تشهد الساحة السياسية عند كل دورة انتخابية، أكانت لمجلس النواب ام لمجالس المحافظات تعديلات في النظام الانتخابي، ودائما ما تكون هذه التعديلات لصالح بقاء القوى المهينة، مما شكل حالة من الاحباط واليأس من امكانية اجراء اصلاحات في طبيعة النظام القائم، وتجلى ذلك في زيادة الأعداد التي تعزف عن الذهاب الى صناديق الاقتراع، وبرق امل كبير في تبدل الاوضاع إبان ثورة الشباب في تشرين 2019، واجبار الطبقة السياسية للرضوخ على الموافقة بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في ظل قانون انتخابي جديد.
ومن أجل تسليط الضوء على تجارب النظم الانتخابية في دول العالم الناجحة نسبيا، والتعرف عليها عن كثب للاستفادة منها، تم إعداد هذه المادة وهي تجربة النظام الانتخابي في الهند التي تحظى باعجاب وتقدير اغلبية المعنيين.
جرت الانتخابات الاخيرة في الهند على سبع مراحل ولمدة ستة اسابيع، وقد ابتدأت بتاريخ 11 نيسان وانتهت في 19 أيار 2019، وأُعلنت النتيجة النهائية بعد أربعة ايام، لانتخاب 543 نائب، في مليون مركز اقتراع، وبمشاركة أكثر من 11 مليون مسؤول في مراحل الانتخابات من القوات الامنية في البلاد، وقد سُجل ما يقارب 900 مليون ناخب لدى مفوضية الانتخابات، وكانت نسبة المشاركة67%، وهي الانتخابات الـ17 للبرلمان منذ استقلالها سنة 1947، وتعتبر من أكبر الانتخابات الديمقراطية في التاريخ، ومن أكثرها تكلفة على مستوى العالم حيث ينفق السياسيون الهنود ما يعادل 7.2 مليار دولار.
لقد خاضت الجمعية الوطنية المنتخبة ما بعد الاستقلال بمناقشات طويلة عند اعداد الدستور والنظام الانتخابي، وقد ضمت الجمعية عدد من خبراء القانون، والمحامين، والمفكرين السياسيين، وقد تعمقت تلك المناقشات وعلى مدار ثلاث سنوات حول ماهية النظام الانتخابي الذي يمكن ان يتلائم مع الهند، حتى الاتفاق على اعتماد نظام الفائز الاول، وخلال تلك المناقشات تم التطرق الى الخيارات الاخرى وبالاخص منها النظام النسبي الذي نال بإهتمام البعض، وذلك لتعدد الأعراق والديانات في المجتمع الهندي، وكان من اسباب اعتماد خيار نظام الفائز الاول، هو لضمان عدم التشتيت للتركيبة البرلمانية وانقسامها ، والذي يؤدي الى قيام حكومات قوية ومستقرة وتُمثل حاجة ضرورية للمجتمع، الذي خرج للتو من حرب اهلية عقب الاستقلال، وكذلك لارتفاع مستويات الفقر والامية، ومن الجدير بالذكر ان الهند ورثت من فترة الاستعمار البريطاني، نظام الحكم البرلماني ونظام الفائز الاول الانتخابي، حيث كانت الهند تتمتع بالحكم الذاتي قبل حصولها على الاستقلال، وتطبق نظام الفائز الأول دول أخرى استقلت عن بريطانيا قبل الهند ككندا و الولايات المتحدة.
طبيعة النظام السياسي في الهند
عند التمهيد، يعرف الدستور، النظام السياسي، في النص الاتي: (نحن، شعب الهند، عزمنا على أن نشكل الهند كجمهورية ديمقراطية اشتراكية علمانية ذات سيادة…)
والنظام فيها برلماني وشكل الدولة اتحادي.
يتكون البرلمان الهندي من مجلسين:
الاول وهو (مجلس النواب ) ويضم 543 نائبا، من خلال 543 دائرة انتخابية، حيث لكل دائرة انتخابية يخصص لها نائب واحد، يتم انتخابه بشكل مباشر، بينما يرشح رئيس الجمهورية الهندية لاحقاً نائبين اذا رأى ان المجتمع الانجلو هندي غير ممثل بشكل كاف في مجلس النواب.
أما المجلس الثاني فيدعى مجلس الولايات ويجري تشكيله عبر انتخابات غير مباشرة من خلال المجالس التشريعية في الولايات.
