يلاحظ ان جل الكتابات التي تنشر اليوم سواءٌ في الصحافة، الورقية منها والإلكترونية، أو في مواقع التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية، أو في مختلف القنوات الثقافية، المرئية منها والمسموعة، هي كتابات باتت محض جادة، وصارمة. ولعل ظاهرة هيمنة الكتابات الجادة في فضاءات الإبداع والنشر، إنما جاءت نتيجة لتداعيات الحال، والإحباط الذي يعيشه الناس اليوم، في ضوء حالة النكوص الشاملة التي تعيشها الأمة في مختلف المجالات، وما ترتب على هذا الحال المتردي من بلايا ومصائب، وأضرار مادية ومعنوية، طالت المشاعر الجمعية في الصميم، ونالت منها ما نالت.
وربما كان ذلك احد ابرز أسباب تنحية الفكاهة والأدب الساخر عن ساحة الكتابة والنشر، وبالتالي حرمان المتلقي من لذة تذوق هذا النوع من الأدب، الذي تستولده سخرية الكاتب وتندره بالظاهرة السلبية، عندما تستفز احساسه المرهف، فيتناولها بطريقة النكتة الظريفة، او الهزل المزدري،والذي بدوره يثير من خلالها ازدراء المتلقي لها، ويلفت انتباهه إليها ، بقصد تعرية تلك الظاهرة السلبية، واثارة الحس الجمعي لرفضها ، والمطالبة بالمعالجة على قاعدة(إياك أعني واسمعي يا جارة).
ومن هنا فلم تكن الكتابة الساخرة الواعية في يوم من الأيام، هي مجرد وسيلة تسلية تستهدف تهيئة جو ملائم للمتلقي، لغرض الضحك من أجل الضحك والترفيه، فحسب،إذ لا شك ان ممارسة مثل هذا المسلك السطحي في الكتابة، إنما هو اسلوب تهريج ساذج،وابتذال مسف ، في حين ان الكتابات الساخرة الواعية، تحمل رسالة جادة للمتلقي، تعكس معاناة وهموم الناس بطريقة ترسم البسمة على الوجه، وتثير الضحك، وتغور في اعماقه المتلقي في نفس الوقت، بقصد إثارة انتباهه اليها، وحفزه على ازدرائها، بقصد رفضها، والتعامل معها بما يستوجب من اهتمام .
على أن الميل إلى النكتة قد لا يحصل فقط بدافع الكبت، والإحساس بالقهر بالضرورة ، فقد تكون روح الفكاهة والسخرية سلوكا عفوياً اعتياديا، تستولده إرهاصات حياة الناس،وحاجتهم للترفيه، وإثارة المخيلة للخروج من الإحباط والنزق وتلطيف الأجواء.
ومع ان الكاتب الساخر لا بد ان يكون موهوبا، ومقتدرا لغويا، وعلى قدر من المعرفة، لكي يتمكن من تحويل المعاناة والألم عنده، وعند الآخر ، إلى بسمة، واللوعة إلى حلم، والحزن إلى حبور،في مسعاه الهادف لتعرية الظواهر السلبية، والفاسدة، في المجتمع. الا ان النكتة والسخرية قد تنساب أحياناً من أفواه آخرين قريبون من حافات البلاهة، لتسري بين الناس بسرعة هائلة، يصح معها القول.. خذ الحكمة من افواه المجانين.
ومن هنا فانه إذا لم يكن للكاتب الساخر رسالة يريد لها أن تصل إلى القراء والمتلقين، فإن كتابته الساخرة ستكون خالية من الغرض، وتكون عندئذ اشبه باللهو المجرد، والتهريج الفارغ . فالكتابة الساخرة الواعية، والتي تحمل في طياتها المعنى لما وراء الأحداث، هي الكتابة الساخرة الهادفة، التي تستحق أن يتوقف القارئ عندها، ويتفاعل معها بحس مرهف، ينحو صوب تعريتها، ورفضها، والتطلع لمعالجتها ، حيث يسحره اسلوب سردها بما هو مضحك ، وتؤلمه في ذات الوقت الارهاصات الغائرة وراء حكايتها.
لقد كنا في حياتنا اليومية ايام زمان، نجد الكثير من الساخرين الموهوبين في المجتمع، الذين يحاكون بعباراتهم الساخرة وبعفوية، قضايا الناس الاجتماعية بكلمات بليغة، لا يزال الكثير منها عالقاً في الأذهان، ويتداولها الناس للتندر حتى يومنا هذا. حيث كان أولئك الساخرون، بموهبتهم الفطرية، وحسهم العفوي المرهف، ولباقتهم الفائقة، يعرون سلبيات الواقع المعاش لبيئتهم بطريقة ساخرة، تجعلنا نضحك بطريقة عجيبة، في نفس الوقت الذي نتألم فيه على الحال. لذلك كانت ثقافة النكتة الهادفة تؤدي دورا إيجابياً في تطوير الوعي الجمعي طالما كانت مترفعة عن الاسفاف.
لقد ارهقتنا الكتابات الجادة بجفافها، ومباشرتها ، فبتنا اليوم نحتاج إلى الى كتابات ساخرة موازية ، بصياغات سلسلة، وبأساليب مرحة، ترغمنا على الضحك، وتجبرنا على الابتسامة، وتنبهنا في نفس الوقت، إلى الإشكالية التى تقبع خلف تلك السخرية، بقصد الإنتباه لمعالجتها وتجاوزها،وذلك من خلال تنشيط ثقافة النكتة الهادفة، واحياء كتابات الأدب الساخر.