23 ديسمبر، 2024 6:51 ص

الهلع من المعارضة التقاليد الديمقراطية في السياسة العراقية

الهلع من المعارضة التقاليد الديمقراطية في السياسة العراقية

منذ أن أدركت المجتمعات البشرية ظاهرة السلطة ، وهي تتعايش مع حقيقة سوسيوسياسية مضمونها ؛ أن ما من سلطة شغلت فضاء العلاقات العامة ، وتصدّرت لقياد زمام الشأن السياسي ، إلاّ وكانت مقترنة بوجود نمط من أنماط المعارضة ؛ سواء أكانت سرية أو علنية ، عنيفة أو سلمية ، إيديولوجية أو حزبية . لا بل حتى إن مفهوم السلطة لا تستقيم دلالته الوظيفية ، إلاّ من خلال ما يوحي بحيازة طرف معين لمقومات القسر والإجبار من جهة ، وخضوع الطرف الآخر لشروط الطاعة والامتثال من جهة أخرى . ومن جملة الأمور التي حالت دون تحقيق (المعجزة) الديمقراطية في بلدان العالم الثالث ، ليس فقط ما أشيع عن فساد نظمها السياسية ، وتخلف بناها الاجتماعية ، وتأخر أنماطها الحضارية ، وتكلس أنساقها الثقافية فحسب ، إنما – بالدرجة الأساس – غياب معنى الاختلاف في عناصرها السوسيولوجية ، وضمور وعي التنوع في مكوناتها الانثروبولوجية ، وانعدام إدراك التباين في خلفياتها الرمزية . ولهذا فان كل من استحوذ على مقاليد السلطة ، سواء كان من زعماء الحركات الوطنية ، أو من قادة الثكنات العسكرية ، تعاملوا مع المجتمع وكأنه وحدة متجانسة ، وتعاطوا مع التاريخ وكأنه سيرورة خطية ، وفهموا الدين وكأنه عقيدة شاملة ، وأدركوا الثقافة وكأنها تصور أوحد ، واستوعبوا الهوية وكأنها وعاء جامع ، وتصوروا المخيال وكأنه خلفية مشتركة . وهو الأمر الذي أدخل في روعهم إن أي شكل من أشكال المعارضة أو أي نوع من أنواع الممانعة ، قمين بإثارة حفيظتهم وإشعال فتيل مخاوفهم ، ليس بدافع الحرص على وحدة المجتمع والغيرة على مصالح الوطن ، إنما بوازع البقاء في السلطة والتشبث بالنظام والاستمرار بالحكم . بحيث لم تعد تعتبر(المعارضة) حالة خروج عن (الإجماع الوطني) تستدعي الإدانة ، أو تطاول على (الشرعية الدستورية) تستأهل القصاص فحسب ، بل وكذلك (مرض خطير) ينبغي التخلص منه بأي ثمن ، أو(خيانة عظمى) يتوجب استئصالها مهما كانت النتائج . ولأن الممارسة السياسية في عرف الشعوب المتخلفة ، هي السبيل السريع والمضمون لبلوغ المآرب الشخصية وتحقيق المصالح الفئوية ، فقد بات من المتعذر إن لم يكن المستحيل على من يلج معترك هذا الميدان ، قبول فكرة الإقصاء عن المعادلة السلطوية ، والموافقة على لعب دور المعارض المزاح عن المكاسب والمبعد عن الامتيازات . ولذلك فقد كان العنف (المادي والرمزي) بين المتخاصمين هو اللغة الوحيدة المعمول بها والمعول عليها في هذا الإطار. بحيث إن أي فريق يجد نفسه وقد سيق لهذا المأزق الخانق ، لا يعدو أن يعيش حالة من الهلع الدائم والرعب المستمر ، ليس فقط لأنه فقد زمام المبادرة التي كان من الممكن أن تضع بين يديه خيوط اللعبة ، وتمنحه إمكانية التحكم بمداخلها ومخارجها وفقا”لرغبته ومزاجه ، إنما خشية بطش السلطة التي استبعد منها وعنف أربابها الذين نافسهم عليها . ومن هذا المنطلق فقد تواضع العراقيين على واقعة ؛ إن للسياسة مدخل واحد لا يحتمل التعدد ولا يقبل المشاركة ، سمته تجاهل التقيد بالقواعد وعدم الالتزام بالقوانين . فإما أن تزيح خصمك – بكل السبل – لتفوز بالكعكة وتبلغ القمة ، وإما أن يطيح بك خصمك – بمختلف الوسائل – لتخسر فرصتك وتهوي إلى الحضيض . ولهذا