23 ديسمبر، 2024 2:34 ص

قصة كتبها القاس الراحل محمد سمارة
البارحة ، وصلتني رسالة من صديقي محمود يقول فيها : ساصل يوم الاثنين القادم في قطار الصباح وساخذ اول سياره اجره ، فلقد “وحشتني” قصائدك الحلوة و وجهك الطيب ، ذلك اني عشت ثلاثه ايام – في الصحراء – بدون نوم بال حتى ولا اغماضة عين . اثنتان وسبعون ساعة يا صديقي امضيتها واضعا اصبعي على الزناد ، فايبر فكيف ينام الاصبع وامامه الصحراء الذئاب ؟!

 

ومحمود صديق قديم .عشرون من الاعوام تمتد لتلتقي مع اليوم الذي شربت واياه حليب الطفولة من موضع واحد . وصار العشق ينمو في جسدينا حتى تحول الى جذر يضرب في الراس .

وامسكت الرساله ضاحكا . فها هو الوجه العاشق يعود اخيرا .

ثلاثون يوماا ولم نلتق خلالها إلا على وجه الورق الملون . مجرد خيال ينبت في الذاكرة . فلقد ازف الوقت لتعانق الاشجار ونمارس طقوس الحديث في الشعر والقمر . ولكن بالحزن القلب في كل مرة . فما تكاد تصلني رسالة ينبئني فيها انه سيصل في الاسبوع القادم حتى يعقبها باخرى يلغى فيها فرح القلب . ودوما يقول في النهاية كالبكاء : اعذرني يا صديقي .. لست مسؤولا عن جنون الاعداء . انهم يديرون هجوما جديدا ، ونحن في الانتظار سلامي الى القمر .

وارمق الرساله مطعونا . انها الرؤوس الدخانية دائما . و متى يفهم الدخان انني مشوق الى صديقي محمود ؟

وياكلني القلق . والوب كالعاشق متمعنا في خطه الخرزي المنمنم ولون رسائله الذي يختاره ورديا . ازرق. اخضر .احمر. فاعرف ان محمودا حريص على الرقة والسحر حتى وهو يكتب رساله عاجلة ، فهو يعرف كيف يدخل قلوب الأصدقاء. ويعرف ماذا يعني الخط واللون لرجل يكتب الشعر مثلي .

لكنه البارحة ، وحينا وصلتني رسالته ، لم يعقبها برسالة اخرى معتذرا . لم يبحث من ينوب عنه في هذا اللقاء ، بل جاء بنفسه في ذات اليوم بطوله وعرضه . اقبل من راس الحارة في سيارة عسكرية وكان موصدا بالعلم .

****************************

لم يكن القمر الذي يذكره محمود في حديثه دائما سوى حبيبته كوثر . وكان الشوق في عينيه يكاد يطفر ، كحبات من اللؤلؤ . ودائما يردد بجرس يلمس القلب : سوف تنتهي الحرب حتما ، واخطب كوثر، وامسك يدها وندرج في الشارع ، ونضحك تحت زخات المطر . هل رايت في حياتك عصفورين يتعانقان تحت رداء المطر ؟ انه الشيء الذي يدق باب القلب ، ويلمس الاوتار، فتسري في الجسد رعشة كالفرصة الشتوية .

ويرفع محمود عبقرته : سوف اخطبها ياصديقي في اقرب اجازة . ونضحك تحت المطر كامجنونين، وتكون انت الشاهد الوحيد على مغامرة قلبي .

واضحك انا من محمود كالثمل. ذلك اني افهم ما في الرؤوس العاشقة . فمحمود على الرغم مما فيه من اندفاع طفولي . في حديثه ، وحماسه للاشياء الصغيره. اقول على الرغم نزقة في اشياء يصعب التعبير عنها فهو شاعر . يستطيع ان يوصل نبض الاشياء الكبيرة بطريقة سحرية . فتحس انك في حضرة شاعر كبير. وكنت أرى الى كوثر التي تمر من محلاتنا ، رائحة الى مدرستها او عادية . واقول يا للفتاة التي ستساعد بمقاتل شاعر . وابعث اليها احيانا وبطريقة سرية رسالة من محمود او هدية صغيرة منه ، فنظر الي بوجه فيه عرفان بالجميل ، فيرتد بصري، واخجل ان يكون بيني وبين صديقي شيء اسمه العرفان .

