23 ديسمبر، 2024 2:39 ص

قراءة في الأنساق الثقافية المضمرة في رواية احمد سعداوي(فرانكشتاين في بغداد)
(لا اعرف شيئا عن سر الاله ولكني اعرف أشياءا عن بؤس الانسان)
…بوذا
تشكل رواية احمد سعداوي (فرانكشتاين في بغداد )مناخا وواقعا عراقيا بأمتياز فالرواية تتخذ من منطقة البتاويين، وهي إحدى مناطق بغداد مكانا للحدث لما يحمله هذا المكان من شحنات نفسيه واجتماعية وثقافية ساهمت في تشكيل اللاوعي الجمعي للعراقيين بمختلف انتماءاتهم الثقافية والعرقية وبالتالي تعتبر بيئة حاملة لأنساق ثقافية وتاريخية مضمرة تظهر من خلال طبيعة المكان وللغة كثقافة وتاريخ أسطوري جماهيري لا يظهر إلا لمن يجيد تفكيك واستنطاق إلامكنه ثقافيا وفنيا فالمكان وفق الاشتغال الثقافي والأدبي هو بنية حاملة للأنساق الثقافية والفنية الظاهرة والمضمرة تتداخل فيه الصراعات والثقافات الاقتصادية والاجتماعية وهي كما يصفها الكاتب مكان ملتبس وغامض يحمل الكثير من الدلالات الحاضرة في طرق التعبير الوجداني والذاتي للعراقيين والمرتبطة بالأساطير والحكايات والملاحم ، ذلك لان طبيعة الإنسان العراقي طبيعة زمكانية الحضور والتمثل لا يستطيع الانعتاق من سطوتها كليا وهو في اشد حالات الوعي وهذا يحسب للسعداوي في اختياره المكان (الحدث )وقدرته على توظيف ذلك الحدث ليمتد على طول جسد الرواية . وبقراءة النص يتكشف لنا ذلك في اختيار المؤلف لشخصيات ذات كثافة نفسيه واجتماعية تقف بالضد من الواقع الخارجي للإحداث عبر تبنيها للمضمر من هذه الأنساق الثقافية التي تعكس مجموعة من السياقات الاجتماعية والأخلاقية بل وحتى الدينية والسياسية المتبعة والتي تضمر ما هو مضاد للمعلن في النص ويتضح ذلك في اختيار هادي العتاك كبطل للرواية يعكس موقف المؤلف من ذلك المضمر الثقافي المهمش من قبل السلطة والمجتمع في إشارة منه ان بلد مثل العراق تتحكم بمصائر شعبه صراعات دينية وعرقية يقودها او يحركها المهمشون و الذي سعى المؤلف عبر شخوصه في أعادة إنتاجه ضمن رؤى أسطوريه وحكائية غريبة فهادي العتاك هو شخص مجهول النسب والهوية يعتاش على بيع الأثاث القديم وسرد الحكايات الخرافية والذي يشعر من خلالها بأهميته لدى مستمعيه وفي ذلك دلالة واضحة على التلاحم مابين المخيال الشعبي والأسطوري مع الاشعورالجمعي لتكتمل ألصوره النمطية لميثلوجيا المخلص او المنتقم في الأدب الشعبي الذي جمعه هادي من بقايا ضحايا الانفجارات اليومية ولتكتمل أخر أجزائه كما يصفها الراوي (لم يكن ينقص الجثة كي تغدو كاملة سوى الأنف وهاهو ينتهي من هذا العمل البشع) لتختفي الجثة فيما بعد في ظروف غامضة وملتبسة مثل المكان الذي جمعت فيه لتستمر عملية القتل والانتقام في إشارة واضحة لما يحدث اليوم في العراق من قتل مجاني لا يستثنى منه احد إلا افرنكشتاين او كما يسميه هادي (بالشسمه ) إن هذا الحنين للأسطورة يعود بنا الى زمن ليس ببعيد فأبو طبر وما نسجت حوله من قصص وحكايات غريبة وعجيبة يحمل نفس شخصية الشسمة لكن مع فارق