فلا عجب والحالة هذه أن يكون طريق السلطة السياسية في العراق معبد بالجثث ومعفر بالدم ، طالما إن الصيغ (الصفرية) هي سيد الأحكام في العلاقات والتعاملات . فمنذ أن أبصرت الدولة العراقية نور الممارسة السياسية ، وهي ماضية في التهام أبنائها ممن احتسبوا على جبهة الفالق الآخر من المعادلة ، ليكونوا معارضين بالاختيار أو مناوئين بالإرادة . ولذلك فمن الخطأ وصمها بأنها دولة طائفية أو عنصرية ، إلاّ من باب زيادة تأثيمها ومضاعفة تجريمها ليس إلا . فظواهر العنف التي استوطنت تاريخها ، ومظاهر القسوة التي وسمت ممارساتها ، لم تكن موجه إلى هذه الطرف أو ذاك بالوصف الطائفي أو العنصري – الذي بات شائعا”هذه الأيام – بقدر ما كان موجها”ضد كل من يعارض (حقها) المطلق في النظام الذي يناسب سياساتها ، (وامتيازها) الشرعي  في الحكومة التي تلائم توجهاتها . ونحن إذ نتحدث عن أساليب الدولة العراقية ، في مضمار استثمار سلطتها داخل نطاق المجتمع ، بغية تفكيكه إلى عناصر وتشطيره إلى مكونات ، ومن ثم ، تصنيف هذه وتلك حسب درجة ولائها ، لا نروم هنا توجيه الاتهام إليها من حيث هي (فكرة) مجردة – كما وصفها الفقيه الفرنسي جورج بوردو – إنما من حيث هي (ممارسة) فعلية قام بها أشخاص واقعيين ، عبر شبكة من الأجهزة الفاعلة والمؤسسات الداعمة . ولهذا فقد ترسخت – مع تكرار التجربة – في وعي المواطن العراقي ظاهرة (التشخصن) للسلطة ، لا من حيث هي مفهوم يتحدد بالقوة لفرض النظام وبالعنف لقمع الفوضى وبالإكراه لردع التسيب ، وإنما من حيث هي واقع يتجسّد في الأشخاص كأوثان مؤلهة ، والرموز كايقونات مبجلة ، والخطابات كنصوص مقدسة . فالمرء حين يلج عرين السياسة للانخراط في اتونها ، لا يفكر في مثالب الأولى من منطلق كونها القاعدة ، بقدر ما يخشى عواقب الثانية من واقع كونها الاستثناء . ذلك لأن (( سلطة الدولة – كما جادل المفكر اللبناني ناصيف نصّار- لا تتماهى مع سلطة الحاكم ولا ترتد إليها . وان من أكثر الأخطاء في النظر إلى السلطة السياسية ، الخلط بين سلطة الحاكم وسلطة الدولة ، بكيفية تؤدي إلى جعل سلطة الحاكم تتماهى مع سلطة الدولة ، أو إلى جعل سلطة الدولة ترتد إلى سلطة الحاكم )) . وكحصيلة لما تقدم فان أزمة تشكيل الحكومة العراقية الحالية ، على سبيل المثال ، هي بالواقع أزمة مركبة على أكثر من مستوى وإشكالية معقدة على أكثر من صعيد ، ناجمة عن تداخل عوامل كثيرة وتشابك عناصر متعددة ، ينبغي أن توضع بالحسان إذا ما أريد فهم حالة الاستعصاء التي تعاني منها ؛ فهي أزمة (سياسية) لأنها تتصل بنمط علاقات القوى السائد بين الأطراف المعنية ، وما تمخض عنها من حساسيات عنصرية واستقطابات مذهبية وصراعات اجتماعية . وهي أزمة (نفسية) لأنها تتعلق بطبيعة الشخصية العراقية ذاتها ، وما تراكم في وعيها من ترسبات تاريخية ومخلفات أسطورية . وهي أزمة (ثقافية) لأنها تتمثل بأنساق القيم وتراتب الأخلاقيات ، وما أفرزته من علاقات متنابذة وذهنيات متقاطعة . بحيث أضحى الاتفاق على صيغة تفتح مغاليق الأمور العالقة ، وتخفّض مناسيب القضايا الساخنة ، وتتيح ، من ثم ، التقارب البيني وتفضي إلى الحلول الواقعية أمرا”متعذرا”إن لم يكن مستحيلا”. والطامة الكبرى إن كل يمتهن العمل السياسي في العراق ، لا يبرع في شيء قدر براعته في إشهار ولائه للديمقراطية كخطابات وادعاءات ، وإضمار ازدرائه لقيمها كممارسات