نظام عالمي جديد آخذ في التشكل.. فكيف ستكون معالم هذه النظام المرتقب؛ هل يرتكز على كفتي توازن دولي؟ أم تتوازن العلاقات الدولية على قاعدة، أعمدتها عدة أقطاب؟ بدأ منذ عدة سنوات؛ الطرح الفعلي والجاد بضرورة إصلاح النظام الدولي، وتعديل، أو البحث الجدي للركائز التي يقوم عليها مجلس الأمن الدولي، من قبل روسيا والصين، ومعارضة الدول الغربية وأمريكا لهذه الطروحات في حينها. في الأشهر الأخيرة بدأت أمريكا والدول الغربية؛ في طرح ضرورة إصلاح هيئة الأمم المتحدة ومجلس أمنها.
النظام العالمي الآخذ في التشكل؛ إذا ما تم تأسيسه على أسس ديمقراطية بخلاف النظام العالمي القائم على ديكتاتورية مجلس الأمن الدولي، الذي يحمي الدول الكبرى الأعضاء الدائمين فيه؛ من الإدانة والشجب والعقاب، إذ لا يمكن معاقبة روسيا على خلفية غزوها لأوكرانيا، حتى إن توافرت الموجبات المقنعة، خصوصا عندما يكون قرار المعاقبة بصيغة العمل والتنفيذ؛ لأن روسيا، تمتلك حق النقض، هذا ما يجعل القاعدة القانونية التي تشكل بموجبها، مجلس الأمن الدولي؛ قاعدة قاتلة للعدالة من جانب، ومن الجانب الثاني تمثل تمثيلا تاما وكاملا؛ إرادة القوى العظمى، الأعضاء الدائمين في المجلس هذا، حتى إن تحولت هذه القوى إلى قوى غازية ومحتلة للدول وتدمير شعوبها، من دون أن يتم إخضاعها للمقاضاة والحساب، على ما فعلته من تدمير للدول والشعوب التي تعرضت للغزو والاحتلال والخراب والتدمير، وبصرف النظر عن آراء بقية الدول؛ التي يتم دفعها إلى الخلفية عند التصويت، واستخدام حق النقض الحصري للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي.
هذه الإرهاصات والخضات؛ تؤكد أن النظام الدولي بات في مرحلة الموت السريري، وهذا لم يكن من فراغ، أو لم تكن الحرب في أوكرانيا هي الوحيدة التي هزت بقوة ركائز النظام الدولي، بل إن النظام الدولي تعرض في بداية القرن الحالي إلى خرق قواعده وقوانينه الحاكمة لسلوك الدول مع بعضها بعضا، وحفظ سيادة الدول وأمنها واستقرارها؛ عندما غزت أمريكا العراق، وهي الدولة العظمى والعضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، وما يفرض عليها موقعها هذا؛ من التزامات أخلاقية واعتبارية وسياسية، على مرتكز احترام شروط ومحددات القانون الدولي، الذي وقعت عليه كما غيرها من القوى الدولية الكبرى؛ بحجج واهية ثبت بطلانها وزيفها، من دون قرار من مجلس الأمن الدولي، بل إن المجلس كان في وقتها يعارض هذا الغزو والاحتلال لدولة عضو في الهيئة الأممية. هذا الخرق الأمريكي للقانون الدولي؛ هز في حينه النظام الدولي، كما الغزو الروسي لأوكرانيا، ولو أن غزو الأخيرة له مسوغات وموجبات، حسب المسببات التي يطرحها الخطاب السياسي والدبلوماسي الروسي، من جهة، ومن الجهة الثانية؛ أوكرانيا محاددة لروسيا مع روابط التاريخ التي تربط شعبي الدولتين، بينما العراق يبعد عشرة آلاف كيلومتر عن أمريكا؛ وهذا ما يجعل الغزو الأمريكي للعراق يختلف تماما من حيث النوايا والأهداف عن الغزو