23 ديسمبر، 2024 9:24 ص

الهيئات المستقلة في العراق.. بين سيف السلطة وذهبها!! …

الهيئات المستقلة في العراق.. بين سيف السلطة وذهبها!! …

(ملف تخصصي)
كان إقامة نظام ديمقراطي هو أحد الأسباب المعلنة التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية لغزو العراق عام 2003، وبعيدا عن الأهداف الحقيقية التي دفعت لذلك الغزو والذي لا يزال العراق يدفع أثمانا باهظة له؛ فقد شرع المحتلون بإقامة عملية سياسية جديدة على أنقاض النظام السابق، الذي عرف حكم الحزب الواحد والشخص الواحد.

ولعل من أهم دعائم النظام الديمقراطي هو الفصل بين السلطات، ووجود هيئات ومؤسسات مستقلة تقوم بضمان الحريات العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية وفق مفهوم وفلسفة الديمقراطية، لهذا سعى الأمريكان منذ البداية إلى تشكيل هذه الهيئات وإقرار قوانين خاصة بها، ثبت فيما بعد أنها لم تكن أكثر من حبر على ورق كغيرها من مستحدثات “العراق الجديد”.

ولعل هذه التجربة الحديثة لم تنجح حتى اللحظة في تحقيق ما أنشأت لأجله بعد حصاد مرير وقاس، ويبدو أن القائمين عليها سينتظرون طويلا قبل أن يروا ثمارها على أرض الواقع، فمحاولات استنساخ التجارب الديمقراطية الغربية وزرعها بصورة حرفية في العراق تبدو كمن يحاول زرع نخلة في القطب الشمالي، فالظروف التي مرت بها البلاد، والعقليات التي تحكم تفاصيل الحياة ابتداءا من الأسرة الصغيرة وحتى مؤسسات الحكم تشير إلى أنه ما زال بينا وبين هذا أمدا بعيدا.

فجميع الأنظمة الديمقراطية التي تحكم الغرب اليوم مرت بحروب وصراعات وإرهاصات عنيفة أدت إلى تشكلها بالصورة التي هي عليها اليوم، بما في ذلك صراعات الكنيسة مع الدولة، والحروب المذهبية التي أزهقت أرواح الملايين في أوربا، بالإضافة إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، كل هذا أدى إلى ظهور الأنظمة الغربية بأبعادها السياسية والاجتماعية والفلسفية كما نعرفها.

أما في العراق فقصة (الديمقراطية) فيه غير ذلك، فهذا البلد الذي سيطرت الانقلابات العسكرية على الحياة السياسية فيه منذ سقوط النظام الملكي، والحروب المتتالية، والحصار وما تلا ذلك من تدمير ممنهج لنفسية أبنائه مع غياب للحريات العامة؛ كل هذا قد أدى إلى تشويه كبير للشخصية العراقية وفقدان التوازن الفكري والسياسي فيها، فجاء الغزو الأمريكي كي ينقل –بزعمه- العراق إلى النظام الديمقراطي، وهو ما لم يكن بطبيعة الحال، بل إن المجتمع العراقي قد تراجع حتى عما عرف به من تسامح وانفتاح وازدهار للطبقة الوسطى ورعاية للعقول العلمية؛ تراجع سنين ضوئية عن ذلك إلى تكويناته الأولية الطائفية والعرقية.

إرهاصات البداية وملامح الاستبداد

بعد الاحتلال وبدايات تشكيل النظام السياسي الجديد تم الإعلان عن الهيئات المستقلة التالية: المفوضية العليا لحقوق الإنسان، والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهيئة النزاهة، وهي لجان مستقلة تخضع لرقابة مجلس النواب، إضافة إلى البنك المركزي العراقي، وديوان الرقابة المالية، وهيئة الإعلام والاتصالات، وديوان الوقف السني، وديوان الوقف الشيعي، وديوان الوقف المسيحي، وهي هيئات مستقلة إداريا وماليا، ومؤسسة الشهداء التابعة لمجلس الوزراء، ومجلس الخدمة العامة الاتحادي المسؤول عن تنظيم شؤون الوظيفة العامة بما فيها التعيينات والترقية.

ويفترض في هذه الهيئات كما ينص على ذلك الدستور العراقي أن تكون مستقلة وغير خاضعة للابتزاز والنفوذ الذي قد يمارس عليها من السلطة أو غيرها، لكن ما جرى على أرض الواقع غير ذلك، وقد سئل الحاكم المدني الأميركي في العراق بول بريمر وقتها عن الضمانات في استمرار الديمقراطية في العراق فكان رده أن الهيئات المستقلة هي الضامن لوجود واستمرار الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة في هذا البلد!!.