واليوم، جلست في غرفتي وحيدا وثمة حبل يلتف حول رقبتي ويتركني البط كالسمكة .فليس سهلا ان يموت محمود . وكان نعشه الذي يشبه النخلة موضوعا في حوش البيت، وحوله العيون شاخصه وانا انظر اليه على امل صغير . امل يتوهج كالومضة، وهو ان يفتح عينيه ويرفع الغطاء . وبين دهشه الحضور وذعرهم ينهض ، و يلتفت اليهم وتقول ضاحكا : ما هذا العويل .. وهلا نا ميت ؟

لكن شيئا من هذا لم يحدث . ظلت النخلة ممددة، بينما كوثر يوجهها المحتقن وشعرها كومة من الغضب . وشعرت إذ التقت نظراتنا صدفة انها تقول : لماذا يرمون حجرا في البحيرة الساكنة ؟ على اني رغم تاكدي من استشهاد محمود . على انني دفنته بنفسي ، و عانقت التابوت كما اعانق محمود في الحياة . اقول على الرغم من كل هذا ، كان ثم هاجس في الراس بان في شارعنا ، وبيوت محلاتنا ، وفي احداق العيون شيئا خاطفا كالومضة اسمه محمود . ولم اكن افهم بعد ان جلست في غرفتي وحيدا ، وبعد ليلة من استشهاده ، ما الذي افعله بعد انطفاء القنديل ورحيل الوحي . وصار الشعر بلون الرماد . ذلك اني ما ان اقول بضع كلمات حتى انكفىء ، واحس انه شيء من وهج الكلمات قد انطفأ . غير ان ثمة نارا جديدة ، وفي لحظة خاطفة ما تلبث ان توقد ، ويتوهج سحر الكلمة من جديد .

 

فاقول: يالمحمود الذي صار موتك شعرا !

دخل القمر واستغرقني بالدهشة

كان قريبا ، ولمسني وجعلني هادئا تماما

دخل القمر ، ورشني بأغنية

مثل المطر بعد رعد

و على عتبة نافذتي كان يسكب العشق

 

 

كنت في الغرفه وحيدا .في الغرفة ذاتها التي كتبت فيها – بحضور محمود – وجع القلب و تغريد الطيور . كان كل شيء فيها يذكرني به حين كان يجلس قبالتي ويمد رقبة نحيلة ، و وجها اسمر ، ويقول كلاما كالشعر. يقينا اني كنت اجد في الجلوس اليه توهج الحرف ، وبدء الكلمة الاولى . وياللاحساس الذي كان يشيعه في الصدر إذ يتحدث عن الشوق والدفء والحب . فهل كان هذا الرجل يفهم ما لحديثه من تاثير في شاعر مثلي ؟

و حانت مني التفاته ، فرايت صورا على الرف تمثلني و محمودا في عهد الدراسة . فهل كان ثمة اتفاق سري بين الاشياء لتدفع وجه محمود في وجهي . والرسائل . يا للرسائل التي لم تنفك تنظر الي كلما ولجت الغرفة . انها السراج الذي لم ينطفئ ابدا . صف من الالوان . اخضر. احمر. ازرق. اصفر. كيف عثر محمود على هذه الروضة في صحراء النار ؟!

 

والعجيب انه كان يضع على كل رسالة شيئا من العطر . فهل أصدق؟ امسكت بواحدة منها خضراء اللون يتحدث عن الحرب و الهجوم الاخير . اه . كانوا يا صديقي يتقدمون كذباب . وكنا ” نكش ” هذا الذباب فيتطاير مذعورا، ثم ما يلبث ان ياتي غيره . و كان عددنا اقل بكثير . غير اننا ردمنا هذا الذباب في الهور . وطافت الجثث فوق المياه .

