23 ديسمبر، 2024 3:20 ص

النهضة العربية الحديثة والنهضة الأوربية وصال أم انفصال

النهضة العربية الحديثة والنهضة الأوربية وصال أم انفصال

حين نطلع على أدبيات وفكر النهضة العربية الحديثة (القرن التاسع عشر الميلادي وما بعده) وأدبيات وفكر النهضة الغربية (الأوربية) الحديثة (القرن الخامس عشر الميلادي وما بعده)، نرى أن هناك بوناً شاسعاً من الأختلاف بين الأثنين، لا يستطيع مقال بسيط أستيعابها وتشخيصها بهذه العجالة، فقد كتبت االكثير من الدراسات والكتابات والمؤلفات من قبل المفكرين والباحثين، التي تَشرح وتُشرّح وتوضح صورة وشكل النهضتين، ومدى استفادة المفكر والمثقف العربي من منجزات النهضة الغربية، ولكن الذي أُريد قوله في هذا المقال اننا في النهضة الأوربية أمام منجز حضاري وعلمي وفكري وأدبي وفني وسياسي كبير، أمام ثورة معرفية شاملة غزت الغرب بالكامل وتحول وجه أوربا وفكرها من حال الى حال، أتضح للجميع الفارق الكبير بين أوربا ماقبل النهضة الحديثة وأوربا ما بعدها، فكرياً وأجتماعياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً وعلمياً، أوربا الغارقة في الجهل والأنحطاط والصراع والعنف والحروب والتطرف والكراهية، أوربا الصراع الديني والعنف العنصري ومحاربة العلم والتحديث، أوربا التفكير الثيلوجي والنزعة الأبوية والأستبداد الديني والسياسي، أوربا العصر الوسيط المظلم، حيث محاكم التفتيش والوصاية الدينية والسياسية والتفويض الالهي والفكر الكهنوتي ، وبين أوربا التقدم الحداثة والتنوير والثورة الصناعية والعلم والمعرفة والفن والليبرالية والفكر الديمقراطي والتوجه الانساني، كان كل شيء في أوربا ماقبل النهضة في خدمة الكنيسة والدين المسيحي، الفكر والعلم والفن والفلسفة، الكلمة الأولى والقول الفصل للدين أولاً وآخراً، وفي سبيله تبذل الأرواح والأموال والثروات والأفكار، يجب حراسته والتضحية من أجله وفي سبيله، والدين (النقل) مقدم على العقل، والثاني في خدمة الأول، حتى أن الفلاسفة والمفكرين المسيحيين كانو يرفعون شعار (الفلسفة في خدمة اللاهوت)، أي أعتماد الفلسفة والمنطق للجدل ولنصرة الدين ومحاججة الأديان والأفكار الأخرى، وساد وقتئذٍ الاعتماد على المنطق الأرسطي (الصوري)، منطق القضية ونقيضها، منطق القضيتين ولا ثالث لهما، منطق الثنائيات، الحق والباطل، الخير والشر، الأبيض والأسود، منطق القياس وكمون النتيجة في مقدماتها، وما حدث في الفترة المسيحية هذه (ماقبل النهضة الحديثة) تشبه الى حد ما كان سائداً في الفترة العربية الاسلامية، زمن صراع المذاهب والحروب الكلامية وانتشار كتب (الأحتجاج) و (الأنتصار) وبيان (الفرقة الناجية من فرق الهالكين ) و (تلبيس أبليس) وفتاوى التكفير والحكم بالارتداد والخروج عن الدين، والحروب الدينية والمذهبية الشرسة التي عبرت عن الفكر المتخلف والكريه لفقهاء السلطة وحكام الجور وسلاطين العنف والكراهية.
