23 ديسمبر، 2024 7:04 ص

الهلال الشيعي إلى أين؟؟

الهلال الشيعي إلى أين؟؟

مبكرا، وبالتحديد في 2004 غضبت إيران وطوابيرها العربية الخامسة جدا على الملك عبد الله الثاني حين عبر عن تخوفه من وصول حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال يخضع للنفوذ الشيعي يمتد إلى لبنان، ويخل بالتوازن القائم في المنطقة.

ولو عدنا إلى آرشيف صحافة تلك الأيام لوجدنا فيها طوفانا من مقالات وتصريحات تندد بالتصريح، وتتهم صاحبه، صراحة، بالطائفية، وبتفريق الصفوف.

ثم جاءت الأحداث الأخيرة في اليمن، بشكل خاص، فاصبحنا نجد قادة إيرانيين كبارا جدا يفاخرون بالهلال الشيعي، ويبشرون به، ويعلنون التمسك به، والعمل على توسيعه وترسيخه. آخرهم قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري الذي أعلن أن “تدخلات إيران في اليمن وسوريا تأتي في إطار توسع خارطة الهلال الشيعي في المنطقة”.

في هذا الوقت بالذات، والهلال يتلقى أقسى الضربات في اليمن وسوريا، ليس منتظرا أن يعترف قادة النظام الإيراني بالهزائم تلك، فيحبطون أتباعهم ووكلاءهم العراقيين والسوريين واللبنانيين والحوثيين، ويشفوا غليل خصومهم الكثيرين. ولكن كان عليهم، فقط، أن يكفوا عن التبجح بالانتصارات، وهم قبل غيرهم يعرفون ما يجري على الأرض على جميع الجبهات. فتصريحات نارية من هذا النوع تضر بإيران ولا تنفعها، لعدة اعتبارات:

أولها أنها تعطي انطباعا بأن النظام الإيراني كله، من رأسه إلى أساسه، مصاب بهذيان الحمى، أو عدم نضوج وجهل في السياسة. لأنه، وفي هذه الأيام العصيبة بالذات، أحوج ما يكون إلى (التقية) لتهدأة خواطر خصومه، وكسب مزيد الوقت لالتقاط الأنفاس وتلطيف المآزق المتلاحقة التي تحاصره في الخارج، وفي الداخل، أيضا.

والثاني أن هذا الخطاب المتشنج يذكر الناس كثيرا بلغة محمد سعيد الصحاف الثورية النارية في أواخر أيام النظام، حين كان يخطب في ساحة الفردوس، وهو باللباس العسكري، مبشرا بانتصارات دامية للحرس الجمهوري على (علوج) الاحتلال الأمريكي، وكاميرات تلفزيونات العالم تنقل للملايين من مشاهديها صور الدبابات الأمريكية وهي تتدفق على مطار صدام وجسور الأحرار والجمهورية والشهداء، وهو لا يدري. الأمر الذي جعله مضرب مثل في المكابرة والعمى السياسي والغرور.

والثالث أن تصريحات من هذا النوع تفضح حقيقة أحلام النظام الإيراني وطموحه ومخططاته، وتكشف عن تصميمه على مواصلة سياسة التحدي والمكاسرة والتدخل في شؤون الدول الأخرى. وتثبت أن دعاوى المقاومة والممانعة ومحاربة الاستكبار و(الموت لأمريكا) وتدمير إسرائيل ليست سوى أقنعة شمعية مائعة لا تخدع غير أصحابها.

والرابع أنها توقظ في المواطن الشيعي العربي نباهته ووعيه، وتجعله يكتشف أن غلاة القوميين الفرس يستخدمون الخطاب المذهبي الشيعي لاستغفاله واستغلاله وتوظيفه لخدمة

مشاريع الهيمنة الإيرانية القومية الفارسية على بلاده وأهله، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بآلاف الشهداء والجرحى والمعوقين والمفقودين من أبناء الطائفة الشيعية العربية، قبل غيرها، وقطع أرزاقهم، وإنهاء وجودهم في الدول التي فتحت لهم خزائنها وجعلت من كثيرين منهم أثرياء وقادة وزعماء.

