23 ديسمبر، 2024 3:52 م

النص المفتوح كنص عابر للشعرية – قراءة في كتاب (تاريخ الماء والنساء)

النص المفتوح كنص عابر للشعرية – قراءة في كتاب (تاريخ الماء والنساء)

 للفنون الإبداعية وخاصة التي تقترب من حدود الشعر، او الاجناس الاخرى المجاورة له، كالنص المفتوح، قدرة على كشف المضمر وراء الانساق البنائية المقننة للكثير من الأجناس الكتابية والعلوم الوضعية، كالتاريخ مثلا، وذلك لاندماج أكثر من صيغة للخطاب فيه، حيث يؤشر على المواطن المُبعدة عن وعي المؤرخ، من خلال التماهي مع الدلالات الميثولوجية والانثربولوجية المتشظية في الخطاب التاريخي، الى جانب الخطاب الشعبي الشفاهي، والرؤية الشعرية التي تنفذ الى ماوراء تلك الخطابات، لتكتشف البؤر الزمكانية المحركة لها، وربما يتمتع النص المفتوح بمرونة أكثر للتجاوب مع هذه الخطابات، والتماهي معها رغم إنه يأخذ شكله وصورته، من رؤى الناص/ الكاتب، وبنيته المعرفية والأدراكية، اذ ربما تخرج تلك الخطابات عن اطارها الوظيفي المحدد لها ضمن سياقات المنهج التاريخي، فأجتراح خطوط الوصل مابين البنيتين المتغايرتين للتاريخ كعلم، والادب – واقصد النص المفتوح- تخضع الى الاطار الذي يبنيه الناص/ الكاتب من لغته الخاصة وزاوية النظر واعادة (تحبيك) المتن التاريخي، ويمكننا اعتبار النص المفتوح نصاً عبرشعرية، تحويراً لمصطلح العبرثقافي او البينثقافي، أو العبر معرفي، اذ انه يعتبر نصاً جامعاً عابراً لمختلف الاشكال الكتابية رغم تفارقها بنائيا وشكلياً..
    وهذا ما يقودنا الى قراءة كتاب (تاريخ الماء والنساء)، للشاعرين أمير ناصر وعمار كشيش،  والتي تجعلنا ندور في مدارين لتلقي هذه المدونة، وهو ما تجترحه المتعالية النصية (نص مفتوح مشترك) فالاول هو الصيغة التجنيسية للكتاب كنص مفتوح اما الثاني فهو تعبير(نص مشترك)، والذي يمكنني ان اطلق عليه بالشَّرَك القرائي، والنص المفتوح، نص اشكالي في حد ذاته، إذ لم يستقم له تعريف جامع ممكن ان يفصله عن قصيدة النثر، حيث يخلط الكثيرين بين هذين الجنسين المختلفين، وذلك للتقارب الكبير بينهما او ربما هو ناتج عن  (الاستهانة بأجناسية الاثنين معا وعدم الاعتراف بهما احياناً)  بتعبير خزعل الماجدي، والذي حاول ان يقترح الية لتحويل الشعر الى نص مفتوح، وذلك  (بفتح النص الشعري بأتجاهين مختلفين أولهما عمودي ذهب بأتجاه الماضي وجعل الشعر يلامس النصوص الادبية النثرية والشعرية القديمة والنصوص الدينية الاسطورية والمقدسة والصوفية وثانيهما افقي دخل في نصوص النثر المجاورة الادبية والعلمية والمعرفية المعاصرة بشكل خاص.)، وهذا باعتقادي على اقل تقدير ماحاولت مدونة (تاريخ الماء والنساء) من فعله، وذلك من خلال انفتاحها على النصوص الدينية اذ ان لغة النص التي اقتربت كثيرا من لغة الكتابات الدينية والتضمينات من بعض الكتب المقدسة كالقرأن والكنزربا والانجيل، مع الاقتباسات التي اخذها من كتب التاريخ (قال لي وهو يقلب مخطوطات ابيه: (ان عشيرة العبودة تمركزت في قرية الشاهينية في اراضي خفاجة، وهو اسم لمدينة تاريخية قديمة أنشأها عمران بن شاهين وموضعها حاليا في مقاطعة شطب ال منهل “الاقرب الى الناصرية منها الى الشطرة”)ص25، وايضا بالاتجاه الاخر وهو الافقي اقتباس اجزاء من قصة (تتمة لكتاب النهر) للقاص محمد خضير سلطان (كدت اصحو من التطلع في مرايا الضوء، لو لم يدعني حرس المعبد للدخول الى بوابته الرئيسة، فقد الف حراس سكرانو العظيم ترددي الطويل حاملا معي كتاب النهر الذي لم يكمل بعد لكن احدهم اندفع باتجاهي شاكي السلاح وأوقفني …) ص35، حيث كسر هذا التماهي مع هذه التضمينات والاقتباسات من حدة الهيمنة التي ربما ينساق اليها النص صوب قصيدة النثر بصورة مطلقة، اذ ان خطاب النص لم يحاول ان يموه تلك التضمينات ودلالاتها او يردع نكوصها صوب جوهرها الذي بنيت عليه في الاصل، بل عزز قدرتها على النمو داخل خطاب النص، اذ حضرت بصورتها الكليانية اكثر من مرة، وفي بعض الاحيان ذائبة داخل اللغة، كتناصات، ولكن مع ذلك يمكننا اعتبار ان شعرية النص هي الأطار اللام والموجه للبنية العلامية التي سيطرت على النص وانتقالاته:
اطلقت صوتها جريحا وأوصتني:
إياك ان تحدق بالماء وهو يمض
إياك ان تثق بعاهرة تطلي صوتها بالعفة كل صباح
إياك أن يهطل المساء على عيونك وانت وحيد
إياك أن تكدس العمر ورقة تلو اخرى، وتمطره بشررك
إياك أن تشم دخان احتراقك
     اما المدى الثاني الذي بني عليه وهو (الاشتراك) في الكتابة، واعتقد ان هذه الالية هي شَّرَك  وضع من قبل الكاتبين حتى يمكنّا القارئ من تعزيز قراءته وتلقيه لهذا النص بمحاولة كشف المتنين المضمرين داخله وهما متن الشاعر امير ناصر ومتن الشاعر عمار كشيش، وقرائتهما خارج هذا النص اولا لتبين اسلوبيهما الكتابيين ومحاولة اسقاطه على المتن الحالي، اذ ان من المستحيل ربما ان ينجو القارئ من هذا الشَّرَك ويقرأ النص بحيادية تامة، ينطلق بها من العنوان مرورا بالنص من دون التأشير على تلك المتعالية النصية التي ربما تقلق تلقيه، واعتقد ان هذا الشَّرَك – اذا جاز لي التعبير- يضفي على النص ابعادا اخرى، تجعله منفتحا على تجربة الشاعرين وتاريخهما الكتابي.
     يقسم هذا النص الى قسمين، تحت عنوانين فرعيين الاول هو (غيمة النوارس)، اما الثاني فهو (طرة الغريب)، وفي هذين المتنين؛ نلاحظ ان هناك بنية سردية متحكمة بالنص، بيد انها متشظية زمانياً ومكانياً، ولكنها مع ذلك تحافظ على وتيرة وايقاع خاص من خلال الانتقالات بين الماضي والحاضر، السردي والشعري، بين الواقعي والمتخيل، وقد استعان الكاتبان أيضا بآلية الحوار والتي هيمنت على الكثير من محاور النص، والذي سيخرج القراءة من احاديتها ليسمع صوت الشاعرين بصورة مباشرة  بتباين ايقاع الحوار، وان كانت هذه الالية وبصورة ضمنية، هي لتعميق تداخل المتنين الافتراضيين للنص من خلال اختلاط صوتيهما وتداخلهما في الكثير من الاحيان.
– عمار صوتك ضعيف،
ضع جملة دير مار متي في الـ (google) وأنت تعرف
ألــــــــــو…………
– التقط صورا لسمرقند
– أنا معك
يأتي الصوت مشوشاً…
    ان نص (تاريخ الماء والنساء)  كنص مفتوح عابر للشعرية، مدونة لتاريخ ولادة المدن وخلق الحياة فيها، وهذا ربما ما تقودنا اليه عتبة النص/ العنوان،  الذي يربط الماء مصدر الحياة والنماء، بالنساء اوعية الخلق وسدى الحياة، بتاريخية واحدة هي تاريخ مدينة الشطرة التي تعتبر نموذجا لمدن اخرى ولدت من رحم هذه الموروثات/ الجينات المعتقة بالتاريخ والدين والخرافة بطقوسية صورها هذا النص البديع، إذ يبدو من خلال هذه الجملة الافتتاحية (قالت حسن داهمني الطلق، وتلك الفسحة، وتلك السدرة وهذا الماء)، سيطرة الحس الميثولوجي والديني، حيث إن تلك الدلالات اصبحت هي النسغ الذي يحرك النص، من خلال التماهي مع صورة متخيلة لنشوء تلك المدينة (وقالت: لا جسر لدينا، فالنتجاذب الجرف، وابتسمت، فأبتسم، وقال الا يكفيك شطراً، فسرحت الراحلة على سجيتها، أكلت وشربت والنهر يرمقها ويبتسم)، ولا يخفى التناص مع قصة الراحلة التي هاجر بها الرسول الى المدينة، وبداية تأسيس مدينة الرسول، ((دعوها فإنها مأمورة)).
     نص (تاريخ الماء والنساء) وبالالية التي اجترحها له كاتبيه، أخذ مديات كبيرة في استشعار النسق المضمر والمحرك لنواميس نشوء المدن ومنها مدينتهما (الشطرة) كواقع ويوتيبيا، والوعي بتاريخها ورموزها، ناسها وشوارعها، أزقتها ونهرها، وضعاه بين دفتي هذا الكتاب الذي يحتاج الى الكثير من القراءة والتأمل..

* تاريخ الماء والنساء (نص مفتوح مشترك)- أمير ناصر ، عمار كشيش – دار ميزوبوتاميا- بغداد 2013