الهوية العراقية ـ المغتربة في غرفة تحت المياه

الهوية العراقية ـ المغتربة في غرفة تحت المياه

“نصوص مختارة وقصص قصيرة جدًا” هكذا أراد الكاتب فؤاد ميرزا تقديم نصوصه، دون إخضاع أغلبها لجنس أدبي محدد، كي يضع القارئ منذ البداية أمام عتبات سرد يجنح إلى أكثر من منحى، ومثل هذه النصوص تفسح المجال للكاتب كي يرسم لوحة مركبة تتضمن الكثير من التجارب والمواقف التي عاشها وعايشها على مدى عقود، خاصةً وأن تواريخ تلك النصوص جاءت متفرقة ما بين حقبة السبعينات والثمانينات والتسعينات… الأمر الذي يجعلنا نتعرف أكثر على الكاتب ورؤاه والمفارقات التي واجهها داخل الوطن وخارجه، لا سيما وأنه أمضى سنوات طويلة من الاغتراب في بلاد مختلفة كي يتفاعل مع ثقافاتها وأجواء عوالمها، ويضيف تلك السنوات المرتحلة ما بين محطة اغتراب وأخرى إلى مخزون ذكرياته المحَملة بإرهاصات الحياة اليومية التي عاشها في مدينته خلال عهود سياسية متباينة كان لها بالغ الأثر على صياغة هوية المجتمع العراقي المعروف بتعدد إنتماءاته الدينية والمذهبية والقومية، بالإضافة إلى تنوع توجهاته الفكرية، وتناقضها أحيانًا، لذا نلاحظ دومًا أن ذاكرة المبدع العراقي تكون أشبه ببنوراما تتمادى حدودها مرحلةً عمرية تلو أخرى، كما أن لكل كاتب رؤاه وتركيبته الشخصية التي صقلتها الكثير من الأحداث، المرتبطة غالبًا بالاضطرابات والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها البلاد عبر عقود، والكاتب هنا ينتمي إلى الطائفة “الفيلية” عريقة التاريخ، رغم ذلك عانى أبناؤها الكثير من الظلم، شأن الكثير من الطوائف الأخرى، الأمر الذي جعله يعي معنى الاغتراب منذ سنٍ مبكرة، رغم ذلك نجده يرفض الانغلاق والتعصب، فمن يتأمل نصوصه يدرك مدى انفتاحها الاجتماعي والثقافي، ولو من خلال أبسط اللمسات التي تضفي إلى تلك النصوص تفاصيل ذات سِمة بغدادية خالصة، تستمد خصوصيتها من منطقة باب الشيخ، إحدى مناطق بغداد القديمة. تمثل ذلك جليًا في أكثر من نص تضمن شيئًا من السيرة الذاتية للطفل والصبي الذي كان وهو يتأمل أبسط مفردات الحياة اليومية ويعرف كيفيفة توظيفها ضمن السياق السردي بعد ذلك في كل نص يكتبه، يجسد من خلاله جسرًا حضاريًا وثقافيًا يخترق كل مدينة يقطنها، في إيطاليا أو أمريكا او غيرها من الدول البعيدة عن مدينته التي تظل مدللة المبدع العراقي بشكلٍ عام، فنحن مهما أبحرنا في بلاد الغربة وخضنا من تجارب عصيبة نجد أن بغداد تمتلك سرًا غامضًا يشدنا إليها أكثر فأكثر، مهما نالها من جنون العهود السياسية المتعاقبة، مثل الحبيبة الأولى التي تظل تتحكم بكل انفعلالتنا وكتاباتنا وحواراتنا.
بهذه الصورة نشعر أن مدينة الكاتب ظلت تخفق في بواطن النصوص، حتى وإن كتبها في روما أو نابولي أو نيويورك أو أي مدينة أخرى، ضمن نوستالجيا خاصة صارت من السمات المميزة للأدب العراقي، متأثرة بالتراث الحضاري لأرض الرافدين، كما لو أن جلجامش غرس فينا حيرته وبحثه الدائم عن سر الخلود، رغم كل ما يعاني الكاتب العراقي من شتات واضطراب ونوازع خوف وشعور بالظلم والتهميش، أو واجه من مخاطر الاعتقال لمجرد الانتماء لهذه الطائفة أو تلك، أو بسبب انضمامه إلى حزب محظور.
كل تلك المفارقات الحياتية يمكن أن نتلمس بصماتها في ثنايا النصوص لدى بحثها في فضاء الذاكرة المختزنة للكثير من الخيبات والانكسارات، وأيضًا الأحلام المتمردة على الواقع، رغم الإشارات المتكررة للطائفة “الفيلية” كي ينقل شيئًا من معاناتها على مر العقود والأنظمة، مؤكدًا رفضه لأي نوع من التهميش أو الظلم، ومن ناحيةٍ أخرى تمسكه بهويته العراقية، رغم أنه أمضى جل سنوات عمره بين محطات الاغتراب، ومثل هذه الإشكالية يواجهها الكثير من المبدعين العراقيين الذين اعتادوا اللجوء إلى المنافي، حيث يأخذ عليهم البعض انهم صاروا لا يعرفون عن بلادهم شيئًا وبالتالي لا يستطيعون التعبير عن مواجعها بصورة صحيحة وعميقة تستطيع أن تجسد الواقع الاجتماعي سريع التغير، خاصة بعد الاحتلال الذي مضى عليه عمرًا، نشأ خلاله جيل مغترب بدّوره عما الفناه من قبل في مدينةٍ انهكتها الحروب وسنوات الحصار.
تكتسب نصوص الكاتب فؤاد ميرزا تميزها الذي حمل عبق بغداد بشوارعها وأزقتها وساحاتها وطقوس عوائلها اليومية، مهما بدت عليه من بساطة يمكن أن تضيف جوًا من السعادة الحميمة، رغم كل ما يواجهه أفرادها من أعباء حياتية متزايدة من عقدٍ لآخر.
رغم تلك الظروف العصيبة التي خبرها الإنسان العراقي تبقى في الذاكرة فسحة من الأمل، فرصة للحب، لمغازلة عينيّ الحبيبة والشارع والحي والمدينة، كما يبقى للطفولة فضاء رحب من البراءة والعفوية، سافرت مع الكاتب وظلت زاد ترحاله الطويل كي يشعر بمحن المظلومين والمهمشين هناك وهناك، حتى بدت الذاكرة مثل خارطة تتجاوز خطوط الطول والعرض، تمزج ما بين رؤى الشرق والغرب، وترفض تحجيم (الأنا) ضمن بقعة جغرافية محددة، دون أن يفقد السرد شيئًا من خصوصيته، وهذا ما نجده في الكثير من نصوص الكتاب العراقيين، لذا حظيت بوهجها الخاص وتميزها الذي فرض حضوره القوي عربيًا وعالميًا، متجاوزة حدود الزمان والمكان وكل قيد يسعى للنيل من الهوية العراقية تحت أي مسمى.

أحدث المقالات

أحدث المقالات