23 ديسمبر، 2024 6:40 ص

النموذج الاشتراكي للتنمية الاقتصادية في العراق

النموذج الاشتراكي للتنمية الاقتصادية في العراق

إن طرح النموذج الإشتراكية للتنمية الاقتصادية قد يجعل البعض (أو الكثيرين من اقتصادي ما بعد 2003) هو بحد ذاته تحدٍ يجب مواجهته بتأنٍ وبعلمية وموضوعية. فالاشتراكية اصبحت منبوذة عالمياً منذ انهيار الإتحاد السوفيتي في 1991، وتفرد الولايات المتحدة على النظام العالمي وإندفاعها إلى إحكام سيطرة إقتصاد السوق الحر (النظام الرأسمالي) على الإقتصاد العالمي من خلال منظمة التجارة العالمية وبقية الوكالات الدولية، جعل الكثير من جوانب النظام الإشتراكي محتقراً أو غير مرغوب فيه دولياً.
وحالة النفور من الاشتراكية عندنا نابعة من أن النموذج الإشتراكي في العراق مرتبط بحقبة حزب البعث ورفعه شعار الاشتراكية كمذهب اقتصادي صاحبها سوء تطبيق النظام صدام وإدارته التي جلبت ويلات الفقر وهدر الثروات الوطنية وسوء توزيعها. كما تزامن تطبيق الاشتراكية مع نشوب الحروب وإنعدام قدرة الدولة على تقديم الخدمات للمواطنين على الرغم من العوائد النفطية المالية الوفيرة لدى الحكومة والقدرات البشرية المتقدمة لدى الشعب. فلم تستطع هذه الإنظمة التي إدعت الإشتراكية في العراق (منذ عهد العارفين وحتى صدام) من أحداث قفزة إقتصادية كبرى لتصل بالعراق لمستوى الدول الآسيوية الصناعية المقاربة بقدراتها المالية والبشرية لما لدينا في العراق (عدا طبعاً السنوات القصيرة في بداية السبعينات حتى تولي صدام الحكم). وعلى الرغم من ان العراق سبق ماليزيا في بناء الدولة ومؤسساتها السياسية وجهازها الإداري وقام بوضع برامج التخطيط الإقتصادي والعمراني، ونجح في اعداد الخبرات البشرية العاملة، إلا أن سوء إدارة برامج التنمية وزج العراق في حروب طاحنة نتيجة حسابات استراتيجية سياسية خاطئة هو الذي جعل العراق يتدنى إلى مستوى أقل من دول افريقيا.
ويجب أن نشير هنا هو أن التجربة الاشتراكية ليست مقتصرة على النموذج السوفيتي الماركسي او الشيوعي (أو الصدّامي – بما كان عندنا)، ولكن هنالك من التجارب الاشتراكية الناجحة في العالم منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا، كما هو الحال في الدول الإسكندنافية بصورة خاصة والأوربية بصورة عامة، تجعلنا وتوجب علينا أن نعيد النظر في تطبيق النموذج الإشتراكي، لأن في الكثير من مساراته السياسية ومزاياه الإقتصادية والاجتماعية يلبي مصالح المواطنين بصورة أفضل من النظام الرأسمالي. فالدول الاشتراكية (الاوربية منها خاصة) توصف على أنها من أفضل الدول رخاءاً وأكثرها تطوراً وأفضلها بمؤشرات “السعادة” التي يتمتع بها المواطن. ومن هذا الدول هي: الدنمارك، وفلندا، وهولندا، وكندا، والسويد، والنرويج، وايرلندا، ونيوزلندا، وبلجيكا بالاضافة الى ألمانيا وبريطانيا وفرنسا قبل أن تتقلد الحكم فيها أحزاب يمينية تدفع نحو “الرأسمالية واقتصاد السوق”. فجميع المهاجرين يتقون الوصول الى هذه الدول “الاشتراكية” للحصول على رغد العيش والكرامة الانسانية والحرية وبالتالي تحقيق السعادة النفسية. فهذه الدول “الاشتراكية” تصنف اقتصادياً بأنها في أعلى سلم الدخل الفرد السنوي بين أكبر عشرين دولة في العالم.
وقد بينا (في مقالتنا السابقة: أسعار النفط المتصاعدة .. والتنمية في العراق) أنه كيف عندما إنهار النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة أن كلاً من الرئيس روزفلت في بداية القرن العشرين، وباراك أوباما في بداية القرن الواحد والعشرين، لجأوا إلى بعض العلاجات “الإشتراكية” لإنقاذ الاقتصاد الوطني.
فالاشتراكية بمفهومها المبسط هو تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وإدارة فعالياته الانتاجية والمالية وتقع على عاتقها مسؤولية توزيع الثروات بصورة عادلة بين طبقات الشعب. أما “إقتصاد-السوق” فإنه يمنع مثل هذه التدخل ويرفع يد الدولة عن الحياة الاقتصادية. وما نراه أن أغلب الدول التي تتبع النظرية الليبرالية–الديموقراطية اقتصادها مختلط بين الرأسمالية والاشتراكية. فالمقياس الصحيح لمعرفة ما هو رأسمالي وما هو اشتراكي بين اقتصاد الدول يعتمد على مدى نسبة تدخل وسيطرة الدولة على الاقتصاد الوطني ونسبة انفاقها العام مقارنة بالانتاج السنوي المحلي. فنرى مثلاً أن الاقتصاد الفرنسي قد يكون أكثر اشتراكيةً من الاقتصاد الروسي، وكذا الحال بالنسبة للاقتصاد السويدي، ربما يكون أكثر أشتراكيةً من الصيني – حسب هذا المعيار.
