23 ديسمبر، 2024 2:09 ص

النفخ في بوق مكسور: أضحوكة الدعم الإسرائيلي لكُردستان وتفتيت العالم العربي!

النفخ في بوق مكسور: أضحوكة الدعم الإسرائيلي لكُردستان وتفتيت العالم العربي!

تثور هذه الإيام ثائرة “العروبيين” (الذين انقرض وباد وجودهم بينما أطيافهم ماتزال تحلق في ليالي العرب المظلمة)، وهم يشهقون أعمق نَفَسٍ، يحبسونه، ريثما يفرغونه بطريقة هيستيرية في بوق “العروبة” المكسور، ووجوههم تحمر إحمرار جهنم، سرعان ما تخبو وتصفر من جديد، ليبدأ النفخ المطمور مرة أخرى، في دوامة تثير، في المقابل، شفقة بائسة لا تكاد تتحمل المشهد إلا والضحكة تنفجر، وكأننا أمام كوميديا مقصودة مع أنها ليست كذلك. والغريب أن هذا العروبي، الذي ليس إلا ممثلا انتهى دوره وزمانه، يبدو ككوميدي فاشل تحوّل هو نفسه إلى كوميديا في السياق الذي يعرض فيه نفسه. لكنه لا يمل من تكرار المشهد، وعدم ملله من الإستمرار في عرض نفس المشهد الفاشل، هو جوهر الكوميديا التي نحن الآن بصدد الضحك منها، لأنها فعلا مسليّة إلى درجة التحذير الطبي.

الحديث في هذه الأيام يعلو ويهبط ويدور حول الإستفتاء الذي يتوقع إجراؤه في إقليم كُردستان، في 25 أيلول الجاري. فالعروبييون وجدوا توقيتهم المناسب لتفريغ قرقعاتهم الجوفاء ضد إرادة الشعب الكُردي. وفي هذا المضمار، لا يتوانى هؤلاء في إطلاق كل ذخيرتهم، دون أدنى تفكير، حتى لو كانت هذه الذخيرة ترتد عليهم فتصيبهم في الكبد. لنعرض جملة من مقولات العروبيين إزاء الحدث: “كُردستان إسرائيل ثانية، إسرائيل هي التي تحرك الكُرد نحو الإنفصال، الإستفتاء محاولة لتقسيم العراق العروبي، إنه مؤامرة دولية ضد العرب…”. وإزاء هذا، يطرح العروبييون التهديدات والحلول في آن، مثلا: “دول العالم (لاحظ التهديد بدول العالم والقصد هنا الدول الغربية الداعمة لإسرائيل وصانعتها) لا ترضى بتقسيم العراق، الكُرد محاصرون وليس لهم منفذ بحري، تركيا وإيران متفقتان على رفض إستقلال كُردستان، الكُرد ينتحرون، على الكُرد الرضى بالبقاء ضمن الدول التي تقتسمهم…”.

كتب موقع رأي اليوم إفتتاحية (والمقال هو لعبدالباري عطوان صاحب الموقع في 18 سيبتيمبر 2017): “دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الطرف الوحيد في العالم الذي يُؤيّد الاستفتاء على استقلال كردستان العراق الذي دعا إليه مسعود البارزاني…”. وفي نفس الموقع كتب ديبلوماسي جزائري مفتخرا بهواري بومدينه الذي يقول كاتب المقال أنه أول من أطلق وصف إسرائيل الثانية على إقليم كُردستان. ويضيف الكاتب أن بومدين كان قد ذهب إلى أمريكا واشتكى إلى الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، بحضور وزير خارجيته اليهودي كيسنجر، أن الإدارة الأمريكية تساند إسرائيل الثانية (أي كُردستان العراق)! وانظر إلى ضحالة الفكر العروبي، يتباهى الديبلوماسي العتيد أن بومدين (الرئيس الجزائري الأسبق) يشتكي إلى راعية إسرائيل أنها تدعم إسرائيلاً أخرى! في الواقع هذه نكتة مضحكة تحتاج إلى مقال.

مقالات العروبيين كثيرة، ومنهم من ينفي العروبة عن نفسه، لكنه في العمق ليس سوى صنيع لخلطة العروبة العنصرية. لذلك، فهذان المثالان يكفيان لتشخيص الداء الذي هرم به هؤلاء، والبقية ليست سوى أكوام متناثرة، من نفايات الكلام والحديث، يشبه بعضها بعضا في الجوهر والمظهر.

