علاقة الإنسان بالوطن، تماماً كعلاقة الطفل الرضيع بأمه، وارتباط الحبيب بحبيبته، والتصاق الروح بالجسد، وتلاحم النظر بالعين، وتكاتف السماء مع العلو، وتمسك الأديب بكتابه، والأرض بعطائها، والينابيع بصفائها ونقائها، والأشجار بخيراتها!
منْ يتصور أنّ الوطن قطعة أرض تُحسب بآلاف الكيلومترات، والحدود البرية والمائية، فهو لا يفقه معنى الوطن!
الوطن هو الأم والروح والعين والسماء والأرض والينبوع والشجرة، ومع كل هذه المعاني الأصيلة كيف يمكن تفهم أن يتجرأ الإنسان على هجران الوطن، والنظر إليه عبر شاشات التلفاز، بل ربما لا يذكر أنه ابن هذا الوطن، أو ذاك؟
الظواهر المجتمعية العراقية الطارئة والغريبة والشاذة بدأت تنمو في عراق ما بعد 2003، ومنها ظاهرة الهجرة من الوطن، أو بعبارة أدق الهروب من الوطن!
حين التدقيق الموضوعي في القضية نجد أن هنالك جملة من الأسباب السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية قادت إلى هذه الهجرة الجماعية والفردية، المبرّرة للبعض، وغير المبرّرة للبعض الآخر!
الهجرة كانت في لحظة انهيار مفهوم الدولة، وتلاعب قوى الإرهاب الرسميّ وغير الرسميّ في أرواح الناس وحرياتهم وممتلكاتهم، وحينما فقد الناس الشعور بوجود دولة تنشر ظلالها عليهم هربوا نحو المجهول، وبالملايين!
الغريب أنّ غالبيّة الذين هربوا من العراق لم يسبق لهم السفر، وفي لحظة من لحظات الخوف من الموت والمجهول حزموا أمتعتهم واتّجهوا بالجملة نحو دول الجوار التي كانت المحطّات الأوّليّة لتوزّع العراقيّين في أكثر من ثمانين دول في الكرة الأرضيّة!
في المراحل الأولى من الهجرة، التي خلّفت تبعات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة، صارت غالبيّة العوائل بلا مصدر للعيش الكريم، وأصبح غالبيّة أولادهم بلا مدارس، وبلا أيّ حقوق، فيما وقفت السفارات العراقيّة في دول الجوار عاجزة، بل ومتفرّجة على هذه الكارثة الوطنيّة!
المخيف في قضيّة الهجرة هم الأطفال والشباب، الذين صاروا في الغالب العامّ لا يرغبون في العودة إلى الوطن، بل بعضهم يقول أنا لست عراقياً، لا أريد أن أموت في العراق، أو أن يضيع مستقبلي، وهو متصور أن العراق هو الموت والرعب والخوف والدمار و”جهنم”!
وفي التدقيق مع بعض الشباب، وحينما تحاورهم لماذا خرجتم من العراق يقول بأنه يريد أن يتمتع بالحياة، ويحصل على لجوء ولا يعمل، وبعبارة أخرى يأكل ويشرب ويستمتع بالحياة بدون أيّ جهد يذكر، ولا يهمه أن يوضع في خانة (تَنابِلَة هارون الرشيد)، كما جاء في المثل الشعبيّ والإقليميّ المشهور!
بالمقابل هنالك من تجده مضطراً للهجرة، وكان قاب قوسين، أو أدنى من الموت إلا أنّ الأقدار أنقذته في الوقت المناسب، ورغم ذلك هم متشوّقون للعودة لديارهم رغم الظروف الصعبة، لكن لم تهيأ أيّ أرضيّة سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة لعودتهم وضمان سلامتهم ومستقبلهم!
الهجرة من الوطن تعني تغييب طاقات شباب البلاد، وأحلامها وسبل نهضتها، وتعني أيضاً ضياع أطفال العراق، وهم اليوم بمئات الآلاف!
كم هي نسبة العلماء والخبراء والطاقات العلميّة والفنّيّة والتقنيّة والصناعيّة والتجاريّة بين صفوف المهجرين، وكم خسر العراق نتيجة هروبهم من الميدان؟
ورغم ضخامة هذه الكارثة الوطنيّة سألت مسؤولاً عراقيّاً مختصاً بالموضوع فقال إن وزارة الهجرة والمهجرين لا تملك إحصائيات عن أعداد العراقيّين المهجّرين في الخارج!
قضية المهجّرين العراقيّين في الخارج بحاجة إلى حلول جذرية قادرة على تأمين عودتهم الكريمة والآمنة والضامنة لمستقبلهم ومستقبل أولادهم، وعلى الحكومة ومجلس النوّاب والجهات ذات العلاقة مسؤوليّة قانونيّة وأخلاقيّة في السعي لترتيب هذه الخطوة الكفيلة بضمان العراق عدم ضياع أجيال أخرى من العراقيّين والاستفادة من طاقاتهم الجبّارة.
يؤلّمني جداً قول محمود درويش في قصيدته (رسالة من المنفى):
مهاجراً أتى هنا… و لم يعد إلى الوطن؟
هل يذكر المساء
مهاجراً مات بلا كفن؟
يا غابة الصفصاف! هل ستذكرين
أن الذي رموه تحت ظلك الحزين
– كأي شيء ميت – إنسان؟
هل تذكرين أنني إنسان
و تحفظين جثتني من سطوه الغربان؟