27 ديسمبر، 2024 7:18 م

النقد الثقافي …. اصول ومقولات

النقد الثقافي …. اصول ومقولات

من خلال استقراء المتون المعاصرة التي تحدثت عن النقد الثقافي يمكن ان يستنتج المرء ان القائمين على هذه التوجه يسعون ان يكون مشروعهم بديلا عن النقد الادبي , اذ ان النقد الثقافي يحاول ان يحل البحث عن الأنساق المضمرة في النصوص المكتوبة محل البحث عن الأنساق البلاغية والجمالية التي طالما احتفى بها النقد لقديم الذي وقع اسير البلاغة وتزويقاتها التي لا تسبر غور النصوص ولا تكشف عن مرجعياتها الخفية الى درجة ان هذه الجماليات البلاغية تحولت في الثقافية العربية الى منظومة من شأنها صناعة الشعراء الفحول وبالتالي صناعة المستبدين من خلال مديح
 الشعراء الزائف للحكام من جهة وتكريم الحكام المبالغ فيه للشعراء من جهة اخرى , ويبدو ان ميل الذائقة العربية الى المجاز والخيال ونفورهم من الفلسفة كان سببا في استمرار النقد البلاغي كل هذه القرون ولذلك ظل النقد الدبي قابعا في برجه العاجي لا يأبه بما هو ديني او سياسي او اجتماعي       وبذلك كان بعيدا عن سطوة السياسة بوصفه لا يشكل أي خطر عليها , لكنه مع كل ما تقدم لا يمكن القول ان النقد الادبي كان خلوا من الايجابيات , فقد كان هذا النقد ينمو من الداخل بسبب الحرية التي اتيحت له .
ولكي يفيد النقد الثقافي من النقد الادبي ويتجاوزه ايضا فلا بد لتحقيق غرضه هذا ان يستثمر عدة آليات منهجية من اهمها : ان السعي للوقوف على العلامة الثقافية لا يكون مالم تعامل كل النصوص الادبية او غير الادبية على السواء على انها دوال على انساق مضمرة , ولذلك فليس غريبا ان تقرأ الحادثة الثقافية أيا كان جنسها كما يقرأ أي نص ادبي فكل النصوص ــ كما مرـ قابلة لأن تبيح نفسها لكشف مكوناتها النسقية, لكن لا يمكن القيام بذلك مالم يضاف عنصر آخر لعناصر الرسالة الستة وهو العنصر النسقي الذي يوازي عنصر الرسالة عندما تركز على نفسها ومن خلاله يتم الكشف
 عن البعد النسقي في الخطاب وفي الرسالة اللغوية واهمية هذا العنصر تكمن في توليده للدلالة النسقية التي تعتبر من جوهريات النقد لثقافي لأن الدلالات اللغوية الصريحة منها او الضمنية لم تعد قادرة على كشف كل ما تخبئه اللغة , ويضاف نوع آخر جديد من الجمل للنوعين التقليديين : الجملة النحوية ذات المعنى التداولي والجملة الأدبية ذات المعنى البلاغي هي الجملة الثقافية التي تكشف عن النسق وتعبر عنه , فضلا هاتين الاضافتين سعى النقد الثقافي الى توسيع مفهوم المجاز البلاغي إلى المجاز الكلي وتوسيع فكرة التورية البلاغية الى التورية الثقافية, والجملة
 الثقافية لا تتقيد بالتعريف التقليدي للجملة العربية فقد تكون مجموعة من الابيات او مشهد سردي , ومثلما ان الجملة التقليدية قد يؤطرها المجاز لتعبر عن صورة مجازية محدودة فإن الجملة الثقافية هي الاخرى قد يتلبسها المجاز لكنه المجاز الكلي بحسب النقد الثقافي الذي تعتبر من خلاله الجملة الثقافية تورية خفية في النسق الثقافي الذي انتجها . والعلامة الثقافية التي يبحث عنها النقد الثقافي في النصوص ليس حكرا على المتن المعلن او الرسمي كما كان سائدا , ولذلك تم الالتفات الى ما هو شعبي او ممنوع او مسكوت عنه بوصفه ربما يكون ادل على العلامة الثقافية
 من المتن المعلن نفسه وبذلك يمكن ان نعد اهم ميزات النقد الثقافي بسعيه للتساؤل الحثيث عن الأنساق المضمرة بعد ان كان سؤال النقد التقليدي عن دوال النص الظاهرة ,وبذلك تحول الاهتمام من النخبة الادبية الى الاستهلاك الجماهيري وبذلك اعيد الاهتمام الى جماهيرية الادب بعد ان استحوذت عليه النخبة قرون طوال, ومن جهة اخرى اصبح النقد ليس عملية بحث عن الجماليات انما هو كشف لعبة الثقافة في تمرير أنساقها وهذا بحد ذاته نقله نوعية في العمل النقدي.