ومؤسسات . ولهذا فهو حين يكون في السلطة ، لا يني يتحدث عن مزايا الشراكة السياسية في إدارة الشأن العام ، إلاّ انه في واقع الأمر لا يتورع عن إقصاء المخالفين للعقيدة التي يؤمن بها ، واستئصال المعارضين للنظام الذي ينعم بسلطانه . ولا يبخل في استعراض مناقب التداول السلمي للسلطة والتنازل عن عرشها طوعا”، إلاّ انه في الحقيقة لن يتردد في اللجوء إلى أبشع أنواع العنف وأقسى صنوف البطش بالمنافسين والطامحين ، لأجل أن يحتفظ بكرسي الرئاسة مدى الحياة . ولا يخفي ابتهاجه في حسنات التعدد الحزبي والتنوع الإيديولوجي ، فضلا”عن ايجابيات قبول الآخر القومي واستيعاب الغير الديني ، إلاّ انه في التجربة لن يألوا جهدا”في التشبث بكل ما من شأنه ؛ جعله الأوحد في مكانه ، والمطلق في زمانه ، والأنبل في سلالته ، والأقدس في ديانته . أما حين يكون ضمن صفوف المعارضين للنظام والخارجين عن طوع السلطة ، فانه لا يستثني لفظا”في قاموس الهجاء السياسي ، ولا يستبعد مفردة في أرشيف القدح الإيديولوجي ، دون أن يستخدمها في حربه ضد السلطة ورموزها والنظام وأربابه . لذلك تجده دائم الشكوى سريع الانفعال كثير التبرّم ، يتسقط الهفوات مهما كانت تافهة ويؤشر الهنات مهما كانت بسيطة ، معزوفاته المفضلة انعدام الحريات وفقدان الحقوق ، فضلا”عن ترسانة مثالب قمع الآراء المخالفة وعيوب ردع الأفكار المغايرة ، حتى وان كان هو نفسه يضمر ذات النوازع ويخفي نفس الدوافع ، فيما لو أتيحت له فرصة اعتلاء عرش السلطة وامتلاك أعنة النظام . كما إن لازمة الديمقراطية ستكون لديه بمثابة التعويذة ، التي يحاول من خلالها إبطال سحر الهيمنة الإيديولوجية بالتمنيات لا بالممارسات ، وإسقاط هيبة الدولة الشمولية بالخيال لا بالواقع ، وإزاحة سطوة السلطة التعسفية بالأقوال لا بالأفعال . ففي الوقت الذي تعارض فيه سياسات النظام القائم ، بما تحفظه من شعارات ديمقراطية جاهزة ، وتناهض إجراءات السلطة الفعلية ، بما تحتكم عليه من صيغ ليبرالية مفبركة . ليس في وسع عناصر المعارضة التنازل عما تطالب به الآخرين للتخلي عنه ، كما ليس في وارد نيتها العدول عما تدين به الغير للزهد فيه . ذلك لأنها على قناعة تامة وإيمان مطلق ، بأنه حالما تتيح لها الظروف الموضوعية والإمكانيات الذاتية ، فرصة تبوأ مراكز المسؤولية القيادية في الدولة والمجتمع ، فهي لن تقيم وزنا”ولا تضع اعتبارا”لأية معارضة ؛ سواء أكانت في حقول السياسات (أحزاب وتكتلات) ، أو ميادين الفكريات (نظريات وإيديولوجيات) ، أو في مضامير المعتقدات (أديان ومذاهب) ، أو في فضاء التمثلات (أساطير وخرافات) ، أو في أصول الجماعات (أقوام وسلالات) ، غايتها القصوى حينذاك تظهير الدولة باسمها وتجيير النظام لحسابها وتفصيل السلطة على مقاسها . مثلما إن من يحكم قبضته على الدولة ويتبختر بصولجان سلطتها ، سوف لن يحيد قيد أنملة عما كانت تمارسه المعارضة وتلجأ إليه ، فيما لو فقد مقومات  الاحتفاظ بالهيمنة وخسر شروط الاستمرار بالسيطرة ، طوعا”وهو الاستثناء أو كرها”وهو القاعدة . وهكذا فالتقاليد السياسية التي شبّ عليها الإنسان العراقي ، واجتاف مثلها عقله الباطن ، لم تتح له التعاطي مع حقيقية أساسية وهي أن السلطة بغير معارضة ، لا بد أن تتحول إلى طغيان مفجع ، مثلما إن المعارضة بدون سلطة لن تفضي إلى الحرمان المدقع ، طالما إن جميع الأطراف تعمل وفقا”لمصالح الشعب