كثر الحديث عن المشهد العراقي في خضم الأحداث الأخيرة المتمثلة بالمظاهرات في محافظات الأنبار و صلاح الدين و الموصل، و خاصة عن الخطوات التي اتخذها كل من:
رئيس الوزراء الأخ نوري المالكي و التي أدت إلى هذه التظاهرات و الزعيم العراقي السيد مقتدى الصدر و الحراك الذي قام به بعد المظاهرات.
نحن في هذا التحليل نبين الفرق بين الخطوات التي تعتمد على النظرة السياسية و نتائجها على وضع البلد و تلك التي تعتمد على النظرة إلاستراتيجية و تأثيرها.
نحن هنا نلفت النظر إلى الخطوات التي اتخذها الأخ رئيس الوزراء و التي خلقت جواً معيناً في البلد ، حتى لا يتم النظر إلى هذه المظاهرات كحادثة منفصلة عن ما سبقها.
ان من مهام رئيس الوزراء الأساسية هي المحافظة على السلم الأهلي ، و إشاعة الهدوء في الوسط السياسي حتى يعم الاستقرار ، و خاصة في العراق بلحاظ
نقطتين:
١- ان العراق بلد متعدد الطوائف و الحكم فيه تقوده الأغلبية الطبيعية و هي الشيعة، و لكن يشارك فيه السنة العرب و إلاكراد، بالإضافة إلى باقي المكونات
٢- ان المنطقة المحيطة بالعراق ، ملتهبة طائفيا ، و الصراع بين قوى إقليمية و أخرى عالمية اصبح واضحا لاسيما في سوريا و البحرين ، والعراق
مهدد ان يكون ساحة لمثل هكذا صراع دموي لذا فمن المتوقع من رئيس وزراء العراق، ان يتخذ خطوات استباقية، لحفظ السلم الأهلي و حماية العراق من التوتر الحاصل في المنطقة، و مد الجسور مع كافة مكونات الشعب العراقي و القوى السياسية، حتى لا تؤثر صراعات المنطقة على وضع العراق و استقراره
هذه الخطوات التي تلم شمل القوى السياسية و الجماهير العراقية في كل المحافظات من المفترض ان تقطع الطريق على من يريد زعزعة العراق و أمنه.
قد يقول القائل، ان الشركاء السياسيين من الأكراد و السنة العرب لا يمكن العمل معهم و لا يوجد أي طريق آخر للتعامل معهم إلا المواجهة المباشرة
لأنهم سيئين أصلا.
الجواب، ان الذي يعتقد انه لا يمكنه قيادة العراق إلا عن طريق مواجهة من انتخبتهم شريحة من العراقيين، و انه لا يمكنه العمل مع الذين وصلوا إلى مواقعهم السياسية عن طريق صناديق الاقتراع إلا بالصدام معهم، فمثل هكذا شخص لا ينبغي ان يكون في موقع رئيس وزراء العراق، و ليبحث عن وظيفة أخرى.
ان الذي يقبل ان يكون رئيساً للوزراء يجب ان يكون قادرا على قيادة البلد بما فيه، نعم القيادة تبقى مع من يمثل أغلبية الشعب العراقي إلا و هم الشيعة، لكن بمشاركة ممثلي باقي المكونات، وإلا فليترك الموقع لشخص آخر هو أيضاً يمثل أغلبية ألشعب العراقي الشيعية، لكنه قادر على التفاهم مع الباقين، لا مواجهتهم و خلق أزمات في البلد بشكل دائم.
وهذا ما نلاحظه على خطوات الأخ المالكي الأخيرة، ففيها اختلاق للازمات بشكل دائم، مرة مع الأكراد و مرة مع السنة العرب وهي خطوات تتناقض مع ما ذكرناه و نتائجها معاكسة لتلك الخطوات الاستباقية المفترضة والتي تنشر الاستقرار، فكأن حاجة العراق الماسة للاستقرار غائبة عن تفكير رئيس وزراءه ، الذي يزعزع استقراره باختلاق الأزمات، خلافا لحاجة العراق الواضحة
حتى لو كان رئيس وزراء العراق يفكر في مواجه السياسيين الأكراد لوقف تهريبهم للنفط مثلا، وهو هدف وطني و قانوني، الا يحتاج إلى باقي الشركاء، كالسنة العرب مثلا حتى يضعف الأكراد سياسيا في مثل هكذا مواجهة؟ لكننا نجد رئيس الوزراء يقفز من مشكلة تهريب النفط مع الأكراد إلى مشكلة حدود إقليم كردستان، إلى مشكلة طارق الهاشمي ثم مشكلة رافع العيساوي و هكذا
إذا ما الفائدة من هكذا خطوات وأزماتها الناتجة؟
ان في هذه الخطوات التي تختلق الأزمات فائدة واحدة مهمة ، إلا وهي: ارتفاع
التأييد لرئيس الوزراء بين الشيعة، إذ لاحظنا ان الوضع الملازم لكل هذه
الأزمات التي يقفز فيها رئيس الوزراء من مشكلة اولى إلى ثانية دون حل
الأولى ، هو ارتفاع تأييده بين الشيعة
إذ يتغاضى الناس عن سوء إدارة الحكومة و تهاون رئيس الوزراء في معاقبة
المفسدين من حوله، بلحاظ موقف رئيس الوزراء ضد سياسي كردي أو عربي سني، و
يتداول الناس ما مفاده: نحن نعلم ان المالكي سيء لكن موقفه ضد فلان و فلان
جيد ، و نحن معه
و هذا ما يبدو انه النتيجة الوحيدة لخطوات رئيس الوزراء الأخ المالكي، فهي
خطوات سياسية ذات أهداف انتخابية واضحة، لزيادة شعبيته بين الشيعة ، بالرغم
من آثار هذه الخطوات السلبية على استقرار العراق و روح المواطنة فيه، إلا
ان هذا لا يبدو انه يمثل رادعا لتفكير المالكي السياسي.