ولتوضيح المضمر النسقي سوف نستعير من الناقد السعودي عبد الله الغذامي امثلته التي حاول من خلالها ان يكشف عن عيوب الأنساق المضمرة فإن نصوص شعراء مثل أبي تمام والمتنبي و نزار قباني وأدونيس تنطوي على أنساق مضمرة تظهر طبقية  نحوية  رجعية  استبدادية غير واعية بالنسبة لهم ولنا مما يجعلنا جميعا ضحايا لهذه الأنساق, وهذه الطبقية الثقافية اللا واعية تتمثل في انسياق الجميع في لعبة المادح والممدوح التي تدل ايضا على رغبة غريزية في حب المديح والفخر والاطراء وبالتالي فإن هؤلاء ونحن معهم تحت تأثير نفاق اجتماعي ليس من السهولة الالتفات له مما
 ترتب عليه بروز ظاهرة الشعرنة التي ادت في النهاية الى صناعة الفحل الشعري والطاغية الاجتماعي والسياسي وبذلك تحولت البلاغة والمجاز والاستعارة الى توريات تستعمل وكأنها حقائق فأخذ الشاعر يصدق بما يقول والممدوح يطرب لما يسمع حتى تحولت سلوكياتنا الى مجازات بعيدة عن الواقع والمنطق, ويتحمل الشعر مسؤولية كبيرة عن هذا الفعل اذ ان الشعر بوصفه الوسيلة الاعلامية الاكثر تأثيرا في نفوس العرب اصبح صانع انساق وصانع طغاة معا .
ويعتبر الغذامي ان كل خطاب يحمل نسقين : مضمر ومعلن , والنسق المضمر اكثر ثراءا من النسق الواعي لأنه يشمل كل انواع الخطابات : الادبية منها وغير الادبية , لكن خطورته في لخطابات الادبية اكثر .
ويسن النقاد العاملون في النقد الثقافي مصطلح ( المؤلف المزدوج) ويقصدون به الثقافة التي تشكل المعين والرافد والاصل لكل منتج ثقافي او ادبي , اما المؤلف الاصلي فأن دوره لا يتعدى النسخ والنقل والجمع من بين الاف النصوص والافكار والثقافات     .
    يمكن ان يعد النقد الثقافي من ضمن فروع ما يسمى الدراسات الثقافية القديمة قدم الفلسفة اليونانية وبالخصوص افكار افلاطون وارسطو الموسوعية فضلا على جهود فلاسفة التنوير الذين نظروا الى الثقافة على انها جامع بين العلم والتاريخ والفلسفة والفنون وصولا الى كانط الذي اكد على ان الثقافة ((هي الإنتاج في وجود منطقي للاستعداد الطبيعي من أجل أية غايةٍ يختارها الإنسان، نتيجةٌ لاستعداد وجودٍ كامنٍ في حريته)) .
    وتعد كتابات ماثيو أرنولد في القرن السابع عشر رافدا مهما من روافد الدراسات الثقافية فضلا على جهود العالم رسكن , اذ نظر ارنولد في كتابه (الثقافة والفوضى) للثقافة على انها مخلص المجتمع و قوة روحية لا تقل اهمية عن الدين بل قد تتفوق عليه لأنها تشمل ((جميع التجارب البشرية…في الفن، والعلم، والشعر، والفلسفة، والتاريخ، إلى جانب الدين)).
اما ماركس فقد رأى في كتابه الأيديولوجيا الالمانية ان الثقافة او النقد الثقافي يجب ان تمارس دورها ابتداءا من البنية التحتية حتى لأنها المتحكمة في البنية الفوقية وبذلك اثرى النقد الثقافي بمفاهيم اخذت بالتطور والنماء على يد غرامشي وهوركهايمر وادورنو والمنظرين بعدهم …
لكن هذا النوع من الدراسات اكتسب هويته المميزة  وازدهر على يد عدد من العلماء اهمهم ستيوارت هول وريتشارد جونسون ريتشارد هوغارت ورايموند وليامز الذي يرى في كتابه ( الكلمات المفتاحية ) بأن الثقافة ((حجة معقدة حول العلائق التي تربط بين التنمية البشرية عموما وأسلوب حياةٍ معين، وبينهما وبين أعمال وممارسات الفن والفكر)) وبذلك اثار عدد من التساؤلات حول ماهية الثقافة وحدودها , حيث اصبح من الممكن ان يرى البعض ان الممارسات الادبية تعد من صلب الثقافة .