وثوابت الوطن . ومن ثم ترسيخ القناعة بأن وظيفة السلطة ، ما هي إلاّ تكليف دوري وتفويض مشروط ، ليس فقط لإدارة دفة السلطة بما يحقق الاستقرار السياسي ويضمن السلم الاجتماعي ، أو رعاية المصالح العامة بما يصون التفاعل مع الآخر والتواصل مع الغير فحسب ، إنما قبول المعارض في عرين السياسة ، والمخالف في رحاب الفكر ، والمغاير في ميتافيزيقا المعتقد ، والمفارق في هلاوس التاريخ ، والمباين في فنتازيا الذاكرة . وفي ضوء هذه المعطيات فان محاولات توطين الفكرة الديمقراطية في الوعي السياسي العراقي ، وممارسات تبيئة قيمها في منظوماته العرفية وعلاقاته الاجتماعية ، لا تبدو فقط جهود سابقة لأوانها بل وفي غير محلها أيضا”، ما لم تتخلص الجماعات السياسية العراقية من هواجس الاستحواذ على السلطة دون منافسين ، وكأنها حق الهي وهبة سلطانية من جهة ، ومخاوف الوقوع في مصيدة المعارضين وفخ المناوئين ، وكأنها لعنة شؤوم وطالع تهلكة من جهة أخرى . واللافت في الأمران الأساليب المتبعة من قبل المنخرطين في العمل السياسي ، لا تتم في أروقة اللغة كنمط من أنماط الحوار ، لتغليب الشأن العام على الشأن الخاص فحسب . ولا في رحاب الفكر كصيغة من صيغ المناقشة لإيثار المصالح العاليا على المصالح الدنيا فحسب . ولا حتى في متاهات الايديولوجيا كوسيلة من وسائل تعظيم الولاء الجمعي على الولاء الفرعي فحسب . إنما تجري على أرضية الإقصاء التام والإبعاد الكلي والاستئصال الجذري والتنكيل الشامل ، بحيث يصبح العنف والعنف المضاد ، هو اللوثة التي تصيب الكل والجرثومة التي تعدي الجميع . ولذلك تبدو السلطة في أعين البعض الضمانة الوحيدة للبقاء ، هذا في حين تبدو المعارضة للبعض الآخر السبيل المؤدي للفناء ، وهذا ما يفسر سرّ تمسك البعض الأول بمقاليد السلطة ، بصرف النظر عما يحيط هذا الإصرار من دواعي الشك في النوايا والريبة في المواقف . كما إن تطير البعض الثاني من التموضع في خانة المعارضة ، قمين له إن يفسر لنا ، بالقدر ذاته ، سرّ تلك الممانعة المتشددة وخبايا ذلك الهلع المفرط . ولعل ما يظهر مقدار أميتنا في أبجديات السياسة ، ومستوى جهلنا بعلاقات الاجتماع ، ودرجة تخلفنا بإرهاصات الوعي ، هو إننا لم نتعلم قط من تجارب الآخرين ، حين تغلبوا على مزاعم حكمة السلطة المطلقة وعصمة الحاكم الديني ، بالرغم من ادعائنا المتواصل أنهم استوعبوا تجاربنا وتمثلوا معطيات حضارتنا . كما لم نتعظ نهائيا”بدروس الغير ونحذو حذوهم وننسج على منوالهم ، عندما أدركوا إن وحدة اجتماعهم المدني لا تكمن في بوتقة الصهر القومي والديني ، بقدر ما تكمن في تنوعهم الاثني واللغوي والمذهبي . وان قوة اجتماعهم السياسي لا تتحقق عبر احتوائهم التنظيمي والإيديولوجي ، بقدر ما تتحقق في تعددهم الحزبي والانتمائي . وان رصانة وعيهم الاجتماعي لا تتجسّد عبر تعليبهم الفكري وتنميطهم الذهني ، بقدر ما تتجسّد في تباينهم الثقافي والقيمي والعرفي  . وان تطور علومهم وتقنياتهم لا تتمظهر عبر مقدساتهم الدينية ومحرماتهم السردية وتابواتهم الأسطورية ، بقدر ما تتمظهر في حريتهم الفكرية والنقدية والتأويلية . وان ثراء إنجازاتهم الحضارية لا تتقوم عبر انعزالهم الجغرافي وانغلاقهم الفكري وتقوقعهم التاريخي ، بقدر ما تتقوم في مرونة علاقاتهم وسهولة تواصلهم وبساطة انفتاحهم . ولهذا لم تعد ظاهرة (المعارضة) في تلك البلدان ، بما هي اختلاف