منذ انخراطنا المبكر في النشاط السياسي قبل أكثر من أربعة عقود انجذبنا الى العبارة التي تقول إن (أمة تضطهد أمة أخرى لا يمكن أن تكون حرة)، رسالتها كانت منسجمة ومواقفنا الشخصية والسياسية المتعاطفة والمتضامنة مع نضال الشعوب والجماعات والأفراد من أجل الكرامة والحريات وحق تقرير المصير. ومع تراكم الخبرة والتجربة تعزز إيماننا بمنظومة الحقوق والحريات الحديثة، واكتسبنا وعياً بنوع المخاطر والتحديات التي ترافق مثل هذه القضايا المشروعة، لا سيما القوى والمصالح التي تتسلل اليها لتسخرها لمآربها البعيدة كل البعد عن روح ومغزى هذا النشاط الحضاري والتحرري. ما يجري اليوم من تلويح مستمر بإجراء الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان وقبل ذلك ضم كركوك له، بعد إصرار ممثلي الكتل الكردية وحدها، على رفع علم الإقليم على دوائر ومؤسسات المحافظة الرسمية، يعدّ نوعاً من الهروب للأمام من قبل هذه الكتل، التي لا تختلف كثيراً عن شقيقاتها المهيمنة على شؤون العاصمة الاتحادية بغداد وبقية التضاريس المنكوبة، بطبقة سياسية لا تجيد غير ضخ المزيد من مشاعر الكراهة وعدم الثقة بين سكان أقدم المستوطنات البشرية.
قد يبدو موقفي للوهلة الأولى غير متعاطف مع حق سكان الإقليم ومحافظة كركوك في إجراء استفتاء يقررون فيه مصيرهم، لكن الأمر على غير ذلك تماماً، لكوني وكما أشرت مع حق لا كورد العراق وحسب بل جميع الكورد في البلدان المجاورة في تأسيس دولتهم الديمقراطية المستقلة. لكنني وبحكم تجربتي الخاصة والقريبة من تجربة العمل السياسي والحزبي والعسكري في كردستان زمن النظام المباد وبعده؛ أدرك تعقيدات المشهد والدوافع الفعلية التي تقف خلف مثل هذه الهرولات والدقلات التي تلجأ اليها كتل سياسية وحزبية عاجزة عن مواجهة أبسط قضايا الحرية في حياتها الداخلية، والتي تعاني جميعها من دون استثناء، من هيمنة أسر وأفراد بعينهم على مصائرها وسياساتها وخزائن المال عندها، وهذا ما انعكس على شتى مناحي الحياة في الإقليم المستقل عمليا منذ أكثر من عقدين، حيث شفطت تلك الحيتان موازنات وثروات هائلة ولا سيما بعد سقوط النظام المباد. إن استقلال كردستان على يد هذه الطبقة السياسية وفي ظل مثل هذه الشروط المحلية والإقليمية والدولية غير المتعاطفة معه، يعني تحول ذلك الحلم المشروع الى قربان وبوابة لفصل جديد من الكوابيس لا يستحقها أهل كردستان الطيبين. جميع المنتسبين لهذه الطبقة السياسية الحاكمة (من الفاو لزاخو) يدركون جيداً ان عراق اليوم وبالرغم من هشاشة أوضاعه، هو عراق آخر ينهض بصعوبة من تحت الأنقاض، ويحتاج منا جميعاً العمل من أجل رسم ملامحه وهويته الجديدة، لا التعاطي معه بوصفه وريثاً للنظام المباد، وبالتالي اعتماد سبيل النهش لقضم أكبر ما يمكن من أسلابه المستباحة..!
كما هي جميع الخطوات والقرارات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية، والمثقلة بدغدغة المشاعر البدائية؛ أثارت قرارات رفع العلم ومن ثم إجراء الاستفتاء على استقلال كردستان، قوى التعصب والتشدد في المتاريس الأخرى، وهي لعبة معروفة يقدم فيها المستثمرون في مجال التعصب والكراهية خدمات متبادلة لبعضهم البعض الآخر على حساب من سيصبح حطباً لمحارقهم المقبلة. ان عمليات الهروب الى الاستفتاء وغيره من الشعارات الجميلة، لن تفضي لغير الإساءة لها، كما حصل مع تجارب مشابهة، حاولت عبثاً القفز على شروط ومستلزمات مثل هذه التحولات المصيرية، والتي لا تتحول الى واقع إلا بالكثير من الحكمة والإيثار..
نقلا عن الصباح الجديد