ليس هناك اليوم عالم عربي يعيش أدنى درجات الإنسجام والتفاهم، ناهيك عن الحديث حول الوحدة بين دوله وشعوبه التي انحدرت الإنقسامات والخلافات والصراعات بينها، وبين مكوناتها، إلى هاوية أخطر بكثير مما كانت عليه في السابق. والغريب أن تهمة العمالة لإسرائيل، بين مكونات العالم العربي (شعوبا وأنظمة وأحزابا ودولا)، ضد بعضها البعض، هي الأكثر بروزا في العلاقات بين هذه المكونات. أما في الواقع، فما عدا أن جميع الدول العربية أصبحت على وصال مع إسرائيل جهراً وسرا، فإن إسرائيل لم تعد أبدا بحاجة إلى مكونات مثل الكُرد والجماعات الأبعد من محيطها، لأن ما يقوم به العرب أنفسهم من خدمة تجاه إسرائيل، يعجز الكُرد عن تحقيقه بفراسخ زمنية. ولا يخفى أن إسرائيل أصبحت هي القوة العظمى المهيمنة في المنطقة، وطبعا لا دخل للشعب الكُردي في بلوغ إسرائيل هذه السدة التي منها تشرف وتدبر، كسيد مهيب، شؤون الفلسطينيين ووراءهم العرب من المحيط إلى الخليج. ولكن الطبع الغالب في إسرائيل هو أنها إذا أرادت فعلاً تحقيق شئ، فهي تستعين على ذلك بالسر والكتمان، ريثيما يتحقق الأمر كله. والمثال على ذلك، هو الدعم الإسرائيلي لجنوب السودان الذي استقل ومضى، ولم يقدر العروبييون على فعل شئ سوى النقر على طبول مثقوبة، أثارت سخرية العرب قبل غيرهم!

ولكن المضحك في هذه الجلبة العروبية، وهي تتوسل بكل إتجاه في الفراغ الذي تدور فيه، هو أنها أمست جامعة الأضداد والنقائض في فوضى عارمة، اختلط فيها الكوميدي بالتراجيدي حتى وكأن ما يجري ليس سوى عبث مجنون يبدي وجهاً ضاحكاً ثم باكياً في نفس الوقت، ومتهكما ومنشرحا، لكنه في النهاية خائباً ككل مرة!

فهذه إيران، التي تعوّل العروبة المهترية عليها، في نفخ البوق ضد إستفتاء كُردستان، قد مرّغت أنف العروبة في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن، وفي كل مكان تطاله. وعملائها العرب الشيعة (الذين هم بدورهم يحلو لهم أن يهزوا أكتافهم العروبية رغبة في الرقص على أنغامها المتماهية اليوم مع الأيرنة بقيادة المرشد خامنئي)، هتكوا في أمس قريب عرض العروبة في العراق، حين دخلوه، على ظهر دبابات أمريكا التي كانت تساق بريمودكونترولات تل أبيب، وفق خريطة أعتق من القهوة العربية رسمها أستاذ عتيق وهو بيرنارد لويس وتلميذه المخلص كيسنجر. ففي عام 2003 تم تدمير البلد العربي الأقوى وهو العراق، حين دخلت قوات الإحتلال الأمريكية التي جلبت عملائها معها في أكياس ورمتهم على سدة الحكم في بغداد. وهؤلاء العملاء أنفسهم هم اليوم يطبلون بإسم وحدة الوطن وسيادته والوقوف ضد المؤامرات الخارجية ضده، بعدما أزهقوا أرواح الألوف من أبناء العراق العرب وشردوا الملايين! أما النظام السوري الممتطي على ظهر العروبة، فلم يتوان من تحويل سوريا إلى وكر مفتوح للإيرانيين الفرس للتمتع بدماء العرب، وكأن الإيغال العميق والواسع في دماء مئات الألوف كان دليلا على عراقة الشعور بالثأر من التأريخ، من قبل هذه الفرق الباطنية الملتفة حول العنصرية الفارسية التي تتبنى اليوم القضية الفلسطينية، لتُميتها بالسُم لا بالسلاح العامل عمله في بطون وظهور العرب من عربستان وإلى صنعاء. وبما أن دول العالم تدخلت في سوريا وبقوة، فإن فرصة إسرائيل كانت ذهبية، لو أرادت أن تتدخل لإسقاط النظام الذي مازال يعتبر إسرائيل هي التي تتآمر عليه. لكن ذلك لم يحدث وخرج النظام (الذي يتجسد فيه النظام الإيراني، وحزب اللـ اللبناني، وميليشيات شيعية عراقية وأفغانية وباكستانية…الخ) أقوى من كل الفصائل على الأرض.