في الانتماء السياسي / الحزبي ، وتباين في الاعتقاد الديني / المذهبي ، وتنوع في الخيار الفكري / الإيديولوجي ، وتعدد في المنحدر القومي / الاثني ، وتغاير في الأصل الثقافي / اللغوي . حدثا”طارئا”في حياتهم الاجتماعية وواقعة آنية في ممارستهم السياسية ، إنما باتت جزء حيوي من تكوينهم كمجتمعات ، وعنصر مصيري في تنظيمهم كحكومات ، ومطلب أساسي في سيرورتهم كحضارات . بمعنى إن صيغة المعارضة سواء في بعدها السياسي أو الاجتماعي أو الإيديولوجي أو الديني أو المذهبي ، لم تعد تحمل دلالات الإقصاء والتهميش والإبعاد والاستئصال والحرمان ، بقدر أضحت تعني المشاركة عند بعد عبر المراقبة ، والإسهام من خلف الكواليس عبر النقد ، والتدخل من وراء الحجاب عبر المساءلة . لاسيما وان ظواهر تأبيد الحاكم الأوحد ، وتمجيد الحزب القائد ، وتسييد الايديولوجيا الوحيدة ، باتت من مخلفات الماضي الغابر وتركات عصر الجهالة من جهة ، وان إمكانية الوصول إلى السلطة وامتلاك ناصية النظام وحيازة مقاليد الدولة ، أضحت مشرعة أمام من الجميع ، لا بناء على اعتبارات القوة العسكرية والجسارة الثورية ، إنما وفقا”لمقومات الأهلية والكفاءة والنزاهة والشعور بالمسؤولية ، ولا بناء على احتمالات البقاء مدى الحياة باسم الدين أو القومية أو الحزب أو المذهب أو الطائفة ، إنما وفقا”لضمانات الشرعية الدستورية والدورة الانتخابية والصلاحية النسبية من جهة أخرى . هذا في حين إن سيكولوجيا الجماعات العراقية المنخرطة في أتون اللعبة السياسية ، مبنية على تحيّن الفرص للانقضاض على السلطة ، بصرف النظر عما إذا كانت ملكية أم جمهورية ، واهتبال الظروف للانتقام من رموزها ، بصرف النظر عما إذا كانوا أشرار أم أبرار . ويكفي أن تستعرض المصير المأساوي الذي آلت إليه تجارب (النظام الملكي) ولا حقا”(النظام الجمهوري) ، للدلالة على شذوذ هذا المنحى الدراماتيكي . وهو الأمر الذي كرس عوامل القلق البيني ، وعزز مشاعر الخوف المتبادل لدى الأطراف المعنية ، على خلفية إن الذي يمسك بمقاليد السلطة ، لا يمعن فقط بالاستحواذ على كل مقومات الهيمنة والتحكم بجميع منافذ السيطرة ، خشية ردود أفعال خصومه ومنافسيه (= معارضيه) فحسب – التي غالبا”ما تكون تآمرية وعدوانية –  إنما يفرط في حرمانهم من كل وسيلة ممكنة (مادية أو معنوية) ، تكون لهم عونا”في صراعهم ضد أشكال تسلطه وأنواع تعسفه . وطالما أن السلطة لم تترك مجالا”أمام قوى (المعارضة) ، لإسماع صوتها والتعبير عن نفسها والمطالبة بحقها ، وبالتالي التخفيف من احتقانها السياسي والتلطيف من تأزمها النفسي  . فان هذه الأخيرة ستكون والحالة هذه ، مجبرة على اختيار طريق الإزاحة بالقوة بدلا”من إجراءات التحاور والتناظر ، ومضطرة لانتهاج سبيل الإطاحة بالعنف بدلا”من آليات التفاهم والتقاسم . ليس فقط لقلب المعادلة السياسية وتغيير أقطابها والظفر بالسلطة فحسب ، وإنما لتكيل الصاع صاعين لمن كان سببا”في حرمانها حقها في السلطة ، وعاملا”على إقصائها عن دورها في الحكم ، ومن ثم إرغام مستعبديها على الارتشاف من ذات الكأس ، التي كانوا قد أذاقوها مرارته ذات يوم . وهكذا وفي ضوء هذه الوضعية المأزقية في السياسة العراقية ، ليس هناك من يجرؤ على تخطي إطار هذه الحلقة الجهنمية ، التي لم تبرح تذر قرن الخلاف الإشكالي المستديم ، بين أطراف الوطن الواحد القضية الهدف نفسه والمصير المشترك .