تُنظم الانتخابات العامة مرة كل خمس سنوات، ولرئيس الجمهورية صلاحية بحل مجلس النواب قبل انتهاء مدته، بناءً على توصية من رئيس الوزراء، دون العودة الى البرلمان ، أو اذا اقتنع رئيس الجمهورية استحالة تشكيل حكومة مستقرة، ويبقى رئيس الوزراء بمنصبه طالما حافظ على أغلبية تدعمه.
تشكيل مجلس النواب
نص الدستور في تشكيل مجلس النواب وفق المادة (81)
1- مع مراعاة المادة 331، يتكون مجلس النواب مما يلي:
أ. ما لايزيد عن خمسمائة وثلاثين عضواً يتم اختيارهم عن طريق الانتخاب المباشر من الدوائر الانتخابية الاقليمية في الولايات.
ب. ما لا يزيد عن عشرين عضواً لتمثيل أقاليم الاتحاد، ويتم اختيارهم بالطريقة التي يقرها البرلمان بقانون.
2- لأغراض البند الفرعي (أ) من البند (1):
أ. وسيتم تخصيص عدد من المقاعد لكل ولاية في مجلس النواب بطريقة متناسبة بين عدد المقاعد وعدد السكان في الولاية المعنية بصورة عملية قدر المستطاع، ويتم إجراء نفس الشيء بالنسبة لجميع الولايات.
ب. تقسم كل ولاية في دوائر انتخابية في دوائر انتخابية اقليمية بمثل تلك الطريقة وهي النسبة بين عدد سكان كل دائرة انتخابية وعدد المقاعد المخصصة لها، حسبما يمكن، ويتم إجراء نفس الشيء في جميع أنحاء الدولة.
فقد حدد الدستور الهندي عدد أعضاء مجلس النواب بشكل ثابت بغض النظر عن الزيادة أو النقصان في عدد السكان، وكذلك حدد حصة كل ولاية من مقاعد مجلس النواب وفق تناسب عدد سكانها الى مجموع سكان الدولة ، ومن ثم حدد عدد الدوائر الانتخابية لكل ولاية وفق نفس التناسب. وان لمفوضية الانتخابات تحديد حدود كل دائرة انتخابية وبما يتناسب مع عدد السكان في الولاية، حيث لكل دائرة انتخابية يخصص لها مقعد واحد فقط، وبما لا يخلق اختلال بنسبة التمثيل، والفائز من سيحصل على أكثر عدد من الاصوات و لجولة واحدة، وبهذا حسم الدستور النظام الانتخابي بإعتماد نظام الفائز الأول.
ماذا يعني )نظام الفائز الأول First Past the Post )
ان هذا النظام يسمى ايضا بتصويت الاغلبية لجولة واحدة( الاغلبية البسيطة) يتم وفق هذا التصويت فوز المرشح الذي يحصل من اول جولة على اكثرية الاصوات أو أكبر عدد من الاصوات( أغلبية بسيطة/ اغلبية عددية عادية) بغض النظر عن نسبة الأصوات التي حصل عليها من إجمالي الأصوات الصحيحة المشاركة في التصويت لذا يطلق البعض على هذا النظام ( نظام الفائز الأول) ومن الجدير بالملاحظة أن هذا النظام يعمل عبر الدوائر الفردية وهي الدوائر التي يخصص لها مقعد واحد، وهي تقسيمات انتخابية تعتمدها بعض الدول التي تستخدم النظم الانتخابية القائمة على مبدأ الاغلبية العددية، وفيها يقسم إقليم الدولة الى مجموعة من الدوائر الصغيرة تمثل كل دائرة بنائب واحد ويسمى ذلك بنظام الاقتراع لمقعد واحد.
وإن نظام الفائز الأول أبسط أنظمة التعددية/الأغلبية، حيث يتم استخدامه ضمن دوائر انتخابية ، أحادية التمثيل. وهو نظام يتمحور حول المرشحين الأفراد، إذ يقوم الناخب باختيار واحد فقط من مجموع المرشحين المدرجين على ورقة الاقتراع. وببساطة، فإن المرشح الفائز هو الحاصل على أعلى عدد من أصوات الناخبين. بغض النظر عن عدد الأصوات التي حاز عليها أو نسبتها.
يتشارك نظام الفائز الأول مع باقي أنظمة الأغلبية في أن الناخب يختار مرشحين أفراد، إلا أنه يختلف عن باقي النظم بأن الناخب يختار مرشح واحد في دائرة سيفوز بها مرشح واحد ما يجعل وزن الصوت متكافئ لجميع الناخبين، بخلاف نظام الصوت الواحد غير المتحول على سبيل المثال (الذي اقره مجلس النواب العراقي بتاريخ 10 تشرين الاول 2020) حيث يختار الناخب مرشح واحد في دائرة تحتوي عدد من المرشحين.
