في ظرف اسبوعين فقط، اقدم الاكراد، وتحديدا جناح حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، على خطوتين استفزازيتين في مدينة كركوك المتنازع عليها، كان لهما أثر كبير في تأزيم المشهد السياسي العام فيها أكثر مما هو متأزم، ناهيك عن فتح باب التأويلات والتفسيرات والقراءات، لما يمكن ان يحصل بعد هاتين الخطويتين.
تمثلت الخطوة الاولى، بقيام مجموعة عسكرية من قوات البيشمركة الكردية التابعة لحزب الاتحاد الوطني، في 2 اذار/مارس الجاري، باقتحام مقر شركة نفط الشمال في كركوك، واوقفت الاعمال في محطة الضخ (أي.تي.ون)-التي تصدر النفط المستخرج من الحقول الى ميناء جيهان التركي عبر انابيب اقليم كردستان- وأمرت الموظفين والعمال بالمغادرة والتوجه الى بيوتهم.
وتضم شركة نفط الشمال حقول جمبور وخباز وكركوك، وتنتج ما يقارب 175 الف برميل تذهب اكثر من 100 الف برميل منها الى تركيا عبر الخط الممتد عبر اقليم كردستان، فيما تدير وزارة الثروات الطبيعة في اقليم كردستان منذ ظهور تنظيم “داعش”، في صيف عام 2014، حقلي باي حسن وافانا اللذين ينتجان اكثر من 250 الف برميل يوميا.
اما الخطوة الاستفزازية الثانية، فتمثلت، بإيعاز محافظ كركوك والقيادي في الاتحاد الوطني نجم الدين كريم، في الرابع عشر من الشهر الجاري، برفع علم اقليم كردستان فوق المباني الحكومية في المدينة الى جانب العلم العراقي، قائلا في تبريره ورده على الاصوات الرافضة لذلك “اذا كان علم الاقليم يرفع في انقرة واسطنبول، فلماذا لا يرفع في كركوك، والدستور العراقي الاتحادي لا يتضمن نصا يمنع رفع علم الاقليم في أي مكان من العراق، اضافة الى ذلك، وبحسب كريم، فإن مقاتلي البيشمركة الذين يحمون كركوك منذ سنوات يحملون العلم الكردستاني، ومعظم مواطني كركوك يقولون لماذا لا يمكن رفع علم كردستان فوق المباني الحكومية بالمدينة”.
وذهب محافظ كركوك الى أبعد من ذلك، غير مبال بكل ردود الافعال الداخلية والخارجية، حينما قام، وعبر مراسيم رسمية حضرها مسؤولون ونخب مختلفة من كركوك، برفع علم الاقليم فوق قلعة كركوك التاريخية، في 11 آذار/مارس، الذي يصادف عيد نورزو، وهو العيد القومي الاهم والابرز للاكراد.
ولاشك ان مثل تلك الخطوات، لا يمكن قراءتها قراءة فوقية عابرة، بل لابد من البحث في الخلفيات، والظروف المحيطة بها.
وهنا يمكن أن نشير الى ان خطوات من هذا القبيل، وعلى قدر كبير من الحساسية والخطورة، من المستبعد جدا-ان لم يكن من المستحيل- أن تكون نابعة من اجتهادات كوادر وسطية وقيادات من الخط الثاني او الثالث، وانما هي عبارة عن مخرجات قرارات من المركز والشخصيات القيادية العليا.
أما النقطة الاخرى فهي ان الخطوات الاستفزازية المشار اليها، جاءت حصرا من الاتحاد الوطني الكردستاني، باعتبار ان الوجود الكردي في كركوك، يمثل امتدادات لنفوذ حزب الاتحاد، وعلى ما يبدو لم يكن هناك تنسيق مسبق مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني، وان كان الاخير لم يعارض ماقام به الاتحاد، ولعل تصريح احد قياديي الحزب الديمقراطي، وهو مسؤول فرع كركوك، محمد خورشيد، يعكس ذلك الموقف بصورة أو بأخرى، اذ يقول، “أن القوات المتواجدة في شركة نفط الشمال تابعة للإتحاد الوطني، واستدعيت من قبل مسؤول فرع الإتحاد الوطني الكردستاني، وقد طالبنا الاتحاد الوطني الكردستاني، بأن يعلنوا عن مطالبهم وايضاح السبب وراء تواجد هذه القوات داخل شركة نفط الشمال، وان وجود هذه القوات امر وقتي وستنسحب الى مواقعها”.
