في احدى المرات واثناء التجوال بين صفحات التاريخ قفزت امامي حكمة قديمة تتحدث عن العطاء ومنحه للأشخاص غير المناسبين نصها مخطوط بعبارات تقول “نكران الجميل من شيم اللئيم”، بكلمات تختصر العديد من القصص التي نعيشها يومياً والتي تنتهي بالندم على مواقف سابقة او زرع في غير مكانه، لتكون النتيجة خذلاناً وشعوراً يدفعك لمراجعة سجل تعاملاتك مع الاخرين بمحاولة “بائسة” لكشف الاسباب التي جعلتهم يقابلون الاحسان بالاساءة، كما حصل في الهتافات الاخيرة ضدنا كعراقيين في مباراة منتخبنا مع شقيقه الفلسطيني في العاصمة الاردنية عمان.
الذاكرة العراقية تحتفظ بالعديد من المواقف التي لا يمكن وصفها بغير “المهينة” من قبل اشقائنا في أرض المملكة الاردنية الهاشمية تاريخها يمتد لعشرات السنين، وقصصها مرت على مختلف الأنظمة السياسية سواء كانت قريبة او بعيدة من خط الاسرة المالكة، وحتى لا نبتعد كثيراً، نعود لعهد نظام صدام حسين “المتخم” بحوادث العراقيين الذي كانوا “يفرون” للجارة الشقيقة هرباً من الخدمة العسكرية او بحثاً عن العمل وخاصة بأيام الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن الماضي، حيث كان يخبرنا العائدون منها بحكايات تعكس “استغلال” اصحاب العمل، للفارين من “جحيم” نظام صدام لتشغيلهم باعمال شاقة ولساعات طويلة وبنهاية اليوم تكون اجرتهم “يعطيك العافية” وفي حال مطالبتهم بالدنانير يكون الرد بعبارات مسيئة مع تهديد بشكوى لدى الامن تنتهي بالترحيل، وحتى يتجنب الضيف المغلوب على امره طرده خارج الحدود يكتفي بعبارة “يعطيك العافية” خوفاً من العودة لسكنه بدونها.
بالمقابل كان النظام السابق “يغض الطرف” ويمنح بعض الامتيازات للجارة، وجعل العراق في حينها سوقاً لنقل بضائعها غير المشمولة بالحصار الاقتصادي، وسلمها مساحات واسعة من الأراضي تقدر بنحو 72 كم بعد اقتطاعها من مدننا الغربية والحاقها ببلدة الرويشد الحدودية مع طريبيل، باعتبارها مكافأة لمساندة الأردن لنظام صدام في حربه ضد إيران، ليتم توثيقها في العام 1984 باتفاقية عنوانها ترسيم الحدود وقعتها عن الجانب الأردني حكومة احمد عبيدات، ولم يكتفي صدام بتلك “الهبة” ليمنحها كميات من النفط مجاناً استمرت حتى فرض الحصار والعقوبات الاقتصادية، لترد الأردن الجميل بعدها باستقبال حسين كامل (زوج ابنة صدام حسين) الذي انقلب عليه وحاول التنسيق مع الأمريكان للإطاحة بنظام “عمه”، ليذهب كل ماقدمه صدام “هباء منثورا”.
وبعد العام 2003، تطوعت السلطة في الأردن حالها كبقية الجيران، الناقمين على التغيير في العراق، وفتحت الأبواب لاستقبال البعثيين وعائلة صدام بالدرجة الأساس وسهلت تشكيل خلايا بعثية جديدة من خلال تكثيف المؤتمرات التي كان يرعاها جناح حزب البعث في العاصمة عمان، ولم تنته القصة عند البعض، فذهبت لدعم الحركات المتطرفة واحتضانها ومنها الجهات المرتبطة بتنظيم القاعدة او الداعمة لها وأبرزهم حارث الضاري وعائلته وما يسمى بهيئة علماء المسلمين، ولا ننسى احتفالات عوائل الإرهابيين الذين كانوا يفجرون انفسهم في محافظاتنا خلال سنوات العنف الطائفي، وكيف كانت تقام الأفراح وموائد توزيع الحلويات، لان انتحارياً أردنياً فجر سيارته المفخخة بسوق شعبية بمدينة عراقية، تحت عنوان “جهاد الكفار” لتمنحنا بعدها الجارة المسلمة العربية، اعظم هدية مغلفة بالموت مسجلة باسم ابو مصعب الزرقاوي.
جميع تلك المواقف تجاوزتها حكوماتنا بعد العام 2003، واختارت صفحة السلم والتعاون وتقديم الاستثناءات لعبور السلع الأردنية لاسواقنا حتى لو كانت منتهية الصلاحية لتعود مرة أخرى لمكافئتها على الطريقة الصدامية بتزويدها بالنفط المدعوم لعيون “جلالة الملك”، بكميات تصل لنحو 10 الاف برميل يوميا وبسعر اقل من الاسواق العالمية بنسبة 16 دولاراً، ليتطوع بعدها رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني لزيادة لكميات التي اصبحت 15 الف برميل يومياً، لتكون نتيجة الدعم المقدم للأردن اكثر من مليوني دولار شهرياً، استملنا الردود عليها بهتافات طائفية خلال مساندتنا لغزة ضد العدوان الاسرائيلي، وانتهت على مدرجات ملعب عمان بعبارات “ياعراقي ياگواد يلة ارجع على بغداد”، والتي ستبقى عالقة في الأذهان على الرغم من محاولات الدبلوماسية الأردنية نفيها وجعلها في خانة “المفبركة”، لاقناعنا بنواياها الحسنة، لكنها كيف ستفسر رعايتها للهاربين باموالنا والمتورطين بدمائنا.
الخلاصة:.. ان اكثر ما يحزن في تجاوز “حفنة” من الأردنيين على شعبنا صاحب القصص المطولة بالدفاع عن العروبة، وقوف بعض الإعلاميين والمدونين وحتى السياسيين المحسوبين على العراق بالهوية، مع تلك التجاوزات ومحاولة تبريرها بخلق “ذرائع” تدفعك للضحك، واحدة منها تحميل الجمهور العراقي المسؤولية لانه “طائفي” كما يدعون،… اخيراً… السؤال الذي لابد منه… لماذا صمتت حكومة السوداني؟.. وهل ستستمر باتفاقية منح النفط مقابل الگواويد.؟.