أثر نظام الفائز الأول على النظام السياسي
∙ يمثل التأثير الأكبر للنظام الانتخابي المعمول به في الهند في انتخاب حكومات تستند الى دعم الاغلبية البرلمانية على الرغم من استنادها الى اقلية من الاصوات، حيث نظام الفائز الأول حتى عام 1977 مكن حزب المؤتمر من الحصول على اغلبية المقاعد، في مواجهة مجموعة من أحزاب المعارضة المنقسمة والمشتتة، ومن أسباب التشتت، الشعبية التي تمتعت بها الاحزاب المحلية الناشئة في بعض الولايات، لكن عندما بدأت تلك الأحزاب بالائتلاف فيما بينها وتقديم مرشحين مشتركين عنها مقابل مرشحي حزب المؤتمر( كما حصل في انتخابات 1977 و 1989) تلاشت اغلبية حزب المؤتمر. وأصبحت ظاهرة الأحزاب الإقليمية التي تتحكم في ولاية معينة ظاهرة ثابتة في الحياة السياسية الهندية منذ نحو ثلاثة عقود وعديد منها خرج من بطن حزب المؤتمر أو نشأ بسببه لأن حزب المؤتمر، الذي حكم الهند دون انقطاع عقب الاستقلال لنحو أربعة عقود، أهمل الكثير من الولايات والمناطق وتجاهل قادتها المحليين.
∙ يوجد في الميدان مئات الأحزاب الأخرى وبعضها أحزاب قوية ولكن نفوذها محصور في ولايات معينة ولها برامج إقليمية محدودة أو هي تدور حول بعض العائلات القوية، فقد كان هناك 464 حزباً في المعركة الانتخابية التي جرت في سنة 2014، وقد وصل عدد المتنافسين في احد الدوائر الانتخابية 185 مرشحاً، مع العلم ان الجهاز الالكتروني لا يسمح بأكثر من 64 مرشحاً، لذلك أُصدر أمر عاجل بجلب عدد كبير من الاجهزة المحدثة في الوقت المناسب.
∙ إن طبيعة النظام الانتخابي كانت تعني أن تغييرا طفيفا في أعداد الأصوات التي يحصل عليها كل حزب يمكن أن ينتج عنه تغييرات دراماتيكية في أعداد المقاعد التي يفوز بها حزب ما.
∙ يوزع النظام الانتخابي في الهندي الاصوات بين المرشحين على نفس المجموعات العرقية او الدينية او الولاية والذين يدخلون المنافسة الانتخابية فيما بينهم، وبهذا السياق فإن نظام الفائز الأول يدفع بالمشاركين في الانتخابات لتحفيز تعدد المرشحين من قبل معارضيهم، مما ينتج عنه في كثير من الأحيان فوز أحد المرشحين على الرغم من حصوله على عدد من الأصوات يقل بكثير عن الاغلبية المطلقة.
∙ على الرغم من التركيبة الاجتماعية متعددة الأعراق في الهند، الا ان النظام الانتخابي ما زال يحضى بقبول واسع، وذلك لكونه يخصص عددا من المقاعد للمجموعات المهمشة اجتماعياً والفئات والطبقات الفقيرة او القبائل الفقيرة، اذ ان هذه الفئات موزعة بشكل كبير على كافة أرجاء الهند، مما يجعل من الصعب عليها الحصول على تمثيل لائق لولا هذا التخصيص في ظل نظام الفائز الاول، وعليه فان الدستور الهندي يخصص لهذه الفئات دوائر انتخابية خاصة بها تتناسب مع احجامها، بحيث يخصص 79 مقعدا للطبقات الفقيرة التي تمثل 15% من مجموع السكان، و41 مقعدا للقبائل المهمشة والتي تمثل 8% بالمئة من مجموع السكان، وفي تلك الدوائر لا يمكن ترشيح سوى من ينتمون لتلك الفئات، على الرغم من مشاركة كافة الناخبين في الاقتراع، وهذا ما اشرت اليه المادة 330 من الدستور بعنوان حجز مقاعد في مجلس النواب للطبقات والقبائل المحرومة والمهمشة. قد كان هذا النظام الانتخابي معمول به في العراق في فترة العهد الملكي الذي كان يخصص بعض المقاعد للقبائل، لكنه لم يخصص مقاعد للطبقات الفقيرة والمهمشة، وهذا ما أخذت به الدساتير المصرية في العهد الجمهوري حتى ثورة يناير 2011 وسقوط دستور 1971، الذي خصص 50% من مقاعد مجلس الشعب للعمال والفلاحين، وقد تم تقليصها بشكل ملحوظ في الدستور الأخير.
