23 ديسمبر، 2024 12:00 م

النوم على فراش ٍ من ماء.. أو الصوت كشخصية سالبة ..

النوم على فراش ٍ من ماء.. أو الصوت كشخصية سالبة ..

ليلى العثمان في (خُذها لا أ ُريدها )
(*)
(الغسول ) هو الفصل الأول في الرواية وله وظيفة أخرى ، حين أتمعن في هذا الفصل ، ضمن قراءتي المنتجة ، أرى : خلية سردية موقوتة ، ستتشظى على مدى (227) صفحة من الحجم المتوسط ، وهي خلية تتجاور مع المقدمة كهدب من أهداب النص ..وفصل (الغسول) ينهض في فضاء مغلق وسقف بسبب مستلزمات تأشيرة الآخرة، أشد إنخفاضا : كافور – طاسة السدر- صابونة الرقي – ليفة – مشط خشبي – قطن – كفن – تابوت ..وهكذا سيوصل المغلق إلى الأشد إغلاقا ..حيث الفراغ الأبيض الأشد قساوة .والغسول هو القوس الإسلامي في الرواية ، أما القوس الثاني في الرواية فهو (زفاف ماري / ص213) وتركيز السرد على تأشيرة الآخرة المسيحية : شمعدانات كبيرة – صليب ضخم – شموع صغيرة – بخور ، وسط كل هذه الأشياء : سرير ماري ، بدلة زفافها، مكياج لوجه الميت ، وبشهادة الزوج المفجوع يوسف (نحن المسيحيين نزيّن موتانا، نزفهم كما نزف عرائسنا ../218) .. وهناك ميتات أخرى سيؤكد السرد على الفراغات التي ينتجها الموت : موت الأب / موت زوج الساردة المشاركة في الحدث / موت زوج (بدرة) أم الساردة / موت مسعودة ..
(*)
فضاء الرواية يتوزع بين ثلاث دول : الكويت / عمان / بغداد ..لايرد اسم الكويت في الرواية ، والقارىء الذي لايعرف كويتية الروائية ليلى العثمان لايشخص ذلك ، حتى المفردة العامية لاتحيل إلاّ لدول الخليج العربية قاطبة ، وعمان لاتشخص بمعالم معينة كذلك ، وبغداد لاتتضوع عطورتها ، بل تذكر كمفردة تحيل إلى وطن أبويها : المهندس عباس الشويحي ،جاء من بغداد واستقّر بالكويت وأمها بثينة الجوهري ..وسفريات بدرة المتكررة إلى بغداد ستؤدي .والزمان في الرواية لارزنامة له ، ليس لدينا سوى مؤشر واحد للزمان ، أبو زويد العربنجي ، الذي يشتري سيارة بيك /، والساردة المشاركة قارئة كتب ، لكن لاتخبرنا عن قراءتها ، وستخبرنا عن قصصها بعد ذلك !! كأننا أمام رواية تغترف من السيرة الذاتية
للمؤلفة ، أقول تغترف ، لأن ( خذها لا أريدها ) ليست سيرة ذاتية ،لكنها تتضمن صفحات منها ..من خلال إصرار الأب ، على عدم ضرورة أن تكمل ابنته تعليمها ، يجعلنا النص الروائي في خمسينات القرن الماضي ..
(*)
الآصرة بين الأم الميتة والإبنة العائشة : توجزها الوحدة السردية الأولى في السطر الأول من الصفحة الأولى ..(وصلت ُ متأخّرة .أمي الحبيبة مسجّاة أمامي على اللّوح الخشبيّ بعد أن ثابت روحها إلى السكينة ../5 )…وبين توصيف ٍ وسرد تسألها نفسها الساردة المشاركة في الحدث الروائي ..(..من يصدّق حزني؟ )..
