23 ديسمبر، 2024 11:57 ص

النفط مقابل الحياة

النفط مقابل الحياة

صرح الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب حول مسألة النفط في العراق بقوله : “إن واشنطن كان عليها أن تأخذ احتياطيات الخام العراقية” وقد أثار هذا التصريح موجة من السخط والرد الشعبي والاعلامي والسياسي، وقد استدعى ذلك رد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على ترامب بقوله : ” ان نفط العراق ملك للعراقيين”، وكثيراً ما يردد ويثير ويؤكد ترامب في تصريحاته على أهمية النفط العراقي، ويقول أن احتياطي نفط العراق يبلغ المرتبة الثانية في العالم، وأنه رغم ذلك لم يستفد منه، وهو لا يزال يقبع في الفقر والفساد والحرمان، وقد قام داعش والعصابات الارهابية بالسيطرة على الكثير من النفط العراقي وسرقته وبيعه والاستفادة منه، كما يذهب ترامب في تصريحاته المثيرة، كما أكد على أنه لابد من الحصول على هذا النفط من أجل تعويضات العراق لأمريكا في دفاع الثانية عن الأول طوال تلك السنوات، كما يذهب ترامب الى القول بأن العراق لو دفع النفط لأمريكا منذ السابق لما أصابه ما أصابه من الحروب والارهاب والدمار، وكان على الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على النفط العراقي منذ دخولها للعراق عام 2003 بدلاً من سيطرة ونهب الحركات الارهابية له.
لا شك أن هذا الكلام لا يُطاق ولا يتحمله أي انسان ومواطن عراقي وطني وغيور، ومثير للغاية وحساس جداً، لأنه فيه من التجاوز والاساءة على العراق وشعبه وثرواته الشيء الكثير والكبير، وفيه من الجرأة والوقاحة ما لم يقل به ويصرح بذلك أي رئيس أمريكي سابق قبل ترامب في سياسته تجاه العراق، ولكنني في الوقت نفسه أرى أن في سياسة ترامب وتصريحاته من الصراحة والمكاشفة دون تغطية وخداع وتزييف للحقيقة التي أتت أمريكا من أجلها لمحاربة العراق والسيطرة عليه ونهب ثرواته بالطرق غير الشرعية، وهذا الأمر ما فعله قادة أمريكا قبل العام 2003 في تطبيقها للعقوبات الاقتصادية على العراق من أجل السيطرة على النفط.
لا أحد من العراقيين والعالم أجمع، ينسى ما تعرض له العراق من ظروف قاسية ومأساوية ومدمرة في كافة المجالات الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والاهم من ذلك الكوارث الانسانية التي مُني بها الشعب العراقي بكافة فئاته ومكوناته وشرائحه، في بداية التسعينيات من القرن العشرين، حين أقدم الرئيس العراقي صدام حسين على أحتلال الجارة الكويت، بتاريخ 2 آب من العام 1990، وردة الفعل السريعة والعجيبة من قبل الجهات السياسية والدولية في العالم والعالمين العربي والاسلامي وعقد التحالفات حتى ضم (34) دولة لمواجهة العراق ومحاربته في حرب الخليج الثانية والتي سُميت بعملية (عاصفة الصحراء) بقيادة الولايات المتحدة
الأمريكية، وما تسبب عنه بعد ذلك من فرض لعقوبات اقتصادية وانسانية كبيرة وطويلة الأمد من قبل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي على العراق وشعبه، والذي كان الشعب العراقي الضحية الكبيرة لهذه العقوبات وليس الطبقة السياسية العراقية الحاكمة، فكانت ورقة ضغط كبيرة على حكومة بغداد، مارستها دول التحالف الغربي والعربي، لمعاقبة النظام السياسي واجباره للتخلي عن سياسته العدوانية تجاه الكويت والمنطقة، وقد عانى الشعب العراقي المأساة الانسانية الكبرى تحت ظل العقوبات التي فُرضت عليه من الخارج والداخل، وكان قرار (661) في 6/آب /1990 الذي فرض بموجبه العقوبات الاقتصادية والعسكرية وجزاءات شاملة على العراق وعرفت تلك المدة بـمرحلة (الحصار) على العراق، والتي كانت مدة زمنية مأساوية زادت في حجم الخراب والدمار والوفيات والأمراض