23 ديسمبر، 2024 6:24 ص

النَّقد يُقصي شُعراءَ الموصل

النَّقد يُقصي شُعراءَ الموصل

هل بدأنا نشهد تخندقا مناطقيا و طائفيا في إطار الفعل الثقافي مثلما هو حال المشهد السياسي العراقي بعد العام 2003 ؟

هل بدأنا نؤكد في ممارستنا الثقافية على أننا لمْ نعُد نَخجَل،ولمْ نعُد نتلعثم في الإفصاح عن انحيازانا المناطقي والطائفي ؟

وكأننا قد أصبحنا في تصالحٍ ووئامٍ تام مع ماكُنّا نعدهُ خطيئة قبل أنْ يكون خطأً..مع ماكُنّا نَربأُ بأنفسنا عنه مِنْ توصيفات ومصطلحات وعناوين لاترتبط بأيّة صلة بالمنجز الثقافي،بقدر صلتها بماينتمي الى ماهو متخلف من الموروث القَبَلي بكل اشكاله؟

هذا مايبدو لنا في ظاهر صورةٍ إختفى عنها تعدد الألوان،ليتَسيّدَها اللونان الاسود والابيض..صورةٌ شاحبةٌ مُظلِلَة يقف خلف تصديرها مثقفون يفتقرون الى أدنى مستوى من الشعور بقيمة الهوية الوطنية قبل أن تدركهم شؤون المعرفة والثقافة والانصاف بالقول والتفكير .

صورةٌ بات يعكسها مشهد ثقافي ــ عراقي بامتياز ــ طالته شظايا واقعٍ مُلتَبسٍ ومُتلبَّسٍ بتناحرٍ وتجاهلٍ وتغافلٍ مناطقي وطائفي،إستعار أدواته من واقع سياسي مُشوَّهٍ ومشوِّهٍ جاء نتيجة طبيعية لما فرضه المحتل الاميركي عام 2003 من مفاهيم،كان الهدف منها تدمير القيم والمثل الانسانية التي كانت

تجمع الناس على العيش والتعايش المشترك بشتى مِللِهم ونحلهم وفرقهم،إلى الحد الذي لايرى أيّا منهم إلاّ نفسه وطائفته وعشيرته،وكل ماعدا ذلك لاوجود له.وإلاَّ مامعنى أن يٌشطَب شعراء الموصل ــ جميعهم ــ في اصدار ادبي يدََعي توثيق الأسماء الشعرية ــ مع نماذج من نصوصها ـــ التي ظهرت في العراق خلال الاربعين عاما الماضية ؟

وكأن الموصل وفق هذا الاصدار لم تعرف الشَّعر،ولم تكتب الشَّعر،ولم تحتف بالشَّعر،ولم تنجب شعراء ! وهذا مالايتفق مع السياق العام للثقافة العراقية التي كان الشعر علامتها الفارقة،ولم تكن تخلو اية مدينة ولاقرية عراقية من شاعر ينتمي لها،فكيف الحال بالموصل وهي واحدة من ثلاث مدن عراقية ــ بغداد البصرة النجف ــ كانت منذ العهد العباسي والاموي رافداً حيويا في مسار الثقافة العربية، وكان الشعر أحد أوجهها.

اليست الموصل في طليعة مدن العراق التي احتفت واحتضنت أولى علامات الحداثة والتحديث في المجتمع العراقي ابتدأ من منتصف القرن التاسع عشر؟

اليست لها الريادة الاولى في تأسيس أول مدرسة وأول مشفى وأول مطبعة وأول عرض مسرحي ؟

المدينة التي يكون سياق مسارها الحضاري على هذه الصورة لابد أن يولد فيها الشعر بالفطرة على لسان ابنائها وليس العكس هو الصحيح .

لم تكن الموصل مدينة تقبع في مجاهل الصحراء ولامدينة من رمال،وهي المدينة التي يأبى فصل الربيع إلاّ أن يزورها مرتين خلال العام الواحد،ولهذاتكنى بأم الربيعين،فكيف لايولد من ربيعها شعراء .

أن قائمة المطبوعات الشعرية التي صدرت عن شعرائها خلال العقود الاربعة الماضية يطول ذكرها،وفاز عدد من تلك الاصدارات بجوائز عربية ودولية،وقائمة المهرجانات الشعرية التي نظمها شعراء المدينة من الأهمية بمكان أن دفعت معظم شعراء العراق والعرب المشاركة فيها،كما هو الحال

في مهرجان ابي تمام بدوراته الاربع(دورته الاولى عام 1971 ودورته الاخيرة عام 2010 ).وكان لبعض شعراء المدينة حضورا متميزا في مهرجانات الشعر العربية كما هو الحال مع وليد الصرَّاف وعمر العناز اللذان كانا من ابرز المشاركين في مسابقة امير الشعراء في ابوظبي،وقد اكتشف الصرَّاف عندما شارك قبل عامين بمهرجان شعري في موريتانيا ــ بلد المليون شاعر ـــ ان اغلب الحاضرين يحفظون اشعاره ويتغنون بها.