وبالعودة الى عبد الله الغذامي بوصفه رائد النقد الثقافي في الوطن العربي فإن توظيف مقولة النسق الثقافي التي تعد ركيزة مهمة في نقده الثقافي  بالشكل الذي وظفها يحتمل اخذ ورد اذ ان الوظيفة النسقية تحدث حينما يكون هناك تعارض بين النسقين (الظاهر والمضمر) ويشترط ان يكون ذلك في نص واحد سواء كان جماليا او جماهيريا ، ثم ان هذه الوظيفة لا يمكن ان تكون من صنع الفرد (الشاعر كما يرى الغذامي) فهي منبثة في الخطاب بفعل النموذج الثقافي الشامل .
    اما ما يخص الجانب التطبيقي في نقد الغذامي ، فالقارئ قد يلاحظ بسهولة انه في اغلب الأحوال ينطلق من مسلمات ثم يبنى عليها أفكاره , فمن سلبيات عمل الغذامي التسرع في الأحكام فقد بنى أكثر كتابه على أحكام مسبقة لا سيما أحكامه في الفحولة والشعرنة فالشاعر بمجرد ما يعلى من ذاته فانه يمثل عند الغذامي فحل ينطلق من نسق ثقافي يمثل الذاكرة الجمعية , وعلى الرغم من هذا فإن الغذامي لم يوضح في كتابه من هو السابق ، الفحل الشعري ام الطاغية ، فهل الفحل الشعري هو الذي صنع الطاغية ام العكس هو الصحيح ؟ وبماذا يختلف صنع الطاغية السياسي عن صنع الطاغية
 الثقافي ؟ وبماذا يختلف صنع الناقد الثقافي عن صنع الفحل الشعري ؟ واذا كان مفهوم الثقافة بالغرب مفهوما واضحا لا لبس فيه ، فهل يصدق ذلك على العرب ؟ فما زال تعريف الثقافة في الأدبيات العربية مفهوما يشوبه الغموض وعدم الشفافية فكيف يبنى على مفهوم غير واضح منهجا نقديا ونسميه بالنقد الثقافي؟ ثم ان الغذامي حينما أعلن موت النقد الأدبي فإنه لم يكن مبتكرا في دعوته هذه انما هي تقليدا لمقولة موت المؤلف عند بارت , وموت الأدب عند تيري ايغلتون , وموت الفن عند كرنون . ثم ان النقد الأدبي لا يمكن ان يموت ، ولا يمكن للنقد الثقافي ان يولد على انقاضه
 ويتفهم جماليات اللغة مثلما يتفهمها النقد الادبي ، فضلا على ان مقولة النسق عند الغذامي غير واضحة فهو بتأكيده على ثقافة المديح والهجاء وثقافة الجماليات البلاغية وزخارفها قد ادخ النسق إلى دائرة مغلفة عزلته عن التاريخ . ونجد ان الغذامي ناقض نفسه حينما أشاد بجماليات الشعر العربي ، ثم عاد ليحاكم هذا الشعر بتغييب تام لعناصره الرمزية والإيحائية  ، فهو يحاكم الشعر منطقيا مستعملا الاستدلال بالظاهر على المضمر ، وفضلا على ذلك لم يأخذ الغذامي بالحسبان طابع التهميش الذي عاناه الشعراء القدماء والمحدثين , اما الحالات القليلة التي وجد فيها
 الشعراء متنعمون فهي لا تصلح ان تكون أساسا للحكم على مركزية الشاعر العربي كما يرى في كتابه ، وفضلا على ذلك فقد شابت تحليلات الغذامي نظرة إصلاحية ترمي إلى توجيه أفكار أخلاقية تعليمية ، وهذا مخالف لمقولات النقد الثقافي الذي يقوم على الاستنطاق والتحليل وتفكيك الأسس الداخلية .  
اهم المصادر:
 1ــ مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر بيروت ، 2000.
2 ــ د. عبد الله محمد الغذامي، النقد الثقافي , قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، بالدار البيضاء وبيروت.
3 ــ نقد ثقافي ام نقد ادبي , د . عبد الله محمد الغذامي , ود . عبد النبي اصطيف , دار الفكر , دمشق , ط1, 2004 .
4 ــ الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة , د. عبد الله ابراهيم , الدار العربية للعلوم ناشرون , بيروت , ط1 , 2010 .
5ـــ اشكاليات الخطاب النقدي العربي المعاصر , د علي حسين يوسف , اطروحة دكتوراه , جامعة كربلاء , كلية التربية .