وصرنا نخوض فيها حد الخاصرة او الرقبة بينما السلاح مرفوع في ايدينا كالراية. وراينا بعضهم يخوص في العمق

كضمامة الورد – خطرت في ذهني وانا اتسلم رسالة محمود الأخيرة . كنت قد هيأت رسائله و طففت اعمل منها هدية لاستقباله ، لكن موته المفاجئ ، صعق يدي فكف كل شيء عن الحركة ! شيء جميل ان تستقبل حبيبا باقة من الورد صنعتها من رسائله . تنحني امامه ضاحكا وتقول : هناك رسائلك ايها الصديق . لقد تحولت الى مزهرية . لم ابرح غرفتي . وضلت رسائله – اضمامة الورد – شاخصة امامي . وفي الصدر تفور الامنيات . لمن هذه الورد ؟ كان في راسي حلم بان الوح له من بعيد وهو يهبط من القطار ثم تتعانق ، و تكون الباقه في ما بيننا ، ثم – ما يحدث في قصص الخيال – يمتد منها جذر ينبت في الارض ، وترتفع اغصانه في الفضاء . ونرفع راسينا بدهشة لنتامل الجذر . الذي صار شجرة . ربما هو حلم الشعراء كما يقولون ، لكنه الحلم الذي ما انفك يطاردني منذ عرفت محمودا . والان ما عساني فاعل بهدية كانت في يوم من الايام فكرة تدور في راس بطل وهو في صحراء النار ؟

ما برج الهم يركبني . و على الصدر كتلة من الصخر . فهل ثمة من اهديه باقة الورد بعد محمود ؟ واستشهاده كيف حدث ؟ لم يقول الجندي الذي كان موكلا بتسليم الجثمان سوى عبارة واحدة : وجدناه باسم الوجه واضفاره في الارض .

في اليوم التالي ذهبت الى محطة القطار . لم يكن الوقت صباحا. لم يكن ثمة قطار قادم . كانت الدنيا صامتة ، والجو مكفهرا. وشعرت اني واقع تحت سطوة رغبة سرية بان ابحث عن محمود . وتمنيت لو يتوقف قطار . اي قطار ، و يهبط منه جندي ، ما ان اراه حتى اهتف بملء حنجرتي! لكن شيئا من هذا لم يحدث . ما برحت الامنية دخانا. وكان خواء المحطة يثير في نفسي احساسا كالنصل . فهل ذات الاحساس اصاب محمودا وهو بعيد عني ؟

وهل كان يتمنى – وهو يكتب رسالتة الاخيرة – بانه سيلتقي به في المحطة، حيث يلقي بنفسه في احضاني ؟ ترى ماذا كان يفكر وهو يكتب ؟ وهب اننا التقينا ، فما عساه سيحكي عن صحراء النار والذئاب البشرية المعادية ؟ كيف سيتلقى الكلمات الصغيرة التي تقول الاشياء الكبيرة ؟ اني اعرفه شاعرا رغم انه لم يجرب الشعر . يقينا انه سيصوغ حديثه بطريقه الشعر في وعاء راسه الشعري ، و ستهبط كلماته علي كالوحي وتجعلني لا اكف عن قول الشعر .

جميل ان يهبط محمود الان . وينبت امامي كشجرة . فهل انا الان احلم ام اني واقع تحت جبروت عودة حقيقية ! !

في الواقع اني لم اكن اتخيل ذلك ابدا واذا كنت قد ذهبت الى المحطة فربما هي الرغبة الدفينة لمعرفة الاحساس الذي يصيبني وانا ارى المحطة و المستقبلين والقطار الفارغ ، وذلك يشبه ما يفعله مزارع اذ يتفقد موقع الغرس ليطمئن .

وعدت الى البيت من جديد …

كانت الرسائل . ذات الرسائل تنهض شاهدا على وجود محمود . وقبالتي الكرسي الذي طالما جلس عليه يقوم شاهدا اخر . اما الصور المعلقة كالقلادة ، فيا للصور : الاثبات على جسر الذكريات الامين .

لما يكون يوم الاثنين قد ازف بعد . وبيني وبين موعد محمود ثلاثة ايام .

فهل ثم للقاء سيكون وتحدث المعجزة و يعود الغائب ، و يمد ذراعيه كما في القصص ويقول باسما: ها انذا اخيرا .

لقد ملأتني الرغبة في ان اذهب يوم الاثنين، وانتظر القطار ، و احمل باقة الورد و اظل واقفا هناك كامرأة عاشقة . لقد امتصت دمي تلك الباقة الهدية . .. مجموعه من الرسائل الملونة . اربع وعشرون بالتمام والكمال ، كتبها محمود بدم القلب ، فهل اتركها على الطاولة شاهدا على وجع القلب .