التجارب السياسية التي تمتلك الخبرات المتراكمة والتي تؤمن بردم الفجوة بين التنظير والتطبيق, تؤكد أن مؤشرات النمو السياسي لا يمكن أن تتحقق أو تستثمر الا من خلال الواقعية السياسية التي تمثل بكسب الثقة وتأييد الجمهور، والمرونة الفكرية، والتخلص من قيود الروتين وتراكماته بخطوات ممکنة التفعيل والتطبيق, وتقبل التغييرات التي تطرأ على مستوى طموحات الشارع, والتصرف طبقا لمقتضيات الأوضاع والأحداث المتسارعة، وتقويم المفاهيم المشوهة للخروج من أفق الإحباطات والجمود, وضخ دماء جديدة لشرايين الواقع السياسي، وتطوير سبل الأرتقاء بالعمل السياسي الذي ينعكس بصورة أيجابية فيما بعد على تقديم الأفضل للجمهور.
وفي مقابل تلك الواقعية، يمثل الجمهور وإنطباعاته ومؤشرات رضاه عن الأداء والنهج السياسي وما يعتبره تتناسب مع المقتضيات بسبب واقعيتها أو ميلها نحو الواقعية والإمكانات المتوفرة أو رجحانها نحو العقلانية، السبب الرئيسي في بقاء الكيانات السياسية أو تقلبها على صفيح ساخن والتالي الخسارة والندم والفناء.
ما وراء ماقلناه أعلاه يتحقق عند قراءة المشهد السياسي الواقعي في كوردستان، خاصة بعد أن تأكدت الأحزاب الكوردستانية من حجمها في عمليتين إنتخابيتين.
عند تصفح تاريخ الأحزاب السياسية في كوردستان، نرى مشاهد الواقع والخيال معاً، ومشاهد وقفزات مليئة بالأمور الحية والجامدة. كما نرى الثابت الموجود الذي يصارع ويناقض ويفيد ويقترح ويفند ويرفض ما لايريد. ونرى أختصار بعض التجارب في الشعارات دون العمل بها، والتعامل مع المعضلات بسطحية, والبحث عن حلول خارج أطر التطبيق, وكل ما يمكن تقديمه تغيير الشعارات والطروحات التنظيرية التي لا تمت للواقع بصلة, أما خدمة الجمهور مجرد واجهة. كما نقرأ ملاحظات كتبت بالخط الاحمر العريض تفيد بأن التحديات الموجودة قابلة للتضاعف ما لم يتجاوز الكوردستانيون آليات انتاج تلك التحديات، وما لم يمتلكوا رؤية واضحة لبناء الثقة من خلال الاستئناس بالآراء التي تصب في مصلحة الواقع الكوردستاني، وبأن إستنباط الأسباب أهم بكثير من النظر الى النتائج ومحاولة خلط الأوراق والمراهنة على سذاجة الآخرين وتقديم الحلول الخيالية التي تصطدم بعقبات التطبيق، فتفقد محتواها وتضمحل.
منذ تأسيس الحزب الثاني بعد الأول، أعني تأسيس الإتحاد الوطني الكوردستاني بعد الديمقراطي الكوردستاني، سمعنا إدعاءات تتعلق وتدور حول أنتهاء مفعول الأول ودوره وإختفائه من الساحة، وبعد ذلك أيضاً، كلما تأسس حزب جديد قالوا أن السابق أنتهى، أو السابقون إنتهوا وفقدوا الصلاحية، آخر هذه الموضة شاهدناها قبل أشهر، عندما تم عرض بضاعة بإسم جديد، بينما في الحقيقة كانت إمتداداً للبضائع التي نقلها التاريخ السياسي الكوردستاني وتم إستهلاكها في مراحل سابقة، وتعبيراً عن الرغبة في إغتنام الفرص وإثارة الفوضى بالمزاج والمزايدة السياسية ونعراتها الحزبية والمناطقية ومؤاخذاتها السطحية، وعن عقد وخلافات موجودة في مخيلات الذين مازالوا بحاجة الى علاجات. وأصبحوا أرقاماً لا يؤثرون إلا جزئياً في الساحة وبعض الأحداث فيها، ولا يؤثرون على وجود الحزبين الأول والثاني. وفي الإنتخابات الأخيرة ظهر أن الأول مازال الأول ثابتاً على موقعه، وملامحه النقية الصافية لم تهتز، وصامداً على مواقفه أمام الرياح التي لا تراعي المشكلات العديدة بين اربيل وبغداد والوضع الاقتصادي.
لايختلف إثنان على أننا في كوردستان نعاني من تكريس بعض الحالات السلبية ونواجه أزمات ومشكلات لها تعقيدات وأبعاد مختلفة أخذت أحجاماً أكبر مما ينبغي، لكنها لم تصل الى الطريق المسدود، وليست خانقة أو مستعصية، وليست خارجة عن الارادة، ويمكن تلافيها بسهولة من خلال تسليط الضوء على الافرازات السلبية والإبتعاد عن الشعارات والأحاديث الشائعة التي لاتغير من الأزمات شيئاً، ومن خلال الاستجابة للنداءات المخلصة المتكررة والتحاور والتفاهم والتعاون ضمن اجراءات عملية حاسمة لمعالجة الازمات العالقة في الإقليم وبشكل عملي، والتعهد بضرورة التوافق بشأن القضايا التي لها أبعاد وطنية وقومية والتعامل معها بشكل حضاري.