(*)
المحذوف من النص : لماذا الأبنة وصلت متأخرة ؟! ماالذي جعلها تتأخر ..؟ وحين تتساءل الأبنة (من يصدّق حزني ؟) أتساءل كقارىء : من يكذ ّب حزنها؟هل الجارات ..؟ وبشهادة الإبنة (عرفنها أكثر منّي ،تواصلن معها، أحببنها الحب الذي عاش حتى إغفاءتها الأخيرة حزنهن عليها واضح وصادق . وأنا…./5) والمحذوف الثاني : هو تغيب معرفة الإبنة بالأم أثناء حياتها .. والتغيب لدى الإبنة إنها كانت بين قوسي ّ..(حب تصوّرته انطفأ ،وندم يفصح عقوقي الذي دفعني إليه عناد أجوف ../6) ولبنى تحمل جرثومةً إجتماعية وراثية ، إنتقلت إليها من جدها لأبيها حين عصى والده وتزوج بدرة البغدادية ، وبشهادة والد لبنى ..(فأبي الذي كسرت كلمته ظل غاضبا عليّ وبابه مغلقا في وجهي ../46) فحرمه من زيارته ، ومن الحضور في عرس أخته سارة (وظل غاضبّا متبرئا منيّ لحظة موته .كنت أقف ذليلاً وأنا تلقى العزاء، فكل العيون كانت تلومني، وأمي حين عانقتها ناحت وصوتها يُدينني ،، أبوك مات بحسرته ،، / 47) وسيكون الموقف نفسه بالنسبة للأبنة لبنى وهي في المغتسل ..(أصوات المعزّيات المبقّشات بالسواد تكرر التعازي ، تلك بحنان ، أخرى باللوم، وثالثة تتأسف : ،، ماتت بالحسرة ،، وكأن أصابع اتّهامها تقصدني – بل هي تقصدني – ../17) ..
(*)
يُحدث الموت ، تراسلاً مرآويا نسويا ..بين الأم / الإبنة ..(ماذا لو كنت أنا الميتة وأمّي ترفل بثوب العافية ؟ هل ستبصق على وجهي وتهيل عليّ تراب لومها
لتزجّني دعواتها الغاضبة إلى جهنّم وبئس المصير !؟ أم تراه قلب الرحوم يحنو ويزفّني إلى الديّان ليتكفّلني بما أستحقّ ؟! ..)
(*)
تحدث نقلة جهوية ،بإنتقال السرد من الجواني ، إلى البراني ، بتوقيت المرأة غاسلة الميتات ، المتسمة بسلوك مهني حيادي ..
*(دخلت تسبقها رغرغة صوتها، تحوقل وتُبسمل وتردد الشهادتين )
*(قصيرة ،سمينة، تقاطع وجهها غليظة غير مريحة ،لونها مائل لسمرة زرقاء، شعرها الأجعد بفرقه العريض يبرز خيوط الشيب ويضاعف عرض الوجه ../7)
*(شقت طريقها بين النائحات )
*(اتّجهت صوب أمي )
*(أمرت بصوت لايخلو من حدّة : صلوا على النبي ..لاتعذ ّبوا الروح بالعويل )
وحين تبدأ بتغسيل الميتة سترصد الساردة / الإبنة
سنلاحظ ان حرفية تغسيل الموتى ، لاتتخاطب مع الأحياء ، لم تسلّم على النسوة وهي تدخل المغتسل ، بل إستعاضت عنه بالبسملة والحوقلة والشهادتين ، وتتخاطب بعينيها، مع مستلزمات تأشيرة الآخرة ..(تفقدت الأغراض المُجهّزة ، هزّت رأسها علامة الرضى ،سمّت بالرحمن ، تشهدت قبل مباشرة عملها ../7)
وهي تتعامل مع الموت بمهنية..(راقبت عيناي وجهها الخالي من تعابير الخوف .فالموت ليس حدثا غريبا تخشاه أو تنفر منه . وما أجساد النساء الميتات أمامها سوى تماثيل نامت عليها الأتربة ومهمتها تنحصر بإزاحتها ../9)..
(*)
(خُذها لا أ ُريدها ) هذا النصيص المبهم ، كثريا للرواية ،ليس فقط من العنوانات الاشتقاقية ، بل هو الخيط الجارح لحبات مسبحة الساردة ..وهو زمنها النفسي المتراسل مع مرآة الأم وهو الكسر الذي لاجبيرة له ، سوى خبرة الساردة مع المربية العظيمة : الحياة ..