ثمة مسألة اخرى، قد تكون اكثر اهمية، وهي ان الخطوات التي قام بها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في مدينة كركوك، تعد نوعا من الهروب الى الامام، وبحثا عن نقاط قوة في الشارع الكردي، تغطي على مظاهر الضعف والتشظي والتفكك في مختلف مفاصل الحزب، والتي استفحلت وتفاقمت الى حد كبير بعد غياب زعيمه جلال الطالباني عن المشهد السياسي منذ خمسة أعوام بسبب المرض.
ففي ظل الازمات الاقتصادية، والتحديات الامنية، والتقاطعات السياسية في الساحة الكردية، لابد لكل حزب ان يبحث له عن متنفس لتقليل وتخفيف الضغوطات عليه، وبالنسبة للحزب الديمقراطي، فقد وجد في موضوع الانفصال والاستقلال ورقة يلوّح ويهدد بها على الدوام، لاسيما خلال العام الاخير، علما انه يدرك اكثر من غيره، ان وقائع ومعطيات المرحلة الراهنة هي ابعد ما تكون عن توفير الارضيات المناسبة لاستقلال الاقليم.
في مقابل ذلك فإن الغريم والخصم التقليدي لحزب البارزاني، لابد ان يجد ما يحافظ من خلاله على حضوره، لاسيما وانه يبدي باستمرار تحفظات على اطروحات البارزاني بشأن الاستقلال، ويعدها غير مناسبة من حيث التوقيت وطبيعة ظروف الاقليم.
وطبيعي، ان استثارة الحس القومي الكردي، من خلال خطوات لا تترتب عليها الكثير من الاستحقاقات المادية، من قبيل اللعب بورقة نفط كركوك، ورفع علم الاقليم في المدينة التي تعرف بالادبيات السياسية الكردية بأنها “قلب كردستان”، من الطبيعي ان يرفع رصيد الحزب الذي يقوم بها، حتى وان كان في داخل صفوف قواعده الجماهيرية، رغم ان بعض تلك القواعد، تدرك اكثر من غيرها، ان السيطرة على شركة نفط حكومية، ورفع علم الاقليم، لن يحلّ المشاكل الاقتصادية الخانقة، ولن ينهي الاحتقانات السياسية الحادة بين الفرقاء، ولن ينهي التحديات والمخاطر الامنية، واكثر من ذلك لايمكن ان يضع حدا للخلافات والتقاطعات الكردية، التي امتدت الى كل المفاصل والحلقات السياسية والحزبية.
ولعل ردود الافعال الاولية الداخلية والخارجية، أشارت بوضوح، الى ان الهروب الكردي الى الامام، لايمثل مخرجا حقيقيا وواقعيا من الازمات والمشاكل الداخلية، ناهيك عن ان الخطوات المقابلة التي يمكن ان تقوم بها الحكومة الاتحادية واطراف اخرى، قد تلحق المزيد من الخسائر بالاكراد على المدى المتوسط، وربما البعيد.
إن كان الاكراد، بصرف النظر عن هويتهم الحزبية، قد نجحوا في تعزيز وجودهم الاجتماعي ونفوذهم السياسي في كركوك، إلا انهم أخفقوا في صياغة وبلورة واقع مقبول ومطمئن لمدينة ذات نسيج اجتماعي متنوع قوميا ودينيا ومذهبيا، وأبسط وأوضح مؤشرات وملامح الاخفاق، يتمثل بانعدام الاستقرار، وهيمنة التجاذبات والتقاطعات والاحتقانات بين المكونات الرئيسية للمدينة، العرب والاكراد والتركمان، واختراق الجماعات الارهابية لها.
وبحسب ما يؤكد النائب التركماني في مجلس النواب العراقي جاسم محمد جعفر، فإن عدد سكان مدينة كركوك الذي كان يبلغ اكثر من ثمانمئة الف نسمة في عام 2003، وصل في عام 2016، بفعل عمليات “تكريد” المدينة الى حوالي مليون ونصف المليون نسمة.. الأمر الذي يعيق أي محاولات جادة لتطبيع الاوضاع، من قبيل تطبيق المادة 140 من الدستور العراقي، اضافة الى انه في مراحل لاحقة قد يتسبب في أحداث المزيد من التأزم داخل البيت الكردي، ويصبح ليس هروبا الى الامام، بل انحسارا وانكماشا وتقوقعا في زوايا ضيقة وحادة وحرجة.
———————-