23 ديسمبر، 2024 12:32 ص

هذه خواطربسيطة وليست قصة متماسكة لها بداية و نهاية. الغاية هي وضع ظاهرة الهجرة “القسرية منها بشكل خاص” في سياق انساني عام, وبسطور قليلة, لا الاسترسال بتعرجاتها او سرد تجارب شخصية بتفاصيل مفرداتها. المرحلة الاولى للهجرة تبدأ في عقل الانسان ووجدانه لفترة قد تطول او تقصر. في هذه المرحلة يكون الفرد مترددا تتقاذفه امواج الامل واعاصير الخوف من المجهول. العوامل الدافعة وظروف الحياة بحلوها ومرها في الوطن الذي ولد الفرد وترعرع فيه وله فيه اجمل الذكريات توزن مقابل العوامل الجاذبة في بلاد المهجر. هذه الهواجس والافكار تتأثر طبعا بما لديك من معلومات عن واقع الحال وتوقعاتك المستقبلية وكذلك فيما لو كان لديك معارف او اقارب يعيشون في المهجر ويردفونك بما تحتاجه من دعم ما او معلومات. وأهم ما يشوب هذه المرحلة هو القلق والارق ومحاولة الاختلاء بالنفس اضافة الى تأنيب الضمير بسبب نية الرحيل ومن ثم فراق وترك الاحبة والاقرباء والاصدقاء. ولكن مع مرور الايام يأفل التردد ويتجه الفرد لحسم أمره وهو قرار العمر بلا أدنى شك. نهاية هذه المرحلة تتسم بأنك تميل الى المبالغة بمحاسن الهجرة والتهويل من عواقب البقاء في الوطن ألام وتعميق الحجج والتبريرات التي تدعم قرارك المصيري.

المرحلة الثانية هي ساعة شد الرحال وتبدأ بلا أدنى شك بالحسرة والدموع, وهي ياصاحبي ليست كأي دموع (لاهو دم دمع عيني ولا ماي … لجن روحي تذوب وتكت هيه). أنه اليوم الفصل, انت على مفترق الطرق وقد اخترت طريق اللاعودة. تقول هل لي ياترى ان ارى وجه أمي ووجه ابى ثانية؟ هل لي ياترى ان ارى وجوه اخواتي و أخواني واصدقائي ثانية؟ هل لي ياترى ان ارى هذه الربوع وتلك الديار ثانية؟ وللتذكير بأن اقسى ما يتعرض له الانسان في حياته هو وفاة عزيز عليه, الفراق الابدي. لكننا نسدل الستار حتى على هذا الفراق ونتقبله ولو بعد حين. أما ألهجرة الى الاصقاع البعيدة والتغرب بعيدأ عن أي شئ ألفناه وترك ماضينا خلفنا بما فيه وما عليه فهو فراق من نوع اخر, لدى البعض هو جحيم مستعر ليس له قرار. ولو سافرت بالطائرة او الحافلة لافرق فأنت تقترب من هدفك المرسوم لكن افكارك وعواطفك ومشاعرك الانسانية تزحف بعدك ببطئ وبتثاقل غريب وكأنها لاتريد اللحاق بك. هذه الظاهرة الانسانية والنفسية الرهيبة سوف تلازمك ومن الان فصاعدأ في المنافي ماحييت. نصفك هنا ونصفك الاخر هناك.

المرحلة الثالثة تبدأ عند وصولك الى البلد المضيف. وهذه المرحلة يمكن تقسيمها الى فصول. الفصل الاول يتميز بفرح يشوبه الترقب. كل شئ جديد وغريب. أنك الان في أوج الفضول. تريد ان تعرف كل شئ عن المجتمع الجديد و تريد ان تتعلم اللغة الجديدة بأسرع مايكون. يغمرك الامل والتفائل الى حد الثمالة. لقد حققت هدفأ لايستطيع الكثيرين تحقيقه. التوقعات كبيرة واحلام اليقضة أكبر والافاق بلا حدود تلفها الوان وردية. وتنسى ألامك ومتاعبك في الفترة الماضية بل وتنسى ولو مؤقتأ حتى أولئك الذين تركتهم في الجانب الاخر من الكرة الارضية… “أه وماسمي الانسان الا لنسيه…”.