مادفعني الى هذه المقدمة ــ التي تحمل رسالة احتجاج اكثر مما تشير الى خلل في عجلة الثقافة العراقية ــ قراءتي لكتاب يحمل عنون(القيثارة والقربان..الشعر العراقي منذ السبعينات وحتى اليوم) الصادر بطبعته الاولى عام 2013 عن دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع (553 صفحة ) وقد تولى تحريره وتقديمه سهيل نجم،كما كتب مقدمة مطوّلة له الشاعر شوقي عبد الامير .

كما يبدو فإن هذا الاصدار قد جاء ليكون مصدرا للدارسين والباحثين، يسهل عليهم معرفة خارطة الشعر العراقي خلال اربعة عقود مضت،اسماءً ونصوصاً .

الملاحظة الجوهرية التي تسجل على هذا المطبوع إغفاله ــ التَّام ــ لكل الاسماء التي كَتبت الشعر في مدينة الموصل خلال الفترة التي رصدها وارشفها،مع ان الذين كتبوا الشعر خلال الاربعين عام الماضية في مدينة الموصل كان لهم حضورهم المؤثر خلال هذه الفترة،نذكر بعضا منهم على سبيل المثال لاالحصر:معد الجبوري،عبد الوهاب اسماعيل،سالم الخباز، ذوالنون الاطرقجي،مزاحم علاوي،حيدر محمود،امجد محمد سعيد،يونس صدّيق،رعد فاضل،نامق سلطان،إياد العبّار،محمد صابر عبيد،كرم الاعرجي،كمال عبد الرحمن،كامل النعيمي،زهير بردى،اوس الفتيحات،عبد المنعم الامير،وليد الصراف،عمر العناز،هشام عبد الكريم،محمود

الدليمي،ماجد حامد محمد، حاتم حسام الدين،باسل كلاوي،جلال الصائغ،علي حيدر ،مروان ياسين الدليمي،امير بولص وعد الله ايليا،وآخرين.

في المقدمة التي تصدَّرت المطبوع يقول محرر الكتاب سهيل نجم إن:” القارىء سيجد هنا قعقعة اصوات الحروب والآمها وسرفات الدبابات ونداءات وتذمرات،فضلا عن الاصوات الداخلية التي تشتكي العزلة والوحدة ومصارعة وحش الغربة الممضة ” .

ويبدو أن سهيل نجم ولا عبد الامير لم يجدا في نصوص شعراء الموصل” قعقعة اصوات الحروب والآمها وسرفات الدبابات ونداءات وتذمرات،فضلا عن الاصوات الداخلية التي تشتكي العزلة والوحدة ومصارعة وحش الغربة الممضة”. ولربما وجدوهم قد انصرفوا الى عوالم اخرى لاصلة لها بهموم الشعر العراقي التراجيدية،ولهذ لم يحتف الكتاب بهم .

اي متابع للشعر العراقي المنتج خلال العقود الاربعة الماضية لايستطيع ابدا أن يتجاهل صوتا شعريا مثل مَعَد الجبوري أو رعد فاضل على سبيل المثال .

بنفس الوقت نجد عديد من الاسماء العراقية التي وردت في هذا الاصدار لايمكن مقارنة منتوجها الشعري ــ من الناحية الفنية ــ بمايكتبه الجبوري وفاضل،بما تحمله اشعارهما من دلالات تشير الى أنهما كانا في تفكير دائم بانتاج نص شعري يحمل علامات التجديد والتفرد في بنية النص الفنية .

هذا التجاهل ــ سواء كان مقصودا أم غير مقصود ــ يحمل بين طياته اجحافا كبيرا بحق شعراء مدينة الموصل،قبل أن يكون تنصُّلاً عن شرف الأمانة العلمية التي يتوجب على الباحث أن يتمسك بها،وهذا ما يفرض علينا أن نطرح سؤالا جوهريا على محرر الكتاب: لماذا تعامَلَ بهذه الطريقة ــ التي اقل مايقال عنها انها تفتقد الى العلمية والموضوعية والأنصاف ــ مع شعراء الموصل،مع أن المدينة لم تكن طارئة بين المدن العراقية،سواء في وجودهاالتاريخي أوفي حضورها الشعري،بل على العكس من ذلك كانت

دائما حاضرة وفاعلة طيلة وجودها الذي يمتد لمئات السنين في الثقافة العراقية والعربية ؟

أجد أن السيد محرر الكتاب سهيل نجم والشاعر شوقي عبد الامير الذي كتب المقدمة له،قد وضعا نفسيهما في زاوية حرجة أمام الباحثين والنقاد والمبدعين المنصفين ــ الذين سينصفونهما جيدا ــ عندما سيطرحون عليهما اسئلة محددة بلا أدنى شك : لماذا هذا التجاهل ؟ هل كان القصد منه مدينة الموصل أم شعراءها ؟

جوابهما في كلا الحالتين سيزيد الطين بِلة،فالموصل لايستطيع أن يتجاهلها أحد، مهما كان وأيّا كان ،ولاحتى شعراءها .

ختاما نرجو ان يكون النسيان، وليس أمراً آخر، وراء هذا النسيان .