19 ديسمبر، 2024 12:04 ص

الهم الاكبر والهم الاصغر

الهم الاكبر والهم الاصغر

بداية الكلام حقيقة خافية على الكثيرين اود ان اشارككم بها وهي ان الله تعالى خلقنا واودع فينا ما اودع من جوهرة العقل وروح من نفخة ربانية وجسد من طين من حمأ مسنون لنتكامل معنوياً وروحياً وفكرياً وعلمياً ومصداق هذا الكلام قوله تعالى في حديث قدسي ( كنت كنزاً مخفياً فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق ليعرفوني) وهذا الحديث اوسع انتشاراً من ان يحتاج الى دليل او مصدر وفي خضم هذا التكامل المفترض يمكن ان يكون التكامل المادي والعمراني وتعمير الارض ناتجاً عرضياً لعملية التكامل الروحي ويمكن ان يكون عاملاً مساعداً وأحد وسائل الوصول الى الهدف الاسمى وهو عمارة الروح بمعرفة الله تعالى وعبادته كما يستحق ولكن في ظل هذا الطريق وهذه المسيرة فقد اوجد تعالى في الكائن البشري امكانيات مادية ومعنوية تقترب وتبتعد عن الهدف والغاية منها ليست كما يدعي البعض ان نستغلها كيفما نريد وانما اوجدها تعالى واوجد الى جانبها قوانين وانظمة وتعاليم تحكم كيفية استخدامها وهي لم توجد اصلاً لنتصرف بها بأهوائنا ورغباتنا وانما لتكون وسائل لبلوغ الهدف ومنها القوة الجسمانية والقوة الغريزية وحب التملك وحب النفس والعاطفة الانسانية والتي كلها يمكن ان تكون قائداً ومساعداً للإنسان للوصول الى الهدف ان اجيد استخدامها ويمكنها ايضاً ان تكون الاعيب بيد الشيطان والهوى لتنفيذ عكس ما يريد رب العالمين.
كانت تلك مقدمة لابد منها واما لب الحديث فيتمحور حول هموم البشر وكيفية تركيزها في مكانها الصحيح وموضوعها المناسب فنحن نرى ان البشر تتفاوت همومهم وآلامهم وامالهم وتطلعاتهم ومحاور تفكيرهم بين من يفكر في نفسه فقط ومن يفكر بعائلته فقط ومن يفكر في مجتمعه فقط ومن يفكر في بلده فقط وبين من يفكر في الوجود ككل ولا ضير في التفكير بأي منها ولكن ضمن حدود وقيود ادعي اني رفت بعضها وغابت عني اخرى والله اعلم بها واليكم ما اعتقد:
لما كانت احوال البشر متفاوتة بين ذكي وغبي ومترف وفقير ومقتدر وعاجز ومسؤول ومواطن عادي وميسور الحال ومن ابتلي بسوء الاحوال وغيرها الكثير من التقسيمات المادية والمعنوية بين البشر فلا بد في البداية ان نرى هل لهذا التقسيم من مبرر معقول؟ والواقع يقول نعم ولا في نفس الوقت!
كيف ذلك؟
دعوني اوضح لكم:
الله تعالى يقول في محكم كتابه الكريم (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾ سورة الزخرف
اذاً تقسيم البشر الى درجات متفاوتة  شيء حتمي ولكن لأي غرض؟ لا لغرض ان يتسلط الناس على رقاب بعضهم ويستذلوا بعضهم ويحتقروا بعضهم ويستعبد بعضهم بعضاً وانما لتكامل الحياة فلو كان الكل ملوكاً مقتدرين فمن سيزرع ومن سيحصد ومن سيبيع ومن سيشتري ومن سينظف ومن سيعمل وينتج؟
قطعاً لا يمكن بحال من الاحوال تصور مجتمع كله غني او كله مسؤول او كله مترف فهذا خلاف الواقع وخلاف المنطق نعم يجب ان يكون هناك تدرج وظيفي وعلمي وعملي واداري واقتصادي لضمان استمرار الحركة والحياة فلو امتلك كل الناس كل ما يحتاجون فلن يبقى من داعي للعمل والحركة وسيقتلهم الملل والركود وتجلط الدم في العروق!
ولكن ما الخلل في الموجود ان كانت الفوارق مبررة؟
