تتخذ هذه الدراسة من احتلال الولايات المتحدة للعراق مدخلاً لدراسة ابعاد العلاقة بين الولايات المتحدة والنظام الاقليمي العربي طوال الفترة 2003- 2008، ومدى تأثير هذه العلاقة في قدرة النظام العربي على الاستمرار والاحتفاظ بتمايزه عن غيره من النظم الاقليمية وعن تفاعلات النظام الدولي.
وتفترض الدراسة، ان قدرة النظام العربي على الاستمرار كنظام اقليمي، تتوقف على كيفية تفاعل وحداته مع السياسات الامريكية في فترة ما بعد احتلال العراق… وما اذا كان النظام العربي قد انهار بمجرد احتلال العراق ام انه مازال قائماًً؟
لقد مثل احتلال العراق نقطة فاصلة في تاريخ علاقة النظام الاقليمي العربي بالولايات المتحدة. فمع احتلال العراق فرضت الولايات المتحدة على النظام العربي نمطاً جديداً من العلاقات، باعتبارها دولة احتلال على النحو الذي اقره قرار مجلس الامن الدولي ذو الرقم 1483. فأخذت بوصفها قوة عظمى تمارس نوعاً من الهيمنة الساعية على مستوى النظام الدولي الى مد تلك الممارسة رأسياً كي تهيمن على النظام الاقليمي العربي وعلى غيره من النظم الاقليمية ذات الاهمية الاستراتيجية بالنسبة اليها، بما يمكنها من اعادة ترتيب الاوضاع فيها واعادة تعريف علاقتها مع القوى المحيطة بما يخدم مصالحها، وهذا ما عبرت عنه استراتيجية الامن القومي الامريكية التي تحدثت عن اقامة علاقات دولية منتجة وجديدة واعادة تعريف ما هو قائم منها بطرق تتفق وتحديات القرن الحادي والعشرين.
فقد صاغت الادارة الامريكية سياستها بعد احتلال العراق للتأثير في قيم النظام العربي في اطار نظرية الدولة الفاشلة، وهي النظرية التي تفترض وجود حكومات غير مسؤولة وغير قادرة على القيام بوظائفها بما يسهل على المتطرفين عبور حدودها واحداث كوارث للبشرية تفوق التقدير.
يحلل الكتاب بداية تاريخ العلاقة بين النظام الاقليمي العربي والولايات المتحدة منذ نشأة هذا النظام رسمياً عام 1945 وحتى عام 2003، وذلك من خلال رصد وتحليل السياسات والمشاريع الامريكية التي تستهدف حدود النظام العربي وامنه ومنظومة القيم التي تبلورت في الفترة السابقة على الاحتلال ومواقف النظام الرسمية ومواقف بعض الدول العربية المؤثرة منها ثم كيفية استجابته لها وما اذا كان قد طور آليات معينة للتعامل معها.
لقد اثار احتلال العراق من التساؤلات حول كيفية تأثيره في النظام الاقليمي العربي وحول مدى قدرة النظام على تطوير آليات التعامل مع تداعيات الاحتلال التي تؤثر بدرجة او بأخرى في قدرته على الاستمرار كنظام اقليمي وما اذا كانت واقعة الاحتلال وما ترتب عليها من تداعيات ستتسبب في انهياره وانتهاء وجوده.
وقد دفع هذا الوضع الكثير من المحللين الى الحديث عن انهيار النظام العربي خاصة ان واقعة الاحتلال جاءت قبل ان يتمكن النظام من معالجة تبعات غزو العراق للكويت، اي في وقت اتسم فيه بالضعف او باستمرار وجوده من الناحية الشكلية ممثلاً في الجامعة العربية .
