من المعلوم أن الأدب والفلسفة والفن وكل مجالات الفكر الإنساني مثلت السبل التي سلكها المفكرون وأرباب الثقافة على مر العصور والتمسوا من وراءها مقاصد وأهداف تجسدت في الأفكار التي أعلنوها في كتبهم ونصوصهم.. وبقدر وضوح الكتاب او النص تلقى الأفكار المطروحة فيه قبولا وتلقيا .. ولا يخلو تاريخ الفكر الإنساني من كتب او نصوص غلبت عليها صفة الغموض والإبهام ، فكانت بمثابة الطلاسم والإلغاز العسيرة الفهم الأمر الذي استدعى في الكثير من الحالات الى وضع شروحات مطولة لتوضيح أفكار هذا الكتاب او ذاك ، وبطبيعة الحال فأن هذه الشروحات أما ان تغفل ويفوتها الكثير من أفكار الكتاب اويصيبها القصور عن الفهم فتزيد عليه بما هو ليس فيه ،وبالتالي تشويه الأفكار التي أراد المؤلف إيصالها الى المتلقي وكل ذلك لم يحصل لو كانت لغة الكتاب واضحة .
ما أريد ان أصل أليه بعد الأسطر المتقدمة اننا نلاحظ يوميا الكثير من الكتابات الأدبية تحمل نصوصا غير واضحة المعنى وان وضوح لغة أي نص يؤمن وصول الفكرة الى المتلقي بسهولة بالإضافة الى ضمان أمانة نقل تلك الأفكار من دون زيادة او نقصان يسببها التأويل الناتج عن عدم فهم النص .
ان المقصود بالوضوح هو الأسلوب الذي يضمن سهولة وصول الفكرة دون ان يؤثر ذلك على النص الأدبي كنص أدبي ويخرج به من لغة الكتابة الادبية الى لغة الكلام اليومي المتداول ، فمما هو معلوم ان صياغة النص الأدبي بشكل معين هي التي تكوَن مقومات الإبداع الأدبي في النص ، وفي مقدمة تلك المقومات حالة التفاعل التي يثيرها النص في ذهن القارئ .. فلكي تتحقق حالة التفاعل هذه بالصورة المطلوبة على الكاتب ان يتيح للقارئ فرصة المساهمة في تكوين الفكرة واكتشاف المعاني والصورة المختفية وراء النص .
ان هذه الحالة تشد القاري نحو النص وتجعله يعيش لحظات متعه ذهنية وشعور بدور فكري مستقل .
فالمطلوب في النص ان لا يتحول الى رموز والغاز صعبة المنال ولا ان يهبط الى مستوى الكلام اليومي المتداول بسبب التوضيح الزائد عن الحاجة .
والملاحظ في بعض الكتابات طغيان الرمزية وبشكل أوصل نصوص هذه الكتابات الى مستوى من الغموض الى الحد الذي يصعب معه ان تجد تأويلا لمعنى النص المكتوب بسبب صفة الغموض الطاغية عليه ، فإزاء نص واحد قد لا تجد اثنان يعطونك نفس التأويل ، هذا عند الوسط الثقافي فكيف بعامة القراء الذين يمرون على تلك النصوص فيتركونها لأول وهلة لأنها من الغموض والإبهام ما لا يطيقون معه عناء التفسير والتفكير .
فما هي الضرورة التي تلجأ البعض الى هذا الغموض ؟
ان الوضوح لابد ان يكون صفة ملازمة للنص الأدبي لأنه وعاء الفكرة المكتوبة للقارئ والتي يريد الكاتب إيصالها اليه من خلال النص وبطبيعة الحال هناك غرض وراء فكرة النص ولتحقيق هذا الغرض على الكاتب البحث عن المفردات القادرة على تكوين الصورة الواضحة لدى المتلقي مع احتفاظ النص بخصائصه المعروفة كنص أدبي.
وقد يجد أصحاب هذا النوع من الكتابات تبريرا بأنه خروج على الأنماط القديمة والانفتاح على فضاءات واسعة وإتاحة الفرصة لمخيلة الكاتب في أيجاد أشكال من الصياغة الأدبية تتناسب مع التطور الذي وصلت أليه الحركة الثقافية بشكل عام . ومع صحة هذا التبرير ألا انه لايعني ان نتوجه الى القارئ بمفردات غير متناسقة ونصوص غامضة وعبارات مبتورة عاجزة عن تكوين الصورة الذهنية لدى المتلقي .
وبين أيدينا ما خلفه الرواد الأوائل من ارث في حركة التجديد الأدبي ولننظر الى نصوص ومفردات أولئك الرواد رغم خروجها على الأنماط القديمة فماذا نجد ؟
لايختلف اثنان على ان ذلك الإرث قد أثرى وأغنى مجالسنا الثقافية وأتحف مكتباتنا بأنفس الدواوين وروائع الأدب .
لقد فتحت الأساليب التي نلحظها يوميا على صفحات الصحف لكل من هب ودب ان يدلو بدلوه ويطلع علينا بكتابات لا طائل من وراءها ألا الملل والضجر .
ان المسؤولية الثقافية الملقاة على ارباب النشر ، ورواد الكلمة ومن يعنيه الشأن الثقافي ان يتصدوا لكل ماهو ركيك لايرقى الى المستوى المعهود من النتاج الثقافي الذي عرفناه في ساحة الثقافة والأدب .