الخلل احبتي ان النظام السماوي يفترض لكل انسان الحد الادنى من الحقوق فالقادر على العمل يجب ان يجد فرصة للعمل والمقعد والعاجز يجب ان يجد دولة تعيله وعائلته والغني يجب ان يعطي الخمس والزكاة والصدقة من امواله لأعالة الفقراء والمحرومين والعاجزين وهكذا يجب ان تكون هناك حالة من التكامل المادي والمعنوي وان لا يبقى جائع على الطرقات والارصفة وان لا يحتار شخص فيما يفعل ليوفر رغيف خبزه وان لا يبات شخص متخوماً تؤلمه بطنه من التخمة وينام اخر مقعر البطن تؤلمه احشاؤه من الجوع وهذا هو الخلل الاكبر الذي كان ولا يزال يقف حجر عثرة امام التكامل المادي والمعنوي ويعطل قيام الانسان بدوره في خلاف الارض.
على كل حال هناك امور تعتبر واقع لا مفر منه ومنها الفوارق الطبقية والظلم الاجتماعي والاقتصادي الذي ذكرناه انفاً ولكن هذه الامور تستتبع نتائج يجب اخذها بعين الاعتبار
فمن الامور التي يختلف عليها الناس منذ الازل هو المسؤولية العامة والخاصة فالبعض يتحدث من منطلق المسؤولية العامة دينياً واجتماعياً واخلاقياً وثقافياً واقتصادياً في حين يرى اخرون انهم غير مسؤولين الا عن انفسهم واهليهم وذويهم بول ويتمادى اخرون في أنانيتهم في تسخير انفسهم وجهودهم لأنفسهم فقط ويعملون على تسخير كل من حولهم لأنفسهم فقط وهو لعمري قمة الانانية الفردية التي ابتلي بها الكثيرون ولا يخلوا منها مجتمع اطلاقاً وفي الوقت الذي يرفض فيه اصحاب الحس العام والشعور العام بالمسؤولية انانية الاخرين يرفض الانانيون فكرة تدخل الاخرين في شؤونهم الخاصة ويستمر الصراع.
ما هو الحل اذاً؟
كما ذكرت سابقاً سأتحدث عن فكرة اراها صائبة برأيي والله اعلم . فأنا ارى ان التقسيم الذهني والفكري والعلمي والعملي والاجتماعي والاقتصادي بين البشر لا ينشأ من فراغ بل له مسبباته ومبرراته صحت او لم تصح ولكنها موجودة وهذا يلقي على عاتق المترف مادياً مسؤولية عامة وفي نفس الوقت يخلي الفقير من تلك المسؤولية وهذا هو طبق ما جاءت به شريعة السماء فالغني يوجد في امواله حق للسائل والمحروم والفقير امواله له فقط وكذلك الغني علمياً والعالم والمختص مسؤول بشكل عام عن الاخرين وعليه دور نشر العلم في حين يخلوا الفقير علمياً من تلك المسؤولية وتراه بالكاد يمشي حاله بين الكبار ونفس الامر ينطبق على المسؤول ادارياً واقتصادياً وسياسياً فأنه يتحمل مسؤولية عامة تجاه الاخرين في حين لا يتحمل المواطن العادي مثل تلك المسؤولية بنفس الطريقة ( قطعاً ان استثنينا الشعور العام بالمسؤولة الذي يجب ان يتحلى به الكل تجاه الكل) ومن هنا وجب على من يجد في نفسه الكفاءة والقدرة مادياً ومعنوياً وادارياً ان يتحمل مسؤولياته تجاه الاخرين ككل وان يكون همه الاكبر ( الصالح العام) في حين يكتفي الفقير مادياً معنوياً وعلمياً بالهم الاصغر به وبعياله وبما يسد رمقه ويبقى عليه ان يتبع المختصين في مجال تخصصاتهم ولا يدعي لنفسه العلم والفهم في كل شيء فما يصرف فيه هو ساعة من نهار لفهمه يصرف فيه اخرون اعماراً واعماراً وما يقرره المسؤول مسؤولية عامة يجب ان يكون ملزماً للأخرين بشرط عدم تعارضه مع الهدف المشترك (الصالح العام) والا وجب تغيير ذلك المسؤول والبحث عن غيره وهذا يجعلني اتجرأ على القول انه في دولة المثاليات الاخلاقية والدينية يفترض بالدولة ان تسحب حتى اموال الغني الذي لا يؤتي للفقراء حقهم منها وتمنحها لمن هو اجدر واكفأ واقدر على تحمل مسؤولية الغنى وكذلك الحال بالنسبة للمسؤول دينياً واقتصادياً وادارياً وسياسياً ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.