لعل من المفيد ان يتم تناول تجربة الهجرة من زاوية الغوص في أعماق هذه الرحلة الايمانية،بقصد استنباط الدروس لغرض الاستفادة منها في صياغة عملية الاتصال المعاصر للأمة بالهجرة، كتجربة عملية مارسها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم في حينه، ومثَّلت أسلوبا حركيا متجددا للتعامل مع قضية الوفاء للمبادئ، والتواصل الحي مع القِيَم، برفض الاستكانة للواقع الفاسد، وهجر موطن السوء، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالغالي والنفيس، واستوجب الحال ترك الأهل والوطن، على حبهما بقياسات العرَض الزائل.
والمتمعن في عمق تجربة الهجرة يلاحظ أنها لم تقتصر بالرغم من نبَويَّة روحها، على ذات الرسول شخصيا باعتباره قائد الجمع المؤمن وحسب، كما أنه لم يترك أمر استثناء أحد من المؤمنين منها له؛ حيث عنده تنتهي سلسة اتخاذ القرار الدنيوي؛ وذلك لأهمية ممارسة تلك المهمة الجسيمة في حياة أفراد الأمة، ومُنعكساتها المستقبلية على آفاق تكوُّن مشروع النهوض الروحي والحضاري للأمة في مرحلة لاحقة، فكان التوجيه الإلهي المركزي بخصوص هذا الملحَظ يقضي بأنه(ليس لك من الامر شيء الا ان يهاجروا).
والملحظ الاخر الجدير بالملاحظة أيضا، هو أن الجيل الرباني الأول من الصحابة الذين شكَّلوا كادر التجربة الجديدة لاحقا، كانوا في طليعة المبادِرين لتنفيذ هذا التوجيه الرباني الكريم بطواعيَة ذاتية فريدة، وقصة البطولة التي سطَّرها الصحابي الجليل البطل أبو بكر الصديق(رض)، ينبغي ان تستلهم كدرس بليغ في حياتنا المعاصرة،لكي تتجسد مع كل عملية تكوُّن انبعاثي جديد لروح الأمة في التطلُّع الناهض؛ لرفض واقع حال التردِّي الذي قد يعتري الحال في اي وقت على قاعدة﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ).كما أن روح البطولة الفتية لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، الذي بقي في فراش الرسول تَمويهًا للمغادرة، مع كل ما تعنيه هذه المبادرة الاقتحامية من الإيثار،والتضحية بالنفس، في مركز ميدان التحدي من خطورة على حياته،هي درس جدير بالاستلهام، في حين أن بطولة الفاروق عمر(رض) بالخروج جهارًا نهارًا في عملية تحدٍّ صارخ للكُفر وأهله، على سطوتِهم، وشدة بأسهم،هي الاخرى درس عظيم يحمل دلالات بليغة من التحدي،بما كان له من أثر بليغ في رفع معنويات المؤمنين، وتحقيق النصر المؤزَّر.
ولعل الامر المُدهِش حقا في هذا التلاحم العضوي بين الرسول القائد، وصحابته الأبطال، هو الفيض الروحي الذي تركته بطولة النبي الفذَّة في نفوسهم، بقياسات طراز النموذج البطولي الذي جسَّده الرسول القائد، في تصدِّيه الحازم للقيام بهذه المهمة الجسيمة، التي غيَّرت مجرى التاريخ، فكان بحق مثال التأسي الصادق في السلوك الجَمعي لصحابته الميامين على قاعدة ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾.
ولاجرم أن الرسول القائد محمَّدًا – صلى الله عليه وسلّم – بممارسته العملية لتجربة الهجرة بكل ما انطوَت عليه من مخاطر جدِّيَّة، كان قد جسَّد أقصى درجات التطلُّع المؤمن، في تعامله مع حقائق الحياة الإنسانية؛ إذ كان ينظر إلى مُتطلبات البناء والإعمار، بعين التفاؤل على طول الخط، في نهجه النبوي الكريم، حتى في أحلك الظروف، ويمكن أن يتلمَّس الباحث في المنهج النبوي ذلك الأسلوب المتطلِّع جليًّا في قوله – صلى الله عليه وسلم – لصاحبه في لحظة إحداق الخطر: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، وهذا السلوك الشجاع هو بلا شك، توجُّه قيادي رصين، يجسد اعلى درجات الرشد في مقارعة الظلم، ورفض الواقع الفاسد.
وإذا كان راهن الحال العربي المسلم كما هو معروف اليوم على هذا النحو السيء من تردِّي الحال المُنهَك، المثقَل بالشرذمة، والنكوص، والإحباط، والتخلُّف المُطبِق، وهو – بلا ريب – واقع مُزرٍ؛فلاشك ان الاستلهام الخلاق للصفحات المُشرِقة في تاريخ الأمة، وعلى رأسها بالطبع تجربة الهجرة النبوية، واستِحضارها في عملية صنع النموذج الخاص بالحياة المُعاصِرة للأمة، بروحها الإسلامية ونكهتِها التراثية، وتفجير طاقاتها الكامِنة، الروحية منها والمادية على طريق رفض الواقع السيئ، والانقلاب عليه بمقاييس تجربة الهجرة النبوية الأولى مع أخذ فارق الزمن، ومُستجداته بنظر الاعتبار عند مواجهة مصاعب الحياة الدنيوية، المُثقَلة بكل هذه الآلام،كفيل بتقديم نموذج سامٍ، يفيض على الأمة بالخير العميم، ويعصمها من براثن التبعية المُذلَّة للآخَر، ويضعها مجددا على طريق معاوَدة دورها الرسالي على الساحة الدولية باقتدار.