بعد إعلان تشكيل الحكومة العراقية في 2006 وبمشاركة كثير من القوى السياسية العراقية، تمت تسمية رؤساء هذه الهيئات، وشرعت في العمل، وبدأت وقتها محاولات السلطة التنفيذية في التغوّل عليها والتأثير على سير العمل فيها، وبدأ فصل جديد من قصة الإستبداد والدكتاتورية في هذا البلد.

(حقوق الإنسان) والحقوق الضائعة

عرف العراق منذ مجيء الاحتلال الأمريكي انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، وبعيدا عن شعارات الحرية والديمقراطية فقد قتل مئات آلاف العراقيين في مجازر وحشية وصدامات طائفية عنيفة، كان بعضها يجري بعلم الدولة ورعايتها، وقد أظهرت فضائح سجن أبو غريب، ومعتقل ساحة النسور، ووزارة الداخلية، ووزارة الصحة التي أصبحت في وقت ما مسلخاً بشريا كبيرا، وغيرها؛ أظهرت عينات من تلك الانتهاكات الوحشية المجافية لكل شريعة وقانون، وكان يفترض حسب الدستور والشعارات المعلنة أن تسعى المفوضية العليا لحقوق الإنسان إلى محاربة هذه الانتهاكات وتجريم فاعليها وتقديمهم للقضاء، لكن الذي جرى أن كثيرا من المجرمين كانوا يحظون برعاية من بعض أطراف السلطة وعلى رأسهم نوري المالكي، كما أثبتت ذلك وثائق عديدة وشهادات حية لكثير من الناجين من تلك الجرائم المروعة التي ارتكبتها وحدات من الجيش وأجهزة أمنية، علاوة على ما قامت به المليشيات التي يقود بعضها شخصيات سياسية عامة من بينهم وزراء ونواب، وظلت هذه المفوضية محتكرة للأحزاب الشيعية الحاكمة، لربما في محاولة للتغطية على الأدوار الإجرامية الوحشية التي لعبتها في سنين الحرب الطائفية وما بعدها.

بين مطرقة الفساد وسندان (الإرهاب)

وعبر سنوات حكم المالكي كان مصير كل من يحاول الخروج على هيمنة الحزب الحاكم وسياساته هو إما المادة 4 إرهاب أو تلفيق تهم الفساد بحسب الإنتماء الطائفي غالبا، وقد كان نصيب العديد من رؤساء الهيئات المستقلة تهم مختلفة، وعلى رأسهم رئيس هيئة النزاهة السابق القاضي رحيم العكيلي الذي لفقت له تهم بالفساد والرشوة، حيث أصدرت المحكمة الجنائية المركزية أربعة أحكام بحقه في قضايا تتعلق بالفساد، وذلك بعد أن بدأت هيئة النزاهة في تحريك بعض الملفات تجاه أعضاء ائتلاف المالكي، فكان أن غادر العكيلي البلد ولم يعد حتى الآن، بعد أن بدأ الحديث يعلو عن اتهامه بجرائم “إرهابية” أيضا.

 سنان الشبيبي محافظ البنك المركزي السابق له قصة مشابهة، حيث أنه وقف ضد سياسات المالكي في التحكم بالمال العام وسحب الأموال من البنوك لا سيما بعد الإجراءات الغربية لحصار إيران، ومحاولات المالكي إنعاش الإقتصاد الإيراني، فكان أن ألقي القبض عليه والتهمة فساد أيضا، وقد كشفت اللجنة النيابية المشرفة على البنك المركزي حينها أن التحقيقات أثبتت وجود بيع للعملة الصعبة لبنوك وشركات محددة بعينها، والتي قامت بتهريبها إلى (بعض) دول الجوار.

شهداء “العراق الجديد”.. مراتب وطبقات!!

أما مؤسسة الشهداء فقد تبنت منذ تأسيسها آيدلوجية الأحزاب الشيعية الحاكمة جملة وتفصيلا، فشهداء الحرب العراقية الإيرانية ليسوا شهداء في نظرها لأنهم قاتلوا (الجمهورية الإسلامية)، وضحايا النظام السابق يتفاوتون في القدر والمرتبة، فهم كحال العراقيين اليوم: درجة أولى، وثانية، وعاشرة، أما ضحايا المليشيات فهؤلاء لا بواكي لهم، بل لا يستطيعون مراجعة المؤسسة خوفا من أن يتم القبض عليهم بتهمة الإرهاب!!..