فهو لم يقدم خطة اقتصادية خمسية أو عشرية للبلد ، ولم يمرر قانون لادارة
مجلس الوزراء الذي يرأسه منذ ٦ سنوات بعد، لكنه يقدم مواجهات سياسية مفتعلة
ناتجة عن تفكير سياسي في تحصيل تأييد أكبر من جمهوره الشيعي
ولا ينبغي لاحد ان يفكر ان مثل هذه الخطوات ضرورة لابد منها لتقوية وضع
الشيعة في العراق و ضمان لبقاء موقعهم القيادي في حكم العراق، لان الشيعة
أغلبية طبيعية في العراق، و الأغلبية تبحث عن الاستقرار لتضمن وضعها
الطبيعي في البلد، فاي خطوات تخلخل الاستقرار، فهي بذلك تؤثر سلبا على
الوضع الطبيعي
فماذا عن السيد مقتدى الصدر؟ ما هي نتائج خطواته ؟ أهي سياسية أيضاً ام
أنها تحمل بعدا آخر؟
قد يسأل البعض: لماذا يتحرك السيد مقتدى الصدر أصلا؟ الجواب: إذا كان رئيس
الوزراء لا يملك نظرة استراتيجية، فهناك في البلد من يملك ذلك و هناك
والحمد لله من ينظر ابعد من الأهداف الشخصية الضيقة قصيرة المدى
ان حراك السيد مقتدى الصدر المتمثل في التالي:
١- إعلان دعمه لمطالب المتظاهرين عدا إلغاء اجتثاث البعث، ورفع العلم
العراقي السابق و صور صدام و غيرها من الشعارات الطائفية التي تهدد السلم
الأهلي و تذكي الفتنة الطائفية
٢- زيارته إلى كنيسة سيدة النجاة و إلى جامع الكياني و الصلاة جماعة خلف
أمام سني، وهو -السيد مقتدى الصدر- قائد عراقي و أمام جمعة في مسجد الكوفة
، مع ذلك يصلي خلف أمام مسجد سني
٣- ارسال وفود برلمانية ، الى كافة المحافظات التي شهدت مظاهرات : الانبار
وصلاح الدين و سامرء و الموصل، ليقوم أعضاء مجلس النواب بوظيفتهم الحقيقية
إلا و هي الاستماع لمطالب الجماهير ، كما هو المعهود في أي نظام ديمقراطي
وكان أكبر هذه الوفود هو الوفد الذي ترأسه النائب الأول لرئيس مجلس النواب
الدكتور قصي السهيل إلى الأنبار و زيارته إلى بيت الشيخ عبد الملك السعدي
الذي يمثل شخصية علمية مرموقة وواعية ، هذه الزيارة أيضاً تصب في دعم السيد
مقتدى الصدر للشخصيات الوطنية صاحبة الخطاب الوطني البعيد عن الطائفية
وبذلك تمكن السيد مقتدى الصدر من إرسال رسالة ليس فقط إلى العراقيين، بل
والى المنطقة بأسرها، بأن الشيعة متمثلين بالسيد الصدر وهو صاحب أكبر قوة
جماهيرية، والتي طالما أشيع عنها أنها عنصر باعث على عدم الاستقرار، هم في
الواقع قادرون على قيادة العراق بكل مكوناته و ان قيادتهم للعراق لا تتمثل
في مواقف رئيس الوزراء السياسية ذات المنفعة الشخصية البحتة
بل ان السيد مقتدى الصدر قد قدم المصلحة العامة على مصلحته السياسية
الخاصة، اذ يمكن ان يكون قد خسر، و بحسب المعايير الانتخابية ، شيئا من
تأييد الشيعة له، إذ ان بعض الناخبين الشيعة لا يمكنه التغلب على مشاعره
الغاضبة حينما يرى صور صدام ترفع في الأنبار، ولا يتحمل ان يسمع ان السيد
مقتدى الصدر يؤيد المظاهرات ، فبالتالي فان السيد الصدر قد يكون قد خسر بعض
هذه الأصوات الانتخابية
لكن السيد مقتدى الصدر لا يفكر بهذا المنطق الانتخابي المحظ ، والذي ربما
دفع بعض القوى الشيعية الأخرى إلى السكوت خوفا من رأي الجماهير، انه يفكر
بمنطق استراتيجي بعيد المدى، يحفظ للعراق أمنه و استقراره، وهو حائز على
تأييد جماهيره، بالإضافة إلى التأييد الكبير من كل الجماهير التي تفكر في
مستقبل العراق واستقراره على المدى البعيد، والتي ضاقت ذرعا بصراعات
