لا يمكنُ لمراقب أن تفوته ملاحظة الفوارق الماديّة الكبيرة الآخذة بالاتساع بين أفراد المجتمع العراقي. وعلى العكس من عقود مضت، أضحى المتخمون ثراءً وغنىً يجاورون المعدمين الفقراء السكن في حيّ واحد أحياناً، أو يبعدون عنهم شارعاً أو شارعين في أحيان أخرى.. في الحيّ الواحد يمكن رؤية قصر شاهق تصطّف أمامه أحدث السيارات مجاوراً لبيت قد يسقط على رؤوس ساكنيه في أيّة لحظة. وبرغم الغنى الفاحش هنا والفقر المدقع هناك فإنّ كميّة القمامة الهائلة، دليل الهدر الكبير والإسراف الباذخ، واحدة بينهما!!
الهدر، كما يبدو، صفة يشترك فيها الجميع أكان غنيّاّ فاحش الثراء أم معدماً حدّ الكفاف أو دونه.. ما نُعدّه من طعام يفيض عن حاجتنا دوماً، ونرمي نصفه في القمامة.. ونترك صنبور الماء مفتوحاً يُغرق الشارع لنملأ قدحاً، وندع كلّ أجهزة الإنارة مضاءة حتى حين نكون نائمين.. لا نبالي بالوقت ولا نقتنص فرصاً تمرّ كالسحاب، فنهدر مستقبلاً به حاجة إلى همّة حاضر كي يكون مشرقاً.
في ثمانينيات القرن الماضي، حصل موظفان على قطعتي أرض سكنيتين متجاورتين اتفقا على بنائهما وفق خريطة واحدة. كان البناءان متطابقين في أدقّ التفاصيل كتوأمين. وفي وقت كان ثمن مواد البناء معروفاً وأجور العمل واحدة، إلاّ أنّ ثمة فرقاً وحيداً بينهما. لقد اتضح أنّ أحدهما أنجز نفس العمل بكلفة تقل عن صاحبه بـأكثر من ألف دينار كانت في وقتها مبلغاً كبيراً. الفارق أنّ أحدهما كان حريصاً دقيقاً لم ينفق على شيء يزيد أو ينقص عن حاجته.
لا أظنّ أن هناك بلداً يتسابق فيه الجميع على إهدار ثروته وماضيه وحاضره ومستقبله كما نفعل.. نوغل في وطننا طعناً ونسلبه غناه وألقه وجماله بخناجرنا ونتّهم حراب الغزاة.. ليست هناك أوطان تترك أنهارها تصبّ في البحر، أو تنتهي قمامةً مع المياه الثقيلة.. كلّ الدول تحرص على علمائها ومفكريها ولا تتركهم عراة يتسولون وطناً بديلاً. جميع الشعوب تبحث عما يجعلها أكثر ألفة وسلاماً وأمناً، ونبتكر ما يشتتنا ويفرقنا.
إنْ كانت الناس تقاس بملوكها كما قرر شاعر في لحظة كشف، فإنّنا عاجزون ـ عبر التاريخ ـ عن لوم السلطة أو الثورة عليها، فهي تشبهنا تماماً كما يحلو لنا التشبّه بها.
[email protected]