لقد ثار المفكر والمثقف والانسان الأوربي على كل ما عاناه من محن وأزمات وتخلف، وعلى السلطتين الدينية والسياسية المتنفذة في المجتمع الأوربي والتي كانت تعمل وفق مبدأ الوصاية والحاكمية والتفويض، أبتدأت الثورة أول ما أبتدأت في أوربا معرفياً وعلمياً، وسبق ذلك الاصلاح الديني الذي حصل بعد ذلك بفضل الثورة العلمية التي دعت للتصحيح والاصلاح والتغيير، حيث كان لثورة كوبرنيكوس (1473 ـ 1543م) العلمية في علم الفلك الأثر الكبير على تغيير فكر أوربا ومنطقها الأرسطي العقيم الذي ساد لقرون طويلة، وثورة كوبرنيكوس أطاحت بالتفكير الديني الكنسي التقليدي غير العلمي في كتابه (حول دوران الأجرام السماوية)، وأطاحت بـ (نظرية بطليموس) في مجال الفلك، والتي كانت تذهب الى أن الأرض وليست الشمس هي مركز الكون وجميع الكواكب وحتى الشمس تدور حول الأرض، وقد ساندت الكنيسة هذه النظرية معللة ذلك بأن الأرض مقدسة لأنها مولد السيد المسيح ومن ذلك أكتسبت هذه القدسية، ولكن نظرية كوبرنيكوس وتجاربه الفلكية العلمية قد أطاحت بكل هذه الافكار وأسقطت وفندت نظرية بطليموس، وقد هاجت وماجت الكنيسة على كوبرنيكس ونظريته التي غيرت صورة الكون وتفكير الناس ودعتهم لتحكيم العقل والعلم بدل الدين واللاهوت ومنطق أرسطو، وهذا يعني ضرب مصالح الكنيسة ونقد منهجها وسياستها واثارة الناس على الكنيسة ومنطقها، وتبع ذلك الثورة السياسية والاخلاقية التي قادها ميكيافلي (1469ـ 1527م) للاصلاح والتغير على مستوى السياسة والاجتماع من خلال نقد هيمنة الكنيسة ورفض فكرة التفويض الالهي في السياسة، وتبع ذلك ثورة الاصلاح الديني في أوربا والتي كانت على يد الألماني مارتن لوثر (١٤٨٣ـ ١٥٤٦م)، الذي نادى بالأصلاح الديني واصلاح الكنيسة ورفض سلطة البابوات وتشويههم لجوهر المسيحية واستغلال سلطتهم الدينية في السيطرة على عقول الناس، وبيعهم لصكوك الغفران، وقد كانت النظرية العلمية لكوبرنيكوس بداية الطريق للثورات الكبرى في أوربا، والمدخل للاصلاح الديني والعلمي والفلسفي والسياسي، والتي أدت الى تكوين فكر النهضة الأوربية وتشكيل كينونتها ومنطقها الجديد بالكامل.
النزعة الانسانية، والمنطق والمنهج العلمي، وفصل الدين والكنيسة عن السياسة، ومرجعية العقل ومركزية الانسان، وتطور الفن واستقلال العلوم عن الفلسفة، والتقدم الحضاري والعمراني والمدني، كل هذه كانت مميزات وخصائص عصر النهضة الأوربي الحديث الذي تميز عن الشرق والعرب والمسلمين، والتي كانت هذه الشعوب متأخرة بالنسبة للغرب المتقدم في العصر الحديث.
الحديث عن النهضة العربية الحديثة ومدى صلته بالنهضة الأوربية الحديثة أو مدى التقارب والتشابه بين النهضتين، لهو أمر مختلف تماماً وذو فارق كبير جداً بين الطرفين، وخصائص النهضة الأوربية الحديثة التي ذكرناها لا يمكن القول بأنها نفسها أو جزء منها قد تحققت في البلاد العربية ونهضتها الحديثة، ولا توجد هناك ثورات كبرى شاملة في المنطقة العربية كما حدثت في أوربا الحديثة، ولم يتخلص الواقع العربي من هيمنة الديني والسياسي وسلطة الوصاية والحاكمية، ولم يتخلص الفكر العربي والاسلامي من منطق أرسطو وأستبداله بالمنطق العلمي والأستقرائي الذي ساد أوربا مع فرنسيس بيكون (1561ـ 1626) وديكارت (1590ـ 1650)، ولم يتحقق شيء مما طرحه فكر التنوير الأوربي على المستوى السياسي والاجتماعي العربي، كما جاء على يد جون لوك (1632ـ1704) وفولتير (1694ـ 1778م) ومونسكيو (1689ـ 1755) وروسو (1712ـ 1778) وكانت (1724ـ 1804) وغيرهم من العلماء والمفكرين الأوربيين. وليس هناك في النهضة العربية الحديثة ثورات اصلاحية دينية كما طرحها مارتن لوثر وجون كالفن (1509ـ 1564) وغيرهما.