والخامس أن تصريحات من هذا النوع تثبت أن النظام الحاكم في إيران غير راشد، لأنه يغزو وغيرُه عائد من غزو. فهو يصر على أن يتوسع، عسكريا، في زمن لم يعد مناسبا للتوسع في بالد الغير بالبطش والقتل والحرق وتهديم القرى والمدن، وحرق المزارع، وتسميم الأنهار، وتهديد سلامة موانئها ومطاراتها الآمنة.

فنحن اليوم في زمن أجبر دولا كبرى مؤهلة وقادرة على الغزو والاحتلال على ترك مستعمراتها، وإعادة جنودها إلى أهلهم، واستبدال احتلال عسكري باهض الثمن، ماليا وسياسيا وبشريا، باحتلال آخر أنعم ولكن أشد قوة وأكثر حنكة ومنفعة، وأقل كلفة. وهاهي اليوم تتسابق فيما بينها على بيع مستعمراتها القديمة أطنانا من القمح والشعير والدواء، والمدافع والصواريخ والأقمار الصناعية والهواتف الذكية وغوفل وياهو ومايكروسوفت وغيرها.

أمريكا تركت العراق يغلي وخرجت من بابه بأقل الخسائر، لتعود إليه من شباكه بائعة طائرات ودبابات ومدربين عسكريين، وخبراء تدريب وتأهيل وتوجيه، وشركات حماية لرؤسائه ووزرائه ونوابه المُهددين بالمفخخات. بل إن أهل سُنته الذي قتلوا بالأمس مئات من جنودها، باسم المقاومة، أصبحوا اليوم يتقاطرون عليها زرافات ووحدانا طالبين سلاحا ومودة وإعانة على فصل محافظاتهم عن جمهورية هادي العامري وقيس الخزعلي وقاسم سليماني.

ثم بعد ذلك بقليل خرجت من أفغانستان، وقبلها من فيتنام، وقبل قبلها من اليابان ومن كوريا ومن كل مستعمراتها السابقة. وهاهي، بكل جبروتها، تتحالف مع عدوتها الصين، وترمي برؤوس أموال أثريائها في فيتنام وأندونيسيا وكمبوديا وماليزيا وكوريا، وتبيعها ماكدونالد وبرغركنغ وبيزا هوت وأفلاما حربية تمجد بطولات جنودها وهم يقتلون الجنود اليابانيين والفيتناميين ويحرقون مزارع الفلاحين في الصين.

وقبل ذلك بزمن طويل تخلت بريطانيا العظمى عن الهند، جوهرة تاجها، ورضيت بأن تتحول هي ذاتها إلى مستعمرة هندية من نوع جديد مثمر ومفيد.

وقبل هذا وذاك ركب نابليون بونابرت سفية العودة إلى بلاده تاركا وراءه ذكرا ما زال المصريون يحترمونه ويمتدحونه إلى اليوم لما تركه عندهم من بذور الحضارة والمدنية والمعاصرة والآداب والعلوم والفنون.

هذه دول عظمى، بحق وحقيق، أدركت أن التعاون الاقتصادي والتكامل الثقافي، والتناغم والتفاهم والتبادل المصلحي أجدى وأنفع لمصانعها ومزارعها وخبرائها وعلمائها، وأكثر أمنا وسلاما لحاضرها وأجيالها القادمة.

وأمامنا شعوب أوربية غربية قاتلت بعضها قرونا عادت لتؤمن بأن العداوة لا تدوم، وأن المودة هي الباقية والنافعة، بكل مقاييس العقل والضمير.

وقد علمنا التاريخ أن جميع الامبراطوريات الكارتونية التي لا يتحمل اقتصادها عبء مصاريف مستعمراتها ومليشياتها المرتزقة، وتتذلل وتتوسل لرفع العقوبات مقابل التخلي عن

أعظم أحلامها القومية المقدسة، تهوي سريعا، وتعود إلى أرضها مهزومة ذليلة، بعد أن بعثرت أموال شعوبها وأرسلت أبناءها إلى الموت دون جدوى ولا فائدة.

إنهم، بتصريحات عنترية من هذا النوع يستنفرون أعداءهم، وهم كثيرون وقادرون، ويدفعون بهم إلى تجييش جيوشهم وتوحيدها لكسر ذلك الهلال الذي لن يدوم.