السياسيين وعدم تفكيرهم بمصلحة البلد
فان موقف السيد مقتدى الصدر قد انتزع فتيل الأزمة الطائفية، و سحب البساط
من تحت ارجل كل أولئك الذين يريدون استغلال هذا الصراع السياسي بين رئيس
الوزراء و الباقين من منافسيه، و تحويله إلى صراع طائفي يهدد العراق بحرب
أهلية
ان الرد القوي للسيد الصدر على تصريحات عزة الدوري ،والذي أعطى ظهوره على
الشاشة دعما كبيرا لموقف المالكي و شعبيته بين الشيعة اذ انه تبجح بدعم
المظاهرات وزاد من حنق الشيعة على المظاهرات، وتهديد السيد الصدر له بالقتل
، قد قطع الطريق على أمثال الدوري ممن يريدون صب الزيت على النار، و اظهار
ان المظاهرات بعثية صدامية، إذ بعد هذا الموقف القوي من السيد الصدر ظهر ان
المتظاهرين لا يدعمهم أشخاص مجرمون من النظام السابق، بل يدعمهم السيد
مقتدى الصدر الشيعي، فلا مجال للطائفية المقيتة هنا
ان العراق في خطر الانجرار الى صراع طائفي تتبناه السعودية و قطر كما
تفعلان الان في سوريا، وبالأخص مع وجود الحدود المفتوحة مع سوريا و وجود
الجيش الحر الإرهابي و عناصره في المنطقة، ولا بد من نزع فتيل أي أزمة
طائفية في العراق حتى لا تجد القوى الإرهابية فرصة لغسل أدمغة الشباب و
تجنيدهم في معركة الكل فيها خاسر
ونزع هذا الفتيل لا يتم إلا إذا وقفت شخصية شيعية ، ما دام الشيعة هم من
يقودون العراق، وتؤيد المتظاهرين، وبشكل جدي، لدعم مطالبهم العادلة
المتعلقة بالحقوق و السجون و فرص العمل و الخدمات و غيرها
وأما إذا كانت هذه الشخصية، هي شخصية قائد أكبر قوة يخشى منها في المنطقة
و من شبابها الأشداء المقاتلين، فان موقف مثل هذه الشخصية الداعم
للمتظاهرين السنة سيكون ذا اثر كبير جداً في خفض التوتر الطائفي و المحافظة
على السلم الأهلي، وهذا بالضبط ما قام به السيد مقتدى الصدر
قد يتسائل بعض الشيعة عن ضرورة الوقوف بجانب المالكي في مثل هذه الظروف
للمحافظة على موقع الشيعة القيادي في العراق، وان الأجدر بالسيد مقتدى
الصدر، هو ان يقف مع المالكي في هذه المرحلة ، لا ان يؤيد المتظاهرين
الجواب عن ذلك هو ان الشيعة كاغلبية طبيعية في العراق، لا يخشى على موقعهم
القيادي في العراق، مع مشاركة باقي المكونات في حكم البلد، فان الاخ
المالكي لا يحتاج الى من يقف معه، بالذات مع العلم بان مواقفه و خطواته ذات
منفعة شخصية فقط و في واقعها لا تخدم مصلحة العراق الاستراتيجية و لا مصلحة
الشيعة فيه
بل ان الوقوف مع المالكي يعطي صبغة طائفية للعراق تساهم في زيادة التوتر
الطائفي في المنطقة
وإذا كان الحديث حول موقع الشيعة القيادي في العراق ، فان هذا الموقع لا
يعتمد على وجود المالكي أو عدمه، فقط حصل سابقا ان الشخص الذي في موقع رئيس
الوزراء تم استبداله و لم يتأثر موقع الشيعة في قيادة العراق، ففي عام ٢٠٠٦
تم استبدال الدكتور إبراهيم الجعفري بالاخ المالكي ولم يتأثر وضع الشيعة،
بل كان وضعهم أكثر ضعفا من اليوم، و لم يتأثروا، فما بالك بوضعهم اليوم و
العراق أكثر استقرارا منه عام ٢٠٠٦
ان ضمان استقرار العراق هو ضمان لاستمرار قيادة الشيعة له، مع مشاركة
الجميع والشخص الذي يسعى لاستقراره، هو الذي يحمل فكرا استراتيجيا يقدم
مصلحة العراق على المصلحة الانتخابية الضيقة
فهذا هو الفرق بين التفكير السياسي للمالكي ، والتفكير الاستراتيجي للسيد
مقتدى الصدر