يمكن القول، ان احتلال العراق اثر بمجمله في سلوك النظام العربي، وسيترتب عليه في حال استمراره، تغير النظام ذاته. وترجع قوة ذلك التأثير الذي تأكد ببطء معالجة النظام لتداعيات الاحتلال واتجاهه نحو التكيف القائم على رد الفعل الى ان واقعة الاحتلال جاءت في لحظة كان النظام فيها ضعيفاً ولم ينته بعد من علاج تبعات غزو العراق للكويت، كما جاءت في الوقت الذي فضلت فيه وحدات النظام الاحتفاظ بعلاقات امنية عسكرية مع الولايات المتحدة بدلاً من تطوير تلك العلاقات مع غيرها من الدول العربية ومثل هذه الاوضاع تزيد من تأثير تغلغل القوى العظمى في النظم الاقليمية.
وعليه، فان احتلال العراق ادى الى مزيد من الاختراق لامن النظام العربي، وقد حددت الدراسة مجموعة تداعيات امنية للاحتلال تمثلت ابرزها في تزايد اهمية مصادر التهديد غير التقليدية لامن النظام العربي، اي المصادر التي تنبع من داخل وحدات النظام وتمس أمن الدولة القطرية بالدرجة الاولى ولم يتمكن النظام العربي من التعامل معها بفاعلية في المرحلة السابقة على احتلال العراق بل اغفلها… ومن اهم مصادر التهديد غير التقليدية خطر الحرب غير المتكافئة… ويقصد بهذا النوع من الحروب، الحرب التي يكون احد طرفيها اضعف من الطرف الآخر من الناحية التنظيمية ومن ناحية القوة المادية… وقد بانت المنطقة العربية مهددة بانتقال هذا النوع من الحروب اليها، خاصة مع استمرار المواجهات المسلحة في العراق بين التنظيمات المسلحة ومنها الارهابية من جهة والقوات العراقية والامريكية من جهة اخرى.
ومن المهددات غير التقليدية كذلك، تهديد امن السلطة السياسية، ومصدر هذا التهديد منطق المحاصصة الطائفية بين الطوائف الثلاثة الكبرى في العراق، السنية والشيعية والاكراد… وهو المنطق الذي اعتمده الحاكم الامريكي المدني في العراق بريمر واحدث تغييراً جذرياً في ميزان القوة السياسي بينها ليميل الى مصلحة الشيعة والاكراد… ويعتبر هذا مصدر تهديد للاقطار الخليجية بالدرجة الاولى، خاصة تلك التي توجد فيها اقليات شيعية مقصية عن السلطة دون ان ينفي ذلك تهديده لباقي الدول العربية.
ويمثل تنامي الصعود الايراني في المنطقة احد تداعيات اختراق امن النظام العربي على نحو غير مسبوق، فانهيار العراق تسبب في وجود فراغ قوة ليس في مقدور اقطار الخليج العربية ان تملأه نتيجة ضعف بناها العسكرية ازاء ايران وفقاً للمعيارين الكمي والكيفي.
ويمثل الداعي الثالث، في تعاظم هيمنة الولايات المتحدة على النظام العربي من خلال تزايد الوجود العسكري الامريكي في المنطقة. فبقيام الولايات المتحدة بشن الحرب على العراق باتت هناك صورة جديدة لعلاقاتها العسكرية مع النظام العربي، اذ اتجهت الادارة الامريكية الى نقل رؤيتها لمهددات امنها القومي الى المستوى الاقليمي في تعاملها مع النظام العربي، مستغلة في ذلك ما وفره لها وجودها في العراق من فرصة للتحكم في مواقف وسياسات دول المنطقة، واعتبرت الارهاب، الخطر الاساسي الذي يتهدد الامن الامريكي ويتطلب تعاوناً دولياً.