وأغلب الظن ومن خلال التجارب السابقة؛ فإن شهداء وضحايا الحرب في المحافظات السنية خلال الصراع الحالي لن يكون لهم أي نصيب أو اعتراف رسمي أو حقوق لذويهم من قبل الدولة، لأنهم مدانون مسبقا مهما فعلوا.

مفوضية الانتخابات وأهواء الحزب الحاكم

أما المفوضية المستقلة للانتخابات فهي وإن كانت أحسن حالا نسبيا من غيرها، فقد وضعت تحت مقصلة شروط حزب الدعوة وقياساته الخاصة، عبر رئيسها المتهم بممالأة المالكي في أكثر من مناسبة، وخضوعه لشروطه وابتزازه؛ كما حصل في انتخابات 2010 التي فازت فيها القائمة العراقية، لتثور ثائرة المالكي وائتلافه وليطعن في النتائج بمجرد صدورها، لكن بعض الإصطفافات الحزبية والتدخلات الإقليمية التي أعقبت تلك الإنتخابات إستطاعت تهدئة الأجواء ودفع ائتلاف دولة القانون للرضا بالأمر الواقع شكليا، بعد ترتيبات وتسويات أدت لصعود المالكي مرة أخرى وبصورة أكثر شراسة وحدة.

أما انتخابات 2014 فقد شهدت ووفقا لشهادات منظمات دولية ومحلية انتهاكات جسيمة وتزويرا ممنهجاً لصالح ائتلاف المالكي، فيما فضلت مفوضية الإنتخابات الصمت عن هذه الخروق ومحاولة إقرار النتيجة المعلنة كأمر واقع، وإعطائها شرعية قانونية؛ كانت ستتم وينقضي الأمر بإعلان الولاية الثالثة للمالكي لولا سقوط الموصل بيد ما يعرف بتنظيم الدول الإسلامية (داعش)، لتختلط الأوراق من جديد.

الوقف السني وصراع الأجندات

بعد إقرار فصل الوقفين السني والشيعي عن بعضهما البعض؛ أصبح الوقف السني هو الملاذ شبه الوحيد لأهل السنة في العراق، يديرونه بأنفسهم ويسعون من خلاله للمحافظة على مساجدهم وأوقافهم التي شهدت هجمات شرسة أعقاب الإحتلال، ورغم سعي ديوان الوقف السني للنأي بنفسه عن الصراعات السياسية والطائفية قدر المستطاع؛ إلا أن عدم خضوعه لنفوذ السلطة واشتراطاتها، ورغبة المالكي بالاستحواذ على هذه المؤسسة التي تمتلك مساحات شاسعة في العراق شمالا وجنوبا، وميزانية ضخمة تكاد تتفوق على ميزانيات بعض الدول، أدى كل هذا لازدياد حجم الضغوط على هذه المؤسسة والسعي لتوريط القائمين عليها في قضايا عدة، كان آخرها اتهام بعض النواب ممن يعرفون بـ(سنة المالكي) لرئيسه بتهم فساد ورشوة، فكان أن سحبت يد الدكتور أحمد عبد الغفور السامرائي من رئاسة الديوان وتولى نائبه الدكتور محمود الصميدعي مهامه خلفا له، لكن حلفاء المالكي سعوا لطرح أسماء بديلة معروفة بمواقفها المؤيدة للمالكي والتحالف الوطني مثل خالد الملا، ومهدي الصميدعي، وعبد اللطيف الهميم لتكون بديلة للسامرائي، في محاولة لمصادرة حق السنة في اختيار من يشاءون في رئاسة هذه المؤسسة التي تمثلهم وتعنى بشؤون أوقافهم، رغم أن مهمة اختيار رئاسة الديوان منوطة دستوريا بالمجمع الفقهي لكبار العلماء في العراق، وهي الجهة التي أصبحت تمثل مرجعية ميدانية لأهل السنة في العراق، ولا تزال محاولات بعض الجهات الحكومية مستمرة للتدخل في هذا الملف عبر طرح أسماء موالية للحكومة أو التدخل في بعض تفاصيل عمل الديوان.