(*)
خُذها لاأريدها ، نلتقطها في ص19 أثناء شجار بين الزوجين ..(صوتها الجاف ّ من أمومتها وصرختها المُجلة في وجه أبي تطاردني ( خذها… لا أريدها ) ..نلاحظ أن الطفلة سمعت مايعنيها هي فقط ،وبقيت الطفلة لبنى طفلة في تعاملها مع هذا المشهد ، بل أسقطت نفسها في بئر طفولة خاص مع تلك الصرخة من أمها ..فتلبسها زمنها النفسي – زمن الصرخة – وبشهادة لبنى نفسها ..(ظللت ِ يالبنى تفُسحين للستائر السوداء مساحات شاسعة في ذاكرتك .كنت بإصرار تُرسخين المشهد الذي شرخ طفولتك ليبقى وقودا يُشعل حقدك عليها فتتشفيّن بالانتقام منها غير آبهة ٍ بعاطفتها .لم تحاول حين كبرت ِ، أن تستفسري منها عن أسباب ذلك العراك الدائم بينها وبين أبيك ./ 29).. وستتكرر هذه الإحالة مرة أخرى ..(وجه أمّك ِ المفرفر بداخلك كعصفور يقتنص فرصة الهدنة ، يحدُقك ِ بتوسل لتتذكري وتسطعي بمشاهد من حنانها ، لكنّك بعناد تصدّين لتوسلها وتسدلين الغلائل كي لايُبعث أمامك ِ الشيء الجميل الذي يحقق لها العدالة ../59).
هنا سيكون موقف الابنة مرتهن بمؤثرية الصوت :(كان صوت أمك ِ هو الأحد والأقوى مادفعك ِ أن تتحيزي لأبيك ِ، وهكذا رسمت ِ لها صورة الظالم ولأبيك صورة المظلوم ..)..من هنا ترى قراءتي للرواية أن نبرة الصوت يمكن إعتبارها شخصية رئيسة في الرواية ، من خلال فهرسة الإحالات التي تحتويها هذه الجملة الفعلية الصلدة مرتين : فعل أمر(خُذها) ، يعقبها (لا) الناهية ، في حين لايذكر جواب الأب ، إلاّ مرة واحدة : (سآخذها معي / 29)
(*)
*صوتها الجاف من أمومته وصرختها المُجلجلة في وجه أبي تطاردني : خذها ..لا أريدها / 19
*أمك ِ صرخت بملء غضبها : خذها لاأريدها / 29
*كيف كان يتسنى لك ِ وأنت الطفلة أن تفهمي أوجاع روحها ؟ كنت فقط تُشاهدين الأم التي (خذها لاأريدها ) وما كنت ِ لتدركي أنها صرخة امرأة مطعونة تبحث عن خلاصها حتى وإن قطعوا شريان قلبها الوحيد / 31
*تنفرين من الذكرى ، تصدّين الوجه الذي تشتاقينه ، ينقبض وجهك ِ، يشحنك ِ ألم ٌ غامض واللحظة الأخيرة تفاجئك :خذها لا أريدها .ينتفض شيطان الحقد ،ترددين دسائسه في سرك : (أمي طردتني … لأنها تكرهني ) ../37
*هددتها أنني سآخذ لبنى وأحرمها منها .تصورتها ستفزع وتثوب لكنها صرخت غير مبالية (خذها لا أريدها ) مرغما طلقتّها .وخرجت ُ بلبنى التي أصرت مسعودة أن تحتضن يُتمها بذراعيها وقلبها ../53
*وحين يخبر الأب ابنته بضرورة زيارة أمها ، تحاول البنت ان تتقمص دور مشهد الأم وتثأر لنفسها من أمها وبشهادة الأب ..(صرخت ِ وكأنك ِ تقصدين أن تردي لها صفعتها القديمة ..(لا أريد أن أراها ..) ../57
*نلاحظ أن إخبار الأب ،جاء بنبرة قلقة (همس َ بصوت غير مرتاح لكن الهمس وصلك ِ دوّيا كالرعد (أمك طلبت أن تشوفك ِ).. سنلاحظ تأثير ذلك على صوت البنت ..(بحثت ِ عن لسانك الذي تشمع في سقف حلقك ِ، وما إن أصطدته حتى انطلق شاهقا وداميا (أمي….!؟) / 56 فمن باب الموازنة ستكون نبرة الأب متوازية لنبرة البنت (تعمد حدّة في صوته ليشعرك بأن الأمر ليس غريبا (إيه … أمّك .هل نسيت ِ أن لك ِ أمّا ؟) هنا يرّكز السرد على شخصنة الصوت كرابط تفاعلي بين الأب / الإبنة ..(لسانِك التوى حتى الحنجرةوقرفص هناك ، سد ّ منافذ الصوت ، أختناقك ِ أجحظ عينيك ِ باتجاه وجهه الذي لم يخل من ارتباك أصفر ..) ..