وعجبا كيف لا يفكر العروبييون، أن أمرا فيه مصلحة إسرائيل الإستراتيجية، كيف لدول الغرب وخصوصا أمريكا أن ترفضه؟ أولم يفكروا ساعة، أن دول الغرب لا تفسخ صنيعها إلا إذا صنعت أفضل منه؟ ألم تمح منظمة داعش الحدود بين سوريا والعراق، فأعادها الغرب وذيولها في البلدين، رغم أن الذيول تدعي أن سوريا والعراق بلد واحد وشعب واحد؟! ألم تكن أبسط مفردات العروبة هو أن يقول النظام السوري والعراقي، نعم داعش أزالت الحدود، ونحن نثبت الإزالة رغم إختلافنا مع داعش ومحاربتنا لها؟! لكن ذلك لم يحدث ولن يحدث أبدا.

إستراتيجية الغرب وإسرائيل ليست في إقامة دول مستقلة للكُرد أو غيرهم، إنما إبقاء الفوضى والحرب والإستنزاف بين مكونات منطقتنا لأطول مدة ممكنة. لذلك، فالحفاظ على وحدة سوريا ووحدة العراق والدول الإقليمية الأخرى، هو مطلب غربي وإسرائيلي بإمتياز. ولولا هذا لما تجمعت كل القوى الغربية لإزالة “دولة داعش”، وإعادة لحمة الوطن الذي صنعه سايكس بيكو في 1916، ودمرته أمريكا في 1991 و 2003 مع إيران، وسلمته لعملائها الشيعة “العروبيين” الذين أكملوا الخراب من أوسع أبوابه. لقد أتت فرص كثيرة لتقسيم العراق، لكن الدول الغربية لم تسمح بذلك. ولو صح أن إسرائيل والغرب يريدان تقسيم العراق أو سوريا لتركوا تنظيم الدولة يستمر قويا في مناطقه دون السماح له بالتوسع، مما كان يعني تقسيما واقعيا للعراق وسوريا مع إقرار دولي بذلك لاحقا. لكن المحافظ الأكبر على وحدة هذه البلدان كان الغرب وإسرائيل أيضا!

من أبسط قواعد الأخلاق، هو أن يساند العروبييون حقوق الكُرد وغيرهم من مكونات المنطقة. مع العلم أن قرقعة القوميين العرب والكُرد والترك والفرس لا تقدم شيئا ولا تؤخر، ولكننا حتى في عالم تقرر فيه أقلية مستكبرة ظالمة مصائر الشعوب، نقدر أن نفي بواجبنا تجاه بعضنا البعض كبشر لنا حقوق طبيعية منحنا الله تعالى إياها. القومية بأنواعها ماتت وأصبحت جزءا من التأريخ، وسبق وأن تحدثت في ذلك في مواقع أخرى. أما الشعوب والجماعات البشرية فتناضل من أجل حقوقها وهي تستحق الإقرار والعرفان والمساندة، سواء تمكنت من ذلك أم لم تتمكن. والكُرد الذين قدموا الكثير لهذه الأمة، دع عنك صلاح الدين الأيوبي، وقل أن أشهر مقاتليهم في هذا العصر وهو (مامَريشه، أغتيل في عام 1986)، ناضل كمئات المقاتلين الكُرد الآخرين دفاعا عن فلسطين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، يكافئه العروبييون، وخصوصا الفلسطينيين منهم بأقصى درجات العنصرية. الشعب الكُردي الذي دافع عنهم، قديما وحديثا، يضعه العروبييون (المصفقون لإيران) في خانة واحدة مع إسرائيل، مع أن الكُرد لم يعتدوا على أحد ولا احتلوا بلد!

ما لكم كيف تحكمون!