حرص صانعو الأفلام المصرية القديمة على أن تكون نهايات أفلامهم سعيدةً ، فمهما واجه البطل والبطلة من عقباتٍ كؤود ، وأحداث مأساوية ، فالسعادة ستكون خاتمة الأحزان، والمشهد الأخير يجمع المحبين بعد شتات، وهجران ، أو الطليقين بعد خصام إلى عش الزوجية(السعيد طبعاً !) ، والبسمة مرسومة على الشفاه مع ظهور عبارة (النهاية)، وأحياناً (البداية) !
لم يشذ عن هذا السياق سوى بضعة أفلام منها فلم (قيس وليلى) المنتج سنة ١٩٦٠م، لمخرجه أحمد ضياء الدين، واضطلع ببطولته شكري سرحان، و ماجدة الصباحي ، وعمر الحريري، ومحمود السباع، وعباس فارس.
أثرت قصة قيس وليلى كثيراً في الأدب العربي فضلاً عن الآداب الفارسية، والتركية، والهندية والأوردية.
مُلخص هذه القصة :أنَّ الشاعر النجدي قيس بن الملوح بن مزاحم العامري (٦٤٥م ـ ٦٨٨م) الذي عاصر عبد الملك بن مروان، هام حباً بابنة عمه ليلى بنت مهدي بن سعد العامري التي يكبرها بأربع سنوات، فلما شاعت قصته، رفض أبوها تزويجه منها، وزوَّجها إلى رجلٍ من ثقيف يُدعى ورد بن محمد العُقيلي، لكنَّ ليلى لم يهدأ لها بال حتى طُلقت، و امتنعت عن الطعام والشراب حتى توفيت، وبعد خمسة وعشرين يوماً من لحق بها قيس إذ وجد ميتاً بين الأحجار (هل يُوجد مثل هذا الوفاء؟).
من أشهر قصائد قيس بن الملوح قصيدة (المؤنسة) التي أُخذ اسمها لأنَّه كثيراً ما كان يرددها، ويأنس بها، وأول هذه القصيدة:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا
وأيام لا أعدى على الدهر عاديا
ويوم كظل الرمح قصرت ظله
بليلى فلهاني وما كنتُ لاهياً
وقد كانت ليلى ذات ذوق، واحساس، ولها (محاولات شعرية) منها قولها :
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً
وكلٌ عند صاحبه مكين
تحدِّثنا العيون بما أردنا
وفي القلبين ثمَّ هوىً دفين
من سوء حظي أنَّني شاهدتُ الفلم المصري (قيس وليلى) في سهرة الخميس على شاشة تلفزيون بغداد الذي كان يُطلق عليه (قناة رقم ٩)، وكان عمري عشر سنوات مطلع السبعينيات .
لقد كنتُ ضحيةً من ضحايا هذا الفلم غير الصالح للعرض لمن هم في مثل سني، قبل أن تظهر تقليعة( + 18) فقد عرض الحب بطريقةٍ توحي لمن يشاهده أنَّ كل علاقة حب لابدَّ أن تفضي إلى الجنون (وهل هناك شكٌ في ذلك؟)!!
ليس هذا فحسب، وإنَّما يمكن أن يكون الموت هو النتيجة الطبيعية للحب العذري !
ولو كان الأمر هكذا لما بقي على وجه الأرض حيٌّ جراء الحب، وأهل الحب !
أتذكر مدرس اللغة العربية في الدراسة الثانوية بمدينة الحرية غربي بغداد الشاعر محمود الريفي الذي غرس فينا بذرة النقد [محمود عبد حمود الريفي(١٩٣٠م ـ ٢٠٠٥م)] الذي كان يؤكد علينا أن نقرأ مقدمة كل كتاب بما في ذلك الكتاب المنهجي المقرر، وقد علمنا أن ننقد النصوص الشعرية المقررة، وقد ركَّز في نقده على قصيدةٍ كانت مقررةً في المنهج المدرسي عنوانها (ثورة الشك) للشاعر عبد الله الفيصل (١٩٢٣م ـ ٢٠٠٧م) تتحدث عن الحب بوصفه شكاً وقلقاً، وخيانةً !
يتساءل الريفي : هل الحب هو كما يقول الشاعر الفيصل :
أكاد أشكُّ في نفسي لأنّي
أكاد أشكُّ فيك وأنتَ مني
ويرى أنَّ هذه القصيدة لا تمثل الحب، وأنَّ اللجنة التي اختارتها تجنبت الخوض في العاطفة الحقيقية التي تحرك الوجود كله، ذلك الشعور الغامض، والساحر الذي يظل ممتنعاً عن المعرفة وربما راعت اللجنة أعمار الطلبة !
تساءلت مع نفسي ماذا لو كانت هذه اللجنة تعمل في وزارة التربية السويدية !
و لعلَّ أستاذي كان يشير إلى أنَّ أفضل مَنْ يُعبِّر عن الحب هم الشعراء الذين أخلصوا لقضية الحب مثل: قيس بن الملوح، وكثير عزة، وعمر بن أبي ربيعة ، وابن الفارض، ومن الشعراء المعاصرين نزار قباني، ومحمود درويش.
أعود إلى الفلم (قيس وليلى)، والمشهد الختامي غير السعيد له، و المرعب لصبيٍّ في العاشرة من العمر لم يبلغ الحلم، ولا سن الرشد.. ذلك المشهد الذي أقضَّ مضجعي، وسبَّب لي الأرق ليالي،
و أياماً بعد أن كنتُ أنام كما يُطفأ المصباح فهو مشهد موت ليلى، وزيارة قيس لقبرها، ولفظ أنفاسه الأخيرة على القبر، ثمَّ الأدهى من ذلك صعود روحيهما بملابس بيض إلى السماء، مع موسيقى تصويريةٍ قويةٍ !
ألم يجد المخرج غير هذه النهاية التعيسة؟
لكن لا بأس فالنهايات المفتوحة تظل بحاجةٍ إلى مُشاهدٍ فطنٍ يضع النهاية التي تتناسب مع سياق الأحداث.
روي أنَّ أبا قيس ذهب به إلى الحج لكي يدعو الله أن يشفيه مما ألمّ به من حب ليلي، وقال له: تعلّق بأستار الكعبة، وادعُ الله أن يشفيك من حبها، فذهب قيس، وتعلق بأستار الكعبة، وقال: ( اللهم زدّني لليلى حباً، وبها كلفاً، ولا تُنسني ذكرها أبداً) !