رسائل السلطة التشريعية بين الوعود والضمانات

 وكمحاولة لتدارك الأزمة وإيجاد حلول حقيقة لها، سعت السلطة التشريعية ممثلة برئيس مجلس النواب سليم الجبوري لإيقاف هذا التداعي ووقف محاولات بسط نفوذ الحزب الحاكم على هذه المؤسسات وتعطيل أدوارها كما في السنوات السابقة، فكان اجتماعه برؤساء الهيئات المستقلة في 12 تشرين الثاني من أجل إعطاء تطمينات وضمانات بعدم عودة تلكم الممارسات إلى واجهة المشهد السياسي، ومحاولة لترسيخ دورها في تحقيق مزيد من العدالة والشفافية في المجتمع، وقد أكد الجبوري اللقاء الذي جمعه برؤساء هذه الهيئات أن وجودها هو أسلوب متقدم في الإدارة، وأن عليها أن تكون مستقلة حقا شكلا ومضمونا، وألا تكون في جيب أحد من السياسيين، وأن إبعاد هذه الهيئات عن التجاذبات السياسية يأتي بهدف المساهمة في تجاوز المشاكل التي جابهت العملية السياسية في المرحلة السابقة وانسجاما مع أجواء التصالح وبناء مؤسسات الدولة.

فيما اشتكى رؤساء هذه الهيئات في ذات الإجتماع من التباسات قانونية ودستورية وعقبات تواجه عملها، كما أشار إلى ذلك محافظ البنك المركزي علي العلاق الذي قال أن هنالك تشويشا وضبابية في تحديد المفهوم الدقيق لارتباط وعلاقة تلك الهيئات بالحكومة واستقلاليتها، في حين ذكر ممثل مفوضية حقوق الانسان مسرور أسود أن هذه الهيئات بحاجة الى تعديلات دستورية، وتوضيح وتفسير لبعض المواد القانونية، ونشر لثقافة الهيئات المستقلة لدى صناع القرار في العراق، وأكد ممثلو هذه الهيئات في اللقاء على ضرورة إبعادها عن المحاصصات الطائفية، وأهمية إزالة العقبات التي تعترض طريقها دستوريا وعمليا.

ورغم أن مشوار التغيير المطلوب والمأمول لا زال في بداياته، وعقبات الطريق كثيرة، إلا أن مثل هذه اللقاءات قد تسهم في تبديد المخاوف من تعرض هذه الهيئات لضغوط ومحاولات ابتلاع سياسية أو حزبية كما حصل في الدورات السابقة، كما أنه رسالة مهمة للمجتمع العراقي من رئاسة مجلس النواب بأن هذه المؤسسات ستحظى برعاية السلطة التشريعية وحمايتها قانونيا ودستوريا كي تمارس مهامها على أكمل وجه.

بين التوازن المفقود والمطالب المشروعة

واليوم ونحن على أعتاب عهد يتنادى الجميع لأن يكون جديدا، فإن على من يمسك زمام المبادرة في البلاد الآن أن يعي أن نتائج الإستبداد قديما وحديثا هي كارثية، وآثاره مدمرة، لذا فإن أراد القائمون على العملية السياسية لها أن تمضي بسلاسة ويسر فإن وجود هيئات مستقلة ومحايدة ومهنية في عملها يمكن أن يسهم كثيرا في استقرار البلاد وتنميتها، كما أن وجود توازن بين المكونات العراقية في رئاسة هذه الهيئات ضروري جدا ويشكل دعامة للأمن السياسي والإجتماعي في البلد، فلا يعقل أن الغالبية الساحقة ممن يمسكون بزمامها هم من الشيعة، في حين يقف العرب السنة وغيرهم في خانة المتفرجين.

إن وجود هيئات مستقلة في أي نظام ديمقراطي هو ضمان لاستمراره وتماسكه، وقد أدى اختزال النظام السابق لمؤسسات الدولة في شخص واحد إلى انهيار العراق تدريجيا حتى وصلنا إلى حال أسوأ مما كنا عليه بمئات المرات، هذه الهيئات يفترض أن تكون لها استقلاليتها وهيبتها، وأن تكون محصنة من التسييس أو التبعية لأي جهة تتنافس على السلطة، على عكس ما كانت عليه في الأعوام الفائتة، حيث أن جرد حساب بسيط لعمل هذه الهيئات ومخرجاتها يوصلنا إلى حقيقة أنها كانت أشبه بحديقة خلفية للحزب الحاكم والذي لا يزال على رأس السلطة التنفيذية، ولا تزال الوعود الحكومية التي تطلق هنا وهناك بحاجة إلى إثباتات على أرض الواقع، لأن تجارب السياسة المريرة في العراق أثبتت أن برامج معظم الاحزاب والكتل الحاكمة لا علاقة لها بما يجري على الأرض.