وفي منظومتنا الإقليمية فقد نجد أن الكويت أكثر اشتراكيةً من كوبا مثلاً من ناحية أن هذه الدول الخليجية تملك وتسيطر على نسبة كبيرة من معدل الانتاج الوطني (القائم على النفط) وتقدم الخدمات بصورة كاملة ومجانية للمواطنين، كما وإن أغلب اليد العاملة هم موظفين لدى الحكومة وأن الحكومة الكويتية تتولى بصورة تامة امور التخطيط والتنمية والسيطرة على المؤسسات المالية، هذا بالإضافة إلى اعتمادها برامج توزيع الثروات المالية والضمان الاجتماعي للمواطنين كافة. وهذا كله من أسس النظام الاشتراكي وهذه الخدمات الحكومية هي ما تدعو له وتطالب به بل وتتمنى تحقيقه و”تحلم به” كل الأحزاب الاشتراكية في العالم.
النظام الاشتراكي كما في تطبيقاته في يوغسلافية-تيتو سابقاً والصين الحالية يقوم على أساس بقاء سيطرة الدولة على وسائل الانتاج والموارد الطبيعية، ولكنها في نفس الوقت تطلق العنان للجميع (من رؤوس الاموال الوطنية والاجنبية) المشاركة في التنمية الاقتصادية في مراحل الإنتاج والتسويق، ولكن تكون تحت رقابة وتقنين الدولة، وضمن خطط حكومية نافذة على المدى الطويل والقصير. ففي النموذج الاسكندنافي، كما هي في يوغسلافيا والصين، هنالك دور كبير للدولة في تمويل معونات الضمان الاجتماعي للمواطنين وتقديم الخدمات الأساسية لتحقيق عيشه الكريم وكذلك مساعدته في تطوير قدراته وخبراته حتى يتم استثمار طاقاته البشرية بأفضل وسيلة في العملية الاقتصادية الإنتاجية، ويتم تمويل هذه البرامج من خلال الضرائب للمساهمة في توزيع الثروات على كل المواطنين.
والعراق بوضعه الحالي لهو بأمس الحاجة لمثل هذه البرامج الإشتراكية في تنمية القدرات والخبرات البشرية للطبقة العاملة وتوفير الضمان الاجتماعي للطبقات الفقيرة وتطوير قدراتهم الذاتية التعليمية والصحية لرفع مستواهم المعاشي. وهي برامج تم انتدابها من قبل كل الدول الصناعية المتقدمة في الشرق والغرب.
والإقتصاد العراقي في الوقت الحاضر إنما هو خليط بين الإشتراكية والرأسمالية، فالدولة تسيطر على نسبة كبيرة من الإنتاج الوطني إذا أخذنا بالحسبان سيطرتها على الموارد النفطية. ولكن الإتجاه العام لدى أغلب القيادات السياسية في العراق هو التخلص من القطاع العام وتشجيع الاستثمارات الأجنبية ليس في قطاع التصنيع فحسب وإنما حتى في المشاركة في السيطرة على موارد النفط والغاز (كما هي تجربة اقليم كردستان)، بالإضافة إلى نفض يد الدولة في تقديم المعونات لذوي الدخل المحدود (وخاصة البطاقة التمونية التي هي المعيل الرئيسي لأغلب العوائل الفقيرة) ناهيك عن تلكوء تقديم الحكومة الخدمات العامة للمواطنين. فالدولة العراقية هي اشتراكية من ناحية سيطرتها على الثروات الاقتصادية، ولكن النظام السياسي يطمح أن يكون رأسمالياً بحتاً، ليتخلى عن مسؤولياته في تقديم ما يترتب عليها من الخدمات التي تقدمها الدول الإشتراكية بكل نماذجها السوفيتية أو الإسكندنافية أو الخليجية للمواطنين.
أن التنويه على أن تقليل النفقات الحكومية والدعوة الى خصخصة القطاع العام أو تقليل عدد الموظفين أو المستفيدين من المعونات المالية من الطبقات الفقيرة وأسر الشهداء (والتي عادة ما تكون ضمن مطالب المنظمات الدولية) هو الذي يدفع بالتنمية الاقتصادية للعراق، وهذه الفرضية غير واقعية وليس لها إثبات في الواقع الاقتصادي العالمي. والدفع بهذا الاتجاه هو في غير محله في هذه المرحلة الحرجة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. وخلافاً لما يشاع، إن نسبة أجمالي النفقات الحكومية في العراق هو مقارباً للدول العالمية، وأقل بكثير من الدول الاشتراكية الاوربية. فنسبة مجمل الانفاق الحكومي في العراق من الناتج الاجمالي الوطني للأعوام 2016 و 2017 والمتوقع لـ 2018 هو 52% و 44% وحوالي 45% على التوالي). بينما نسبة الانفاق الحكومي للدولة الأولى لاقتصاد السوق في العالم، الولايات المتحدة هي 40%، والدولتين الاشتراكية السويد والدنيمارك هي 53% و 57% على التوالي. فالعراق بنفقاته الحكومية العامة (مجمل موازنة الدولة السنوية) هو ضمن المعدل العام العالمي وأقل بكثير من الدول الأكثر تقدماً والأعرق في مسيرتها باقتصاد السوق. وهذه الحقيقة إنما هي مؤشر بأن ما يأن منه العراق هو ليس الانفاق الحكومي المرتفع، وإنما هو “سوء إدارة” جهاز الدولة للثروات والموارد والخدمات. ومتى ما باشر العراق في تحسين الأداء الحكومي يستطيع أن ينهض بصورة سريعة وحثيثة في مجال التقدم الاقتصادي والتنمية الحضارية.