بسيط ان الشسمه يحمل صفة المنتقم او المخلص الدينية والاسطورية والذي يسعى لتحقيق العدالة الإنسانية بقتلة المجرمين وفق قوانين روحية إما ابو طبر فكان هدفه مادي بحت ، وهذا ما يؤخذ على السعداوي محاولته للتعبير عن دوافعه الداخلية أكثر من تسليطه الضوء على المسرح المظلم للذات البشرية لذلك كانت شخصية هادي العتاك شخصية مسطحة من حيث المضمون النفسي والاجتماعي لا يجيد سوى سرد الحكايات وجمع العلب الفارغة حتى إن لقائه بالصحفية الألمانية انتهى باتهام هادي بأنه يروي احد الأفلام المشهورة .إن أعادة اختيار السعداوي لقصة افرنكشتاين القديمة يظهر مدى إصرار السعداوي على فرض نسق تاريخي أسطوري له حضوره القوي على الذاكرة العراقية وكذلك في اعتماده على خطاب منحاز سلفا للماضي كملاذ ثقافي ذو تأثير واضح على ذاكرة المتلقي و يساهم في إنتاج وسط ثقافي غير قادر على أعادة البناء النفسي والاجتماعي في الواقع المعاش بسبب غياب الرؤية المستقبلية والروح التضامنية الفاعلة لذلك فرض السعداوي على شخوص روايته نمطا ثقافيا ذو بنية أسطوريه محددة أفقدتهم القدرة على صناعة واقع حقيقي يستطيع إيجاد حلول عملية ومعرفية لتحقيق العدالة المنشودة في ظل الموت المجاني السائدة اليوم ، فالسعداوي عبر نصه يحاول إيصال رسالة أو خطاب بعدمية وعي الإنسان العراقي بمستقبلة بقدر وعيه بماضيه وحكاياته تأكيدا لقول الغذامي ((ان العرب ماضويون أكثر منهم تاريخيون)) . ان الرواية من حيث بنيتها ومواصفاتها ترتبط بالواقعية السحرية من خلال عنوانها وإحداثها وإبطالها ففرانكشتاين هو أسطورة عالمية ذات تصورات وإبعاد بداويه اي بدائية +بدويه حيث البطل يتخذ من أجساد الضحايا مصدر بقائه مما يولد لدية الرغبة بالقتل للبقاء حتى يتحول من المنتقم العادل الى المنتقم القاتل وهي ثيمة أساسية في الرواية التي اعتمدها السعداوي والتي تكتسب دلالتها الثقافية والاجتماعية باعتبارها عهدا بين الإنسان وماضية وهادي العتاك هو نموذج للبطل الأسطوري الذي لا يموت والذي تحول الى بطل بعد ان كان نكرة او مسحوق حيث يمثل اختفاء هادي وحضوره تحقيق لنبوءة المسحوقين او المهمشين .وكي لا نبخل على السعداوي نجاحاته نعترف أنها تعد من أهم الروايات العراقية من حيث بنية الشكل والبناء الداخلي ولكن لان النقد الثقافي في مضمونه هو بحث في أنساق مضمره للخطاب ويتعامل مع النص الأدبي بوصفه حادثة ثقافية كغيرها من الحوادث فليست رواية فرانكشتاين في بغداد هي الوحيدة التي تعيد إنتاج هذه الأنساق الثقافية و أسطرت الواقع او الانحياز للماضي بل الكثير من الروايات العراقية تشترك في ذلك والسبب هو الفشل المتكرر للمنظومة الثقافية والاجتماعية في صنع واقع إنساني حقيقي يرتكز على القدرة الفعلية والإجرائية لصناعة المستقبل إلا من خلال إبطال أسطوريين يحظون بقيمة رمزية ومعنوية خالية من أي مضمون أو قيمه إجرائية فعلية لمجابهة الخراب من جراء التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في العراق.