الفصل الاول هذا في هذه المرحلة قد يستغرق اسابيع او اشهر معدودة يليه الفصل الثانى الذي يكتنفه الكثير من التعقيد. أذ تستيقظ على أجراس الحقيقة وعليك الان ان تجابه وترى الواقع كما هو بدون اقنعة. اجتماعيا فان الهجرة تعني بانك انسلخت من منظومة اجتماعية وثقافية واقتصادية كنت قد الفتها وعشتها وعاشت هي الاخرى في ثناياك. لكنك الان تعيش في منظومة جديدة بكل المقاييس. ذلك لايعني باي حال التخلي عما تعتقد بصحته وتأمن به. لكن الممانعة المطلقة وعدم تقبل الجديد سوف لن يجعل حياتك اسهل. لانك شئت ام ابيت سوف تتأثر بالواقع الجديد بشكل مباشر او غير مباشر. من الان فصاعدأ عليك ان تجد حلولا توفيقية مقبولة لكي تستطيع العيش بسلاسة في بيئتك الجديدة. لكن الكثير من المهاجرين لايستطيعون التأقلم مع مجتمعاتهم الجديدة. هذا الفصل الجديد يتسم بالجدية ويتطلب منك التفكير والتصرف بواقعية وترك الاوهام التى غرقت فيها في الفترة السابقة. سوف تكتشف الان بان الحياة في المجتمع الجديد لاتشبه اطلاقا الرقص على الزهور.

ومع مرور الايام تبدأ خيبات الامل بمداهمتك افواجأ افواجا فتفتك بتفائلك وتصيبه بالتعرية و تنخره الى حد المرارة. ولربا تلعن الساعة التي خطرت فيها على خاطرك فكرة الرحيل. عدا القليل من التخصصات العلمية مثلا كالطب والى حد ما الهندسة فانك تكتشف بأن تعليمك الجامعي ليس له اي قيمة في سوق العمل. معادلة التعليم الجامعي يتم من خلال دراسات اضافية مكملة, ولكن حتى معادلة شهادات الطب والهندسة قد يستغرق سنوات وربما عليك ان تبدأ من الصفر اذا كان لديك شهادة جامعية في العلوم الانسانية وماشاكلها. كما يكتشف البعض بان تعلم اللغة الجديدة “مثل أمل اليهود بالآباعر” كما قالت العرب خصوصا وان تعلم اللغات يصعب كلما تقدم بك العمر. وبدون اللغة لاتسطيع الحصول على عمل. أنت الان عاطل عن العمل وقد خسرت مركزك الوظيفي ومكانتك الاجتماعية كرب ألاسرة ومعيلها في وطنك الاصلي. زوجتك يمكنها الان ان تعيش بدخلها الاقتصادي الخاص بدون الاعتماد عليك. وعليك الان ياصاحبي ان تعامل زوجتك باحترام وألا فان الزلزال أت لامحال. حتى مقامك لدى اولادك يتطلب الحكمة. أنك الان بدون اي خطوط اجتماعية دفاعية ذات اطر حديدية تدعم مركزك الاجتماعي الذي كان لديك. ولكي لايساء فهمي اقول ان المهاجرين يتأثرون بما اوردت بشكل متفاوت اعتمادا على منحدرهم الاجتماعي و مستواهم التعليمي واصول التربية وطبيعة علاقاتاتهم الاسرية قبل الهجرة. فمثلا الرجل الذي كان يتعامل مع زوجته بتعال واحتقار في الوطن الام سوف يفقدها بأسرع مما يعتقد في بلد المهجر اذا استمر على نفس المنوال.

وتمر السنون لتنضج أفاق جديدة تتسم وبشكل عام بألاستقرار والتوازن وقبول الامر الواقع. فبعد سنوات اصبحت لديك الان تجارب ومعارف معقولة وربما اكتسبت مهنة جيدة تدر عليك دخلا معقولا يمكنك من تدبير حياتك في مجتمعك الجديد. أنت الان اكثر قبولا بان الرياح لاتجري دائما بما يشتهى المهاجر وبأن كل شئ له حدود. ولكنك يا صاح قد تكون أيضأ احد الذين لايريدون العيش بانسجام مع مقادير الحياة, وهم كثر, فيصورون ويرسمون لانفسهم صورأ اكثر رونقا ونرجسية مما هم علية في حقيقة الامر. وعلى كل حال تتميز هذه الفترة أيضا بطغيان الرومانسية والحنين الى الماضي. والذروة فيها هو التخطيط والسفر سنويا “الحج الى الجنوب” والعودة الى الجذور وزيارة الاهل والاصدقاء او قل من بقى منهم…