والمجاعة التي عاشها الفرد والمجتمع العراقي طوال تلك الاعوام السوداء، ومن جراء تلك الأحداث وورقة الضغط الامريكي والدولي على حكومة صدام حسين، وجعل الشعب (كبش الفداء)، أتفقت الامم المتحدة مع حكومة العراق على قرار (986) عام 1995، والذي ينص على الاتفاق على (النفط مقابل الغذاء ) (Oil for Food Program). وهو برنامج يسمح للعراق بتصدير جزء محدد من نفطه، ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الإنسانية لشعبه، تحت إشراف الأمم المتحدة. والذي تم تحديد نسبة بيع ما تصل قيمته إلى ملياري دولار من النفط، في فترة مدتها 180 يوماً مقابل الحصول على تلك العائدات. وقد بدأ تنفيذ برنامج النفط مقابل الغذاء بنهاية عام 1996، وطيلة السنوات السابقة قبل هذا القرار تحمل الشعب العراقي الويلات والمحن والألم من الحصار الذي فُرض عليه وأعتمد فيها على طاقاته البسيطة وما توفر له من زراعة وصناعة وأقتصاد متهالك ومدمر تم تجفيف منابعه للقضاء على العراق تماماً. وقد تحقق لأمريكا والدول الغربية المتحالفة معها ما أرادت من العراق في شراء نفطه وتدميره وزيادة.
وتحاول اليوم دول العالم المتقدم وأمريكا ومن يملك قوة السلاح والمال وتسعى جاهدةً وبصورة جنونية للسيطرة على نفط الدول العربية والاسلامية ونهبه بشتى الطرق والوسائل، سواء كانت شرعية أو غير شرعية، و(حرب النفط) هي الحرب الكبرى التي يعاني منها العالم منذ أكتشاف النفط وأستخراجه، وتزداد شعوب الدول النفطية فقراً وبؤساً وحرماناً، بسبب السياسات الخارجية والداخلية السيئة في ادارة البلاد والشعوب وعدم الاستفادة من النفط في الاستثمار والتنمية والعمران ورقي الشعوب واسعادها.
انها حرب (النفط من أجل الحياة)، هذا ما أراه في العالم اليوم ويراه الجميع، وقَدر الدول النفطية أن تكون مُحتلة ومسُتعمرة ومُسيطر عليها من قبل الدول القوية عبر التاريخ، حتى يتم السيطرة الكاملة على النفط لأستخدامه كقوة أخرى في محاربة العالم اقتصادياً والسيطرة عليه، فمن يملك
النفط يملك العالم ويزداد قوةً وبقاءً وثراءً، وفقاً لسياسة وأستراتيجية الحكومات الغربية والولايات المتحدة الأمريكية التي تتنافس وتتصارع من أجل البقاء، أما الشعوب والدول العربية فهي تتصارع من أجل الفناء، بسياسات غبية لا تطاق، ونبقى نحن (شعوب النفط) نُقتل ونُدمر ونتعرض للحروب والخراب ما دمنا نمتلك آخر حقل أو آخر برميل من النفط ونُسحق من أجل ذلك وندفع الثمن دون رحمة أو انسانية، ومتى تُدرك وتعي حكوماتنا وشعوبنا أن أمريكا عازمة على تلك السياسة التوسعية والقمعية ولا تغادرها أبداً، مقابل (النفط من أجل الحياة)، ومن هو الأغلى والأعز والأثمن النفط أم الحياة، لا بالخضوع لسيطرة أمريكا وسياستها، بل بالتنسيق معها من أجل بيع النفط لها وتحقيق مصالحنا معها كما هي تطلب مصلحتها ونفعها بشكل جنوني، سواء قبلت الحكومات بتلك السياسة الأمريكية التنافسية التوسعية الجنونية أم لم تقبل، فما على الحكومات النفطية، والعراق على رأسها، الا أن تعقد الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول الغربية وأمريكا لتحقيق ثورة تنموية واعمارية واستثمارية في سبيل كسب حياتنا وواقعنا ومستقبلنا، بدلاً من ضياع النفط وسرقته من قبل المافيات السياسية والحركات الارهابية وتجار الحروب والدماء. وقد أدركت بعض الدول العربية النفطية حقيقة تلك السياسة الامريكية والغربية منذ زمن مبكر وتعاملت مع الموضوع بجدية وحيوية، وحققت ثورات وقفزات كبيرة لشعوبها ومجتمعاتها، ببيع النفط مقابل الحياة والتنمية والاعمار والأمن والأستقرار، الا نحن في العراق ندفع الثمن الباهض (الموت من أجل النفط) وليس العكس من ذلك.