الروسي لأوكرانيا. يجري الحديث من قبل القوى الدولية على زيادة عدد المقاعد الدائمة في مجلس الأمن الدولي؛ ليشمل دولا كبرى، اليابان وألمانيا والبرازيل والهند؛ ليُخصص لكل واحدة من هذه الدول؛ مقعد دائم في هذا المجلس. على سبيل المثال؛ روسيا تؤيد أن يكون للبرازيل والهند، مقعد دائم، بينما تعارض انضمام اليابان وألمانيا؛ بحجة ألا تكون الغلبة في المجلس لصالح الغرب، إذا ما انضمت اليابان وألمانيا لمجلس الأمن الدولي في حالة إعادة تشكيله على أسس جديدة. في مقالة كتبتها، قبل أكثر من سنة، ونشرت في «القدس العربي»؛ بينت فيها أن مجلس الأمن الدولي يشكل ديكتاتورية كونية تتحكم بمصائر الدول، ومصادرة إرادتها. السؤال هنا كيف سيكون شكل وقواعد ومعايير النظام الدولي المطروحة إقامته على بساط البحث؛ ليكون بديلا عن الحالي؛ ليشمل هيئة الأمم المتحدة ومجلس أمنها؟ وهل يجري استنساخ النظام الحالي مع بعض التعديلات هنا وهناك، من دون أن يمس أو يؤثر في تسلط القوى الدولية الكبرى، عبر هذه المنصة الدولية، على المجموعة البشرية كلها؟ أم تجري إعادة الصياغة للأمم المتحدة ومجلس أمنها، بطريقة مختلفة كليا عن النظام الحالي؟ من الصعب جدا؛ رسم صورة واضحة لطبيعة النظام الدولي الجديد؛ عندما يتم تشكيله في المقبل من الزمن. إنما في المقابل من الممكن تلمس الصورة أو الشكل الذي سوف يظهر عليه النظام العالمي في السنوات المقبلة، بالاعتماد على عوامل الصراع الحالية ونتائجها، أو ما سوف تؤول إليه في نهاية المطاف، وعلى رؤية، وخطط وأهداف وطموح القوى الدولية، في توسيع مساحة صناعة القرار الدولي، بطريقة تتوازن الإرادات فيها؛ من هذه القوى حصريا؛ الصين وروسيا، والقوى الدولية الأخرى التي تنتظر الفرصة للصعود على السلم إلى منصة مجلس الأمن الدولي.
من دون أدنى شك؛ أن التنافس على الساحة الدولية، سوف يكون بين القطبين العملاقين الاقتصاديين، أمريكا والصين، وسيأخذ المسار الاقتصادي بالدرجة الأولى والأساسية؛ طريقا في التنافس من دون إهمال بقية المسارات، لكنها ستكون عوامل ساندة ومكملة وحامية لهذا التنافس، حتى لا يخرج عن طريقه، ويسير في الطريق العسكري لتضييق مساحة التنافس للخصم، كما تفعل مفاعيل، السلاح النووي الاستراتيجي في منع الخصوم من الدخول في حرب مفتوحة. سيجري حكما في المقبل من الزمن؛ سباق تسلح أكثر شدة وأكثر سعة مما هو جار في الوقت الحاضر، ليس لاستخدامه إنما للتلويح به في وجه الند، في عملية تبادلية التلويح والإنذار والتهديد؛ لوضع الكوابح التي تمنع الصدام المباشر، باستثناء معارك وحروب الوكلاء.. الآن تشهد البشرية مرحلة انتقالية من نظام عالمي فقد موجبات وجوده ومبررات هذا الوجود، إلى نظام عالمي آخر مختلف كليا؛ في بيئة دولية متهيئة تماما؛ لتشكيله على أسس وقواعد إطارية جديدة، في نهاية المطاف لتشكيله كما يروج إعلاميا في الفترة الأخيرة، وبالذات من جانب روسيا والصين.. من هنا تبدأ الأسئلة: هل النظام العالمي الآخذ في التشكل؛ سوف يرتكز على مركزين للتوازن الدولي؟ أم على عدة مراكز وازنة للعلاقات الدولية؟ أم لا هذا ولا ذاك، بل على عالم جديد تسود فيه العدالة والشفافية وديمقراطية اتخاذ القرار الدولي في أية مشكلة تواجه البشرية في أي بقعة من كوكب الأرض. من أهم قواعد العدالة في النظام العالمي الآخذ في التشكل، إذا كانت النية صادقة بالسعي لنشر العدل والسلام والأمن والاستقرار في المعمورة؛ هو أن يتم إلغاء حق النقض الفيتو، ويكون بديلا عنه؛ اعتماد التصويت بالأغلبية.. لقطع الطريق على هيمنة وتسلط القوى الدولية العظمى والكبرى، العملية الانتقالية نظام عالمي جديد؛ ستستغرق زمنا ليس قليلا أبدا؛ تسود فيها، الإشكالية والتعقيد والاشتباكات والمخاطر، بالإضافة لساحات التنافس والصراع وقتال الإنابة، وربما بتغييرات بعض الأنظمة هنا وهناك في العالم، ومنها منطقتنا العربية، وجوارها الإسلامي، كما أن الشراكات ستتغير وتتبدل، وتشهد أيضا إقامة تكتلات اقتصادية جديدة وتوسعة ما هو قائم منها. إن ثورة الاتصالات والمعلومات، وحقوق الإنسان الحقيقية، وما هو متصل بها عضويا؛ من التبادل السلمي للسلطة وحرية الكلمة والرأي والاعتراض؛ ستفعل فعلها في تعميق الوعي الجمعي لشعوب العالم، ومنها منطقتنا العربية وفي جوارها الاسلامي، ومنها أيضا شعوب الدول العظمى والكبرى. هذه التحولات بمجملها ستشكل ضغطا على أنظمة الدول في العالم، وفي مقدمتها الأنظمة العربية وجوارها الإسلامي، والموقف من القضية الفلسطينية، قضية العرب الكبرى، بل قضية البشرية الكبرى؛ كونها قضية ذات أبعاد أممية وعربية وإسلامية وإنسانية؛ تستوجب البحث الجاد والمنتج لحل عادل لها لناحية حق الشعب العربي الفلسطيني في الحياة والحرية والوجود في دولة ذات سيادة كاملة وغير منقوصة تحت أي حجة أمنية مبالغ فيها من قبل الكيان الإسرائيلي المحتل للأراضي الفلسطينية؛ لأن هذه الحجة سيتم تصفيرها بمطرقة العدالة على افتراض، أن هذا ما سيحصل مستقبلا.. وهذا لا يكون له وجود إلا في نظام دولي عادل وأخلاقي وديمقراطي. أما في حالة تدوير الأعضاء الحاليين، وإضافة الجدد، مع بقاء ديكتاتورية المجلس على حالها، مع بعض التعديلات والإضافات التي لا تغير تغيرا حاسما منه ومن قواعد القانون لعمله؛ ستظل دول العالم الأخرى تعاني من الظلم والإقصاء؛ ما يدفعها إلى المقاومة والقتال أحيانا من أجل حقها في الحياة وكرامتها وسيادتها وحريتها، وفي المقدمة من جميع شعوب الأرض؛ حق الشعب العربي الفلسطيني في دولة ذات سيادة.. كما أن دول العالم الثالث؛ ستكون ساحة لصراع القوى الدولية العظمى من جانب وفي الجانب المقابل؛ سيكون هناك قيد على إرادة الشعوب في هذه الدول، كما حصل خلال القرن العشرين، وإلى الآن من الناحية الواقعية، بصرف النظر عن الديمقراطيات الصورية التي لا تمت لحقيقة الديمقراطية بصلة؛ بل هي لصالح الأنظمة الديكتاتورية التي تتلقى الدعم والإسناد والحماية من الإدانة والعزل من القوى الدولية الكبرى، وهذا صعب تبنيه في نظام دولي آخذ في التشكل.