يمكن تتبع تداعيات احتلال العراق على النظام الاقليمي العربي على مستوى الدول العربية ومستوى النظم الاقليمية المتفرعة عن النظام العربي، كالنظام الخليجي وعلى مستوى النظام ككل. وهذا المستوى الاخير هو محط اهتمام هذا الكتاب حيث يقيس تداعيات الاحتلال عليه خلال الفترة 2003-2008، وذلك باعتبارها ان النظام العربي هو الاطار الاوسع الذي يشمل الدولة والنظم الفرعية، فضلاً على ان درجة تأثيره ومدى قدرته على استيعاب هذا الشكل غير المسبوق من علاقات التغلغل وما تبعه من سياسات امريكية تستهدف المنطقة، تحدد الى مدى بعيد، درجة تأثير المستويين الآخرين بالاحتلال.
وبذلك، تفترض الدراسة، ان الولايات المتحدة تسعى بوجودها في العراق الى المساس بالنظام العربي عن طريق ثلاث طرق متوازية تؤثر في حدود النظام وقيمه وامنه. ويتوقف مدى نجاحها في ذلك على مدى تفاعل النظام العربي ووحداته معها، تفاعلاً ايجابياً، وهو التفاعل الذي سيحدد مدى قدرته على الاستمرار والبقاء.
يمكن القول، ان احتلال العراق ساهم في تحرك النظام العربي باتجاه فريد من الخضوع والتبعية للولايات المتحدة التي باتت تمارس فيه نوعاً من الهيمنة التي افقدته قدرته على التحرك بما يتعارض وسياستها ازاء بعض القضايا، خاصة مع غياب اي موقف عربي موحد منها نتيجة غلبة الطابع التنافسي على التفاعلات العربية- العربية. فقد اثر الاحتلال بمجمله في سلوك النظام العربي، وسيترتب عليه في حال استمرار الاحتلال تغيير النظام ذاته.
وتجدر الاشارة الى ان استمرار وضع احتلال العراق بصيغته الحالية او وفق اية صيغة اخرى بموجب الاتفاقية الامنية الثنائية بين واشنطن وبغداد، سيضع قيوداً على قدرة النظام العربي على بلورة تلك الرؤية وسيزيد من القيود المفروضة على حركته وقدرته على البقاء.
ان ما يحتاج النظام العربي اليه خلال هذه المرحلة الحاسمة من تطوره، هو العمل على استكمال صوغ رؤية لأمنه حتى يقلص اختراقه الذي تعاظم بعد احتلال العراق والذي قد يمكنه من التغلب على التحديات التي تواجهها حدوده ومنظومة القيم الخاصة به… ابرزها اعادة بناء الثقة على مستوى الدولة القطرية، اي بين الجماعات الاثنية المختلفة من اجل التغلب على مخاطر امن السلطة السياسية التي طرحها صعود الشيعة في العراق وتزايد النفوذ الايراني في المنطقة بما يضمن تبلور مفهوم كامل للمواطنة في مواجهة جميع تلك الجماعات. ولا بد ان ينفذ ذلك في العراق وفي الدول العربية التي تواجه ذلك الخطر بالتوازي. وكذلك اعادة بناء الثقة على مستوى اقليمي بين العراق ودور مجلس التعاون الخليجي وبينه وبين مصر وباقي الدول العربية، فهذا من شأنه ان يرشد خياراته ويحد من النفوذ الايراني فيه.
ومن شأن هذه الرؤية الجديدة، ان تؤكد ارتباط هذه الاجزاء بالنظام الاقليمي بما يحول دون استمرار اغتراب النظام الخليجي، كنظام اقليمي فرعي عن النظام العربي، خاصة مع تحوله الى مجال للتنافس بين واشنطن وطهران اللتين تتنافسان على تنفيذ مشاريع امنية فيه تخدم رؤيتها لأمنه، وانخراط الادارة الامريكية الجديدة في حوار مع ايران يجعل الخليج على مفترق طرق بحيث ان اختيار اي منها سيؤثر في مستقبل علاقته بالنظام العربي.
* الكتاب- النظام الاقليمي في مرحلة ما بعد الاحتلال الامريكي للعراق، تأليف- ايمان احمد رجب،ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص 415