∙ يدور نقاش في الهند من اجل تعديل الدستور لغرض تخصيص 33% لتمثيل النساء في مجلس النواب، بالرغم من تخصيص هذه النسبة من المقاعد للنساء في المجالس المحلية منذ سنة 1993، بهذه الناحية الدستور العراقي لسنة 2005 خصص للنساء 25% من مقاعد مجلس النواب، وهذه خاصية ايجابية للدستور العراقي والنظام الانتخابي بانحيازه للنساء بالمقارنة مع الهند.
∙ ان من اهم افرازات نظام الفائز الأول هو عدم حصول أكثر من ثلثي أعضاء مجلس النواب على نسبة 50% زائد واحد، في آخر ثلاث مجالس نيابية، وهذا يثلم من شرعية هذه المجالس، ولذلك اوصت اللجنة الوطنية لمراجعة الدستور في سنة 2004، بأن تقوم الحكومة ولجنة الانتخابات بدراسة دقيقة ومهنية لإمكانية إدخال نظام الجولتين، بحيث يشارك في الجولة الثانية، المرشحين الحاصلين على أعلى الاصوات فقط، والتي تعني اتباع النموذج الفرنسي. وهذا ما لم تأخذ به الجهات المختصة.
∙ دائما ما ينظر الى نظام الفائز الأول على انه أكثر ملائمة للبلدان التي يسيطر فيها حزبين كبيرين على ساحتها السياسية. أما في الهند، فقد استطاع حزب المؤتمر في ظل هذا النظام من السيطرة على السلطة دون انقطاع منذ عام 1952 الى عام 1977، دون أية معارضة قوية. وبعد انتهاء هذه السيطرة تحول الامر، اولاً الى صراع بين حزب واحد مقابل مجموعة من الأحزاب المؤتلفة، ومن ثم الى صراع بين ائتلافين كبيرين يضم كل منهما مجموعة من الاحزاب، ونجد بأن احد الاحزاب الكبيرة، حزب بهاراتيا جاناتا القومي- الهندوسي، والذي بدأ صعوده من حيث حضوره البرلماني من خلال أطروحات هندوسية ضيقة، قد تحول نحو اطروحات أكثر شمولية واتساعاً، بعد قيادته للحكومة لفترة برلمانية كاملة، حيث وجد نفسه مضطراً للبحث عن تأييد أوسع في أوساط المسلمين، والقبائل، والمجموعات الاخرى والتي كانت تعتبر في السابق على أنها تتبع لدوائر التأييد المطلق لحزب المؤتمر.
∙ تم إدخال أنظمة التصويت الإلكتروني، والتي بدأ العمل بها سنة 2004، وقد حظى باعتراض عدد من الأحزاب بسبب الادعاء بإمكانية التلاعب بالاصوات من خلال اختراق هذه الانظمة، لكن الحزبين الكبيرين، لم يتم الأخذ بتلك الاعتراضات.
∙ تسمح القوانين للمرشحين المتنافسين أنفاق 7 سبعة ملايين روبية على الحملات الانتخابية التي تتنافس على مقعد في مجلس النواب، لكن تفوق التكلفة الفعلية للفوز بذلك المقعد بعشر مرات تقريبا، بسبب الإنفاق على المؤتمرات الجماهيرية والحملات الاعلامية.
الخلاصة
إن الدستور الهندي النافذ قد نظم القانون الانتخابي دون الحاجة الى تدخل مجلس النواب، وان القانون الانتخابي وفق الفقه الدستوري من القوانين الاساسية ويختلف عن القوانين العادية ويعتبر من القوانين المكملة للدستور حاله حال قوانين السلطة القضائية والمحكمة الاتحادية والمعاهدات، ولا يتم اقراره الا بثلثي الاصوات ، وليس وفق الاغلبية البسيطة كما هو معمول به في العراق حيث يجري تعديل القانون الانتخابي عند كل دورة انتخابية مما يضعف من مكانة القاعدة القانونية التي تحتاج الى الاستمرارية والاستقرار لكي يتم التكيف معها، وهذا ما فات على المشرع الدستوري العراقي الأخذ به، لكان قد جنبنا الكثير من الجهد والنقاشات المتعبة عند قرب كل دورة انتخابية وضياع فرص التأقلم مع أول قانون انتخابي تم العمل بموجبه عند انتخاب الجمعية الوطنية سنة 2005.