*سيأتيك ِ كل وجهها الجميل بشروقه لابلحظة غضبه الأخير وصرختها الموجعة (خذها لا أريدها ) .وحدها اللقطة الراسخة فكيف وقد عرفت ِ أن رجلا ً آخر يسكن بيتها ../ 60)
*طحنت الكلمة برأسك ِ.عواطفك الباردة لاتدرك معنى الكلمة ، أصل الرابطة وعمقها ،فلا صورة لحنان أمّك ِ تؤجّج ذاكرتك ِ.كل الصور تغيب إلاّ صورة الفراق الأخير و..(خذها لاأريدها )../64
*ولِدت ْ في داخلك ِ مشاعر غريبة وعنيفة لتحطمي قلبها وكأنك ِ تريدين الانتقام من صرختها الماضية (خذها لا أريدها)../83
*هل تتشبه قلوب الامهات ؟ إذن كيف استطاعت أمي أن تقطع رباطنا وتصرخ
(خذها لا أريدها )../129
*وأحيانا الأبنة تواجه الأم حين تلح الام على ان تتزوج الابنة ثانية :
(- تريدين أن أصير مثلك ..أتزوّج وأرمي ابنتي ) ../ 135
هنا سيتأثر صوت الأم (تعكّر صوتها : أنا مارميتك ِ..أبوك هو الذي أخذك )
الأم يأثم ظنها وتتهم الأب (أبوك – أسود الوجه – سوّد قلبك عليّ بعد أن سوّد َ عيشتي وخرب َ البيت و….و../ 149) وتجدها البنت فرصة وهي تتذكر تلك الصرخة ..(خذها لا أريدها ) فتصرخ الابنة في وجه أمها ( لاأريدك ) ثم تتساءل
(هل كنت ُ أنتقم لأبي أم لنفسي لأذيقها مرارة تلك اللحظة القديمة ../ 150)
(*)
نلاحظ من فهرستنا للجملة الفعلية النافية ، ان كل تكرار يضيف مساحة سردية ويعمق المعنى ، ويكشف عن وحدة وصراع الاضداد في ذات الإبنة ، وان هذه الجملة الفعلية هي نول ونسيج الرواية ..والسؤال الممكن طرحه ، هل سبب الخلاف بين الزوجين : عبد الوهاب وبدرة ، هو الاختلاف البيئي في زمن احداث الرواية
بين بغداد والكويت ، وحسب قول بدرة (وعيشتي بها لبيت اللي ما يدق بابه أحد . أهلك مايحبّوني ) (أنا مليّت من هالحبسة ، عند أميّ أحس بحريتي أشوف الدنيا وأستأنس ../ 48)..
(*)
واللامفكر فيه بالنسبة للبنى هو ما سمعته من صوت الأب لحظتها والتي تنقله هي لنا كساردة مشاركة ..(..وأبي يهدّدها أن يأخذني منها..)..يبدو أن المحذوف في النص يبقى محذوفا متواريا في النص !! محض سؤال من نسيج (عطيل ) شكسبير
(بدأت الوساوس تنخر بعقلي ، هل تذوقت في أسفارها فاكهة غير فاكهتي ؟ كنت ُ بكل حبي لها أصد تلك الهجمومات كي لاأظلمها وأعذب نفسي ../49)
يمكن أن نعثر عليه في موقف الأب من عدم الزواج بعد الطلاق ..بقوله لإبنته حين تريده أن يتزوج كما تزوجت أمها ..(هل تدرين مامعنى أن تتزوج أمك ويتزوج أبوك ..؟/ 91) (يعني أكون أنا وهي ملك الغرباء وتصيرين أنت الغريبة ../92)
(*)
.المساحة السردية مكرّسة لشخصية لبنى ، وكل الشخصيات الأخرى في الروائية تستضيء منها فهي الشخصية المحورية .. ومحور الشخصية المحورية : هو صوت الأم وهي تقذف جملتها بوجه الأب فلاتصيبه .. ستصيب الجملة إبنتها الوحيدة لبنى ..
*ليلى العثمان / خذها لاأريدها / دار الآداب / بيروت / ط2/ 2011