ما قدمه رواد النهضة العربية الحديثة امثال رفاعة الطهطاوي (1801ـ1873) وبطرس البستاني (1819ـ 1883) وجمال الدين الافغاني (1838ـ1897) وخير الدين التونسي (1810ـ 1890) ومحمد عبده (1849ـ1905) وجورجي زيدان (1861ـ1914) وشبلي شميل (1853ـ 1917) وغيرهم انما هو شيء أشبه بالصحوة والاحياء والتجديد والتحديث واصلاح بسيط لا يتعدى ولا يقارن بالاصلاح العام الذي شمل النهضة الاوربية الحديثة، ومحاولة من هؤلاء الرواد العرب والمسلمين تقليد الغرب من جانب، والعودة الى التراث والجذور العربية من جانب آخر، وهذا ما تمثل في كتابات رواد الفكر الاصلاحي العلماني والعلمي من جانب، ورواد الفكر الاصلاحي الديني من جانب آخر، والدعوة لأظهار الهوية العربية والهوية الاسلامية في الفكر، وهذا لا يقلل من شأنهم وانما كان له الفضل على زيادة وعي المثقفين والمتطلعين في المجتمع العربي، وقد كانت تطلعات هؤلاء الرواد كبيرة جداً ولكن تفاعل وانسام الجمهور والمجتمع لهم لم يكن بصورة مناسبة وحجم التحدي والظروف السيئة التي تعرض لها الانسان العربي للخروج من العتمة والظلام نحو النور. فخطاب النهضة العربية الحديثة لا يرقى الى خطاب النهضة الاوربية الحديثة، ولا يمكن عقد الصلة الكبرى بين الطرفين، فالحداثة والتنوير على مستوى الفكر الغربي شمل مجالات واسعة وعامة على واقع الحياة والفكر والثقافة الأوربية، أما عربياً فالحداثة والتنوير والتجديد أضحت مجرد دعوات وشعارت يصدح بها رواد الفكر والثقافة العربية الحديثة، وما تحقق منه النزر اليسير والخجول جداً لم نر أثره على الواقع العربي في المؤسسات والمجتمع والواقع، وبقي العقل العربي يلهج بخطابات وشعارات النهضة ويرددها في القرن العشرين والى يومنا هذا، ولكنه غارق بفكر ومنطق العصر الوسيط، ومكبل بالوصاية الدينية والسياسية، ومجتمعاتنا العربية المعاصرة وان يتراءى للكثير منا حداثتها العمرانية والمدنية والحياتية، ولكنها سياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً تقبع تحت أفكار خاوية لا تمت الى الحياة العصرية والجديدة بصلة، وهذا ما يجعلنا نعيش أزدواجية لا مثيل لها، وفصام فكري وثقافي كبير، حداثة حياة وتخلف فكر، لا تجعلنا قريبين صلة بحداثة الغرب وتفوقه العلمي والمعرفي والانساني. وخير دليل على ذلك مجتمعاتنا العربية والاسلامية المعاصرة التي عادت الى خطاب الماضي والتكفير والاصولية والتطرف المقيت واحياء الميت من الأفكار البالية. وختاماً نوجز القول بأن زمكانية النهضة الأوربية الحديثة لا يمكن قياسها بزمكانية النهضة العربية الحديثة، ومناخ النهضة الأولى وأرضها الخصبة التي نشأت وترعرعت فيها نهضة الغرب، لم تتوفر ولم تتهيأ للعرب لرعاية نهضتهم، ولذلك بقيت نهضة (يقظة) خجولة منفعلة وغير فاعلة أجتماعياً وسياسياً وحضارياً وعلمياً، اذا ما قورنت بنهضة أوربا الشاملة وتعهدها بالرعاية والنمو والتقدم من قبل العلماء والمثقفين والمفكرين والناس داخل المجتمع الغربي، تحت ظل منطق العلم وسلطة العقل ودولة المؤسسات والقوانين.