19 ديسمبر، 2024 2:03 ص

الهرمينوطيقا النبوية والمنزع العالمي

الهرمينوطيقا النبوية والمنزع العالمي

” جالسوا الكبراء، وسائلوا العلماء، وخالطوا الحكماء”
– حديث شريف-

من المهم التمييز على الصعيد الإجرائي في الفعل التأويلي بين دراسة الذات الإلهي وتناول النص القرآني وبين التركيز على السيرة الذاتية للرسول والاهتمام بالتجربة القصصية من جهة القول والفعل للنبي(ص). يتطلب التمييز الأول الاشتغال على هرمينوطيقا القرآن في إطار أنثربولوجيا المقدس الإلهي في حين أن التمييز الثاني يساعد على تحضير العدة المفاهيمية والأسلحة المنهجية من أجل إعداد هرمينوطيقا نبوية.

غير أن الفرق بين الأمرين غير ممكن بما أن هرمينوطيقا القرآن لا تعزل نفسها عن التجربة التأويلية التي قام بها الرسول عند احتكاكه بالواقع وممارسته اللغوية للسياسة وبالنظر إلى أن هرمينوطيقا النبوة تجلت بشكل غير مباشر في الوحي القرآني وبصورة منظمة في الأحاديث النبوية وتحتاج إلى المزيد من البلورة.

تكمن أهمية المنهج الهرمينوطيقي في تخليص الدراسات العلمية حول السيرة والحديث من الثنائيات الحدية وحسم الجدل بطريقة فلسفية حول صحة المروي من جهة معنى المضمون وسلامة العنعنة من جهة السند.

تتكون التجربة الهرمينوطيقية للنبي في تلبية الواجب وتأدية الفرض والاستجابة للنداء الالهي بحمل الأمانة إلى أهلها وتبليغ الرسالة إلى البشر وتوضيح المقاصد المطلوبة والكليات الكبرى في الاستخلاف والتعمير، وتتمحور حول نقل الحوار الذي دار بين الأنبياء والله وبين الأنبياء والناس وبين المؤمنين والمنكرين.

إن الأمر لم يعد يتعلق بإنكار النبوة من حيث هي واقعة تاريخية ولا بالتشكيك في ألوهية القرآن من حيث هو حدث رسالي وإنما الابتعاد عن الخوض في هذه المسائل غير المجدية على صعيد البحث المعرفي والانطلاق من القيمة الدلالية للحكايات النبوية والمأثورات العملية التي خزنتها الذاكرة الجمعية ونقلها وجدان الثقافة الرسمية والتقاليد الشعبية عن طريق الممارسات الجماعية ومن خلال المؤسسات الشرعية.

يمكن الانطلاق من عدد من الفرضيات حول الهرمينوطيقا النبوية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

المصدر التأويلي للإعجاز القرآني:

“اللّهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل”

المنزع العالمي للحديث النبوي:

“أيها الناس إن الله بعثني رحمة وكافة فلا تختلفوا عليَّ…”

” إني رسول الله إليكم”

بناء الوعي وتحكيم الضمير والتسلح بالعقل:

“لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين”

“كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير”

“ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى”

الخاصية البشرية للشخصية المبلغة:

” إن أمي كانت تأكل القديد بمكة”

“إنا والله يا عم لا نولي لهذا الأمر أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه”

” يا أبا ذر، كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء..؟”

“أفلا أدلك على خير من ذلك…؟ اصبر حتى تلقاني”

التوكل على الإسناد الغيبي للظاهرة الدينية:

“إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت”

البعد الإيتيقي للرسالة المحمدية:

“لا يؤمن أحدكم حتى يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”

“اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام”

“كل معروف صدقة”

“يا أيها الناس إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”

القيمة التربوية للتجربة الرسالية:

“المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضا”

“عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر”

“لِيُسلم الصغير على الكبير والمار على القاعد والقليل على الكثير”

الوظيفة التشريعية للسرد القدسي:

“البِرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس”

“البِرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس”

إلهية المصدر وروحانية التشريع:

“إن الإسلام يجب ما كان قبله”

