع ويقرأ هذه المقالة التي تحمل في طياتها ذكريات القلم والطباشير والسبورة المدرسية
اليوم اتكلم لكم عن الواقع التربوي الجميل الذي كنا نعيشه في سبعينات وثمانينات القرن الماضي..
انا محدثكم الاستاذ التربوي المتقاعد خضير المحمود البجاري ابوقيصر خدمت في وزارة التربية وضمن الملاكات التربوية لعدة عقود من الزمن واغلب الخدمة التعليمية كانت في مدارس القرى والارياف ولكوني ابن واقع ريفي لم اواجه اي صعوبة في العيش والتأقلم مع تلك البيئة الريفية الجميلة رغم الصعوبات والعوارض الطبيعية التي تواجه الكادر التدريسي وخاصة ظروف الطبيعة المتقلبة يصاحبها مدارس مبنية من مادة الطين وطرق غير معبدة وانتشار واسع للامية في المجتمع وهذا يجعل الآباء
يقومون بتشجيع ابنائهم على ترك الدراسة والتوجه لأداء الاعمال الاخرى مثل رعي الاغنام وغيرها لمساعدة عوائلهم في ظروفهم المعاشية القاسية.. ولكن مع صدور قانون التعليم الالزامي من قبل الدولة اصبح ابناء القرى والارياف ملزمون بالالتحاق بالدراسة وهنا بدأنا بحياة دراسية جديدة الغاية منها ادخال البهجة والسرور الى روح ذلك الطالب الذي لم يأتي برغبة منه او بتشجيع من عائلته…
كانت بدايتنا مع الطلاب تبدا من مبدا الترغيب والترهيب ومن مبدا التكريم للتلاميذ المتفوقين وتشجيع الجميع على تحضير دروسهم اليومية والمتابعة المستمرة مع اهلهم الذين كان اغلبهم لم يحضر يوما الى ادارة المدرسة من اجل ان يعرف مستوى ابنه الطالب وكان قلة من الآباء يتابع هذا الموضوع واتذكر جيدا مختار القرية وبعض الذين يعملون في المسلك الوظيفي كونهم يعرفون قيمة الشهادة في الوظيفة والمنصب الاداري جيداً…
كان اغلب التلاميذ يأتون الى المدرسة ليس من باب طلب العلم والمثابرة ومنافسة زملاءه في النجاح وانما من باب تأدية واجب لا اكثر…
استمرينا نحن الهيئات التعليمية في ذلك الوقت واستطعنا ان نتجاوز كل تلك الصعوبات لإقناع الاهل بان هذا التعليم هو المستقبل المضمون لأبنائهم بعيدا عن الجهل ولكن بعض العوائل كانت تخالفنا الرأي لأسباب عديدة اولها بسبب انتشار آفة الفقر والجهل….
مازلت اتذكر تلك الهدايا البسيطة مثل عنقود من الرطب او قلم جاف وغيرها كنا نقدمها لتلاميذنا وخاصة المرحلة الاولى والثانية حتى يتأقلمون مع العام الدراسي وكان القسم الاكبر من تلاميذ المرحلة الاولى يسيطر عليه طابع الخوف من المدرسة ورهبة المعلم امامه وعلى ذكر الهيبة والاحترام كان المعلم يمتلك كاريزما من نوع خاص وكانت شخصيته الاجتماعية تفرض موقع ومكانة عالية في المجتمع فكان شيخ العشيرة او اي وجه اجتماعي يعتبر نفسه من ذوي الحظوظ العالية عندما يلتقي بالكادر التعليمي في المدرسة الموجودة في قريته..
وكان الكادر التدريسي يعتبر اي وساطة والمساعدة في اعطاء طالب غير استحقاقه شيء معيب حتى وان كان من اصحاب النفوذ العشائري… وكانت الرشوة جريمة وتعتبر مخلة بالقيم والاخلاق… كانت الرقابة مختصرة بجهة تفتيشية واحدة ويسمى الشخص الذي يقوم بإجراء المتابعة والتقييم ((المفتش)) وهذه الوظيفية لم تعطى لاي شخص كان ولابد ان يملك خبرة متراكمة وخدمة تعليمية تفوق العشرين سنة.. وكانت الادارة في المدرسة تقوم بتهيئة كل الامور التي تحتاجها زيارة المفتش الى المدرسة…
والحديث طويل وجميل جدا مع تلك الذكريات في هذه الخدمة الانسانية والتي استطعنا من خلالها تعليم الالاف من الطلاب ونحن نرى قسما منهم اليوم يحملون الشهادات العلمية العليا وهم يؤدون عملهم في الوظائف الحكومية ضمن الدوائر العسكرية منها والمدنية وما زالوا يتذكرون اؤلئك الاشخاص الذين علموهم الحروف الابجدية واوصلوهم الى ما هو عليه الان وما زال اغلبهم عندما نراه من باب المصادفة يعاملنا وكانه ما زال طالب في المرحلة الابتدائية وما زالت كلمه استاذ على السنتهم..
ايام مضت وبقت منها ذكريات ولكنها سوف تبقى محفوظة في ذاكرة اصحابها وفي ارشيف تلك المدارس…

وخاتمتها تحية لكل معلم وتربوي وكما قال شاعر العرب الكبير احمد شوفي..
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا
كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي
يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ
عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
༺༺༻༺༻༺༻༺༻༻