“أيأتي الخير بالشر؟
إن الخير لا يأتي الا بخير أو خير هو؟”

“لا يأخذ أحد منكم منها شيئا بغير حقه”

“يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة، فليتزوّج”

دنيوية التطبيق ومدنية الاستفادة:

“ليس الخبر كالمعاينة”

“إن الدنيا حلوة خضرة وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون”

” من سرته حسنته وأساءته سيئته فذلك هو المؤمن”

” بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهود بعضكم على بعض”

حكمة التطور والحاجة إلى التغيير:

“إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر”

“لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان”

نسبية الظروف ومواءمة الأحوال:

“لا يرحم الله من لا يرحم الناس”

“إنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد”

الحقيقة المحمدية في طور التكوين الإلهي:

” لا املك لكم نفعا ولا ضرا ولا ادري ما يفعل بي وبكم”

“إني أوتيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون”

“جاء الحق وزهق الباطل ، ان الباطل كان زهوقا”

تجلي المطلق الإلهي ضمن البيان العربي:

“كل نَسَمَة تولد على الفطرة حتى يُعرَبُ عنها لسانها”

“المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسم”

“يا أيها الناس … بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا…”

“يا أيها الناس… أجملوا في الطلب… فإن تعسر عليكم منه شيء فاطلبوه…”

تأكيد الطابع السلمي وأهمية التسامح:

“مَن حمل علينا السلاح فليس منا”

” إن الله يهدي من يشاء”

“اذهبوا فأنتم الطلقاء”

“يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار”

الجانب الاجتماعي في أحاديث المعاملات:

“من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”

“أن يكونوا أول من يجوع إذا جاع الناس وأخر من يشبع إذا شبع الناس”

“المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”

” يا معشر التجار إن هذا البيع يحضره الحلف والكذب فشوبوه بالصدقة”

” اللهم أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلي حبك”

خصوصية الملة وفرادة الرسالة:

” لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا”

” إياكم والظلم والفحش والشح والبخل والفجور
فمن كان إسلامه أفضل هو من سلم المسلمون من لسانه ويده”

“الأمراء… لهم عليكم حق ما فعلوا ثلاثا:
ما حكموا فعدلوا، واسترحموا فرَحَمُوا، وعاهدوا فوَفُوا…”

إذا عدنا إلى الأحاديث النبوية بعيون هرمينوطيقية فإننا نجد خزائن العلم اللّدني ومبادئ التربية الكونية وقيم الأخلاق الإنسانية وقوانين المنفعة العامة وإذا أمعنا النظر فيها من خلال آيات الرحمان في القرآن الكريم فإننا نبصر حقيقة الأكوان وندرك أعظم الإيمان ونتصور أشرف الأفكار ونصل الى شاطئ اليقين.

مجمل القول أن القصص النبوي يتضمن الحكمة النظرية والهداية الربانية والعبرة التاريخية والموعظة الحسنة ويعلم الناس البر والرحمة والقسط ويقدم للبشر قواعد كونية في الحكم الرشيد وتدبير الاستخلاف.

لقد خاطب المصطفى قومه بطرق مقنعة وذكر الصغير والكبير والذكر والأنثى والقريب والغريب وجعل مناهجه النبوي سيرة عطرة ودرب خير ونصص على تلازم البعد المادي مع الجانب الروحي وعلى غائية الوجود البشري وأهمية العمل الإنساني في الارتقاء بالذات الآدمية وحراسة الكون والانتصار للحق.

من هذا المنطلق يظل العمل التأويلي الذي قام به في قصصه ومأثوراته وخطبه وأقواله أثناء سيرته الذاتية وتجربته الوجودية مقاما هرمينوطيقا مرموقا أين ارتفعت ذاته الشريفة نحو درجات الوجود الأكمل من أجل التعبير عن الأحوال الحقانية والمراتب المقدسانية ضمن وساطة رمزية ومعرفة بيانية وإشراق رباني خلاق. لكن ماهي التبعات الضرورية التي يستوجبها كل عمل هرمينوطيقي تخضع له المدونة النبوية؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات