9 أبريل، 2024 2:22 ص
Search
Close this search box.

النصوص الدينية وروحها المتجددة

Facebook
Twitter
LinkedIn

من اهم ميزات الروايات التي وردتنا عن المعصومين (ع) انها لا تنتهي الى فهم واحد متسالم عليه لدى الجميع وفي كل الاوقات، وهذه الميزة اعطت لهذا الدين وهذا المذهب خصوصا، التجدد والتفاعل مع محيطه مما جعله يسهم بالدرجة الرئيسة في تكامل البشرية. نعم يمكن القول وجود التسالم في بعض الروايات الفقهية على انها تشير الى احد الاحكام الخمسة، وانها لا تخرج عن هذا الاطار، ومع وجود هذا التسالم الا ان توجيهها يختلف من زمن لاخر، او من عالم لاخر. وهناك روايات تشير الى القضايا العقدية وما يجب على الانسان ان يبني منظومته العقدية وفقها، وان تسالمت في مداليلها الا ان هناك اختلافا بينا في مدى تأثيرها على الانسان، وتفاعله معها، فهذا الصنف من الروايات يتأثر شدة وضعفا بالمؤثرات الخارجية، لذا تجد انبعاث شبهات وتوجهات بين الحين والاخر، وهناك من يؤمن بها ويأخذ بها كمنهج، وبعد مدة تندثر وينقرض معتنقوها.

وهناك صنف اخر من الروايات الواردة تتحدث عن احداث مستقبلية مرتبطة ارتباطا وثيقا ببعض العقائد، وان كان عدم معرفتها بشكل دقيق لا يؤثر على المنظومة العقدية بالشكل العام، فبعض الروايات التي وردت عن بعض الاحداث التي ترافق ظهور الامام المهدي (ع) مثل بعض الاحداث التي تقع في بلدان عربية ، فانها كاشفة عن ضرورة التهئ النفسي في كل وقت لانها (الاحداث) معظمها متشابه، وان يكون الانسان واع لما يدور حوله، لكن ليس بالضرورة ان تعطى من الاهتمام اكثر مما تستحق، فهي ليست علة لايجاد الظهور، لذا فقد ورد عن المعصومين (ع) التركيز على القضية الاساسية وهي ان الظهور من الميعاد والله لا يخلف الميعاد، وما عداه فإن احتمال وقوع البداء فيه قائم، وهذا لا يعني ان بعض العلامات لا تتحقق، بل انهم ارادوا الاشارة احتمالية الاختلاف في فهمها، وقد يوجد الكثير ممن لا يتمكن من تشخيصها بشكل دقيق، وهذا يعني رفض الامام المهدي (ع) عند ظهوره لانهم كانوا معلقين امالهم على بعض العلامات. وفي المقابل قد يوجد عدد معتد به يتصورون بعض الاحداث او بعض الاشخاص انهم علامات معينة، وبعد اتضاح عدم صدق ما فهموه، فان اثارا سلبية ستصيبهم، اوضحها القنوط واليأس.

هناك روايات كثيرة ناقشها العلماء السابقون ، واعطوها فهما ما، طبعا يتلائم مع زمنهم والمستوى الذهني الذي وصل اليه مجتمعاتهم، والذي يؤسف له ان هناك فئة كبيرة بقيت متمسكة بذاك الفهم، في حين انها من سنخ الروايات التي يتجدد فهمها مع تطور الفكر والاحداث، التي في كثير من الاحيان تقرب البعيد، فمثلا ، كان المجتمع يستبعد الرواية التي تشير الى ان بعض رجال الدين سيقولون للمهدي (ع) ارجع يابن فاطمة لا حاجة لنا بك الدين بخير، وان العقل يرفض قبولها، لكن بعد مجموعة من الاحداث واهمها رفض القانون الجعفري والذي يعني تطبيق الاحكام الشرعية في المجتمع من قبل ما يطلق عليهم مراجع وحماة الدين، بات من السهل تصور وقوع تلك الرواية وانها ليس من المحالات، وعلى الرغم من كل ما يحمل القانون الحالي من مشاكل وما جره من ويلات على المجتمع الا انهم يقولون انهم بخير.. وهذا يشير الى توجه خطير في المجتمع ومشكلة حقيقية وهي، ابتعاد القيادات الدينية عن المنهج الصحيح الذي اسسه اهل البيت (ع) ، فهم لا يرون الا مصالحهم، وبأي طريق كان.

ومن الواضح ان هناك فئة كبيرة من الروايات تشير الى مشكلة وخلل في المجتمع سواء كان في القيادات الدينية المتقمصة او في الثقافة التي نشروها في المجتمع ورسخوها فيه. فان الرواية السالفة الذكر هي مدخل الى مشكلة في المجتمع، وان لم تكن مشخصة من الكثيرين، لكن هناك اسباب كثيرة ادت الى هذا الحال. والمفهوم الواعي هو فهمم هذه الروايات بشكل ملازم لما يدور في المجتمع من اثارها، ولا يقتصر فهمها على ان يكون هناك تطابق في الالفاظ، وان كان ممكنا.

ومن الروايات التي يصعب فهمها على الكثير، هي انه ورد ان الامام المهدي (ع) يقضي بقضايا ينكرها بعض اصحابه ممن قد ضرب قدامه بالسيف، فيقدمهم فيضرب اعناقهم.

قد يقول بعض من سيقرأ هذه الاسطر ان هذا الموضوع بعيد جدا عن واقعنا وليس هناك ضرورة تحتم التكلم فيه! الا انني اعتقد ان هناك مواضيعا كثيرة يعدها بعضهم ترفا فكريا، او انه يسقطها تحت عنوان ضعف السند وما شابه، لكن الحقيقة هناك روايات كثيرة ضعيفة السند الا انها تشير الى معن وجداني وله مصاديق على ارض الواقع ويوجد ما يدعمها، ولا تخلو مناقشتها من فوائد جمة لا بد من الالتفات اليها.

وقد ناقش الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) هذه الرواية ومثيلاتها في كتاب تاريخ ما بعد الظهور بشكل تفصيلي، وقد اشار هناك الى فوائد حقيقية يجد بالاخوة المتعطشين للمعرفة ان لا يفوتوا فرصة الاطلاع عليها، وساذكر جانبا مهما مما ذكره:

(اننا لو نظرنا الى الشخص المتدين الملتزم ، نرى موقفه من تمحيص عصر ما قبل الظهور واضحا الى حد كبير، من حيث فهمه التام بأن كل الاوضاع العالمية سياسية واجتماعية واقتصادية، قائمة على الظلم والانحراف، واتخاذ موقف الاحتجاج والسلبية تجاه هذه الظروف، امر واضح عقائديا لا غبار عليه. اذن فمن اللازم على هذا المتدين ان يصمد تجاه التيار وان ينجح في الامتحان الالهي.

ولكن هذا الفرد المتدين الملتزم، حين يواجه دولة الحق، وهو خالي الذهن عن احتمالات تصرفات الامام المهدي (ع) واقواله.. وهو ايضا قد يكون فج التفكير من ناحية امكان حمل التصرفات الملفتة للنظر والتساؤل على وجه صحيح، وليس في تصرفات الامام المهدي (ع) ما يخالف ذلك.

وهو ايضا يحمل عن دولة الحق وعن تصرفات رئيسها، مسبقات ذهنية معينة، نتيجة لثقافته الاسلامية التي تلقاها قبل الظهور. اذن، فمن الطبيعي ان يكون له توقعات عن سيرة الامام وقضائه، وخاصة وهو لم يفهم وضوح معنى الحديث القائل: ان المهدي (ع) يأتي بكتاب جديد وقضاء جديد وامر جديد.

فمثلا: يجد هذا الفرد المتدين انه من الواضح جدا في الاسلام ان يحكم القاضي طبقا لقانون البينة واليمين. فسوف يمنى بالصدمة العقائدية الشديدة، حين يرى امامه وقائده يخالف ـــ باعتقاده ـــ واضحات الشريعة الاسلامية.

وحيث لا يعرف هذا الفرد وجوه التصحيح، فسوف يحتج انتصارا لاعتقاده، بل قد يؤول موقفه الى الشك بصدق المهدي (ع) ، اذ لو كان المهدي المنتظر لكان مطبقا للشريعة، في حدود ضرورياتها الواضحة، على الاقل..

انه من المحتمل ان يكون مثل هذا الفرد ، اعتقد بصدق المهدي (ع) مدة من الزمن، وقاتل بين يديه وتحت قيادته قتال الابطال، وشارك بشرف فتح العالم بالعدل. غير انه يجد الان ـــ بعد سماعه قضاء المهدي (ع) ــ انه كان متوهما، وان افعاله راحت هدر، وانه لم يكن في حسبانه ان هذا الامام سيترك العمل بواضحات الشريعة..

وهكذا يبوء هذا الفرد بالفشل في هذا الامتحان الجديد، فيصبح منحرفا كان يجب عليه التسليم لامامه في كل ما يفعل، لان واضحات الشريعة انما تؤخذ منه لا انها تفرض عليه. فإستنكار ذلك يعد انحرافا، ولا بقاء للمنحرف في دولة العدل، ومن هنا يأمر المهدي (ع) بقتل كل من يحتج على قضائه. وبذلك يذهب جماعة ممن ضرب قدام المهدي (ع) بالسيف). ص 542

هناك اكثر من فائد تترتب على شرح السيد الشهيد (قدس سره) :

الاولى: انطلق السيد (قدس سره) الى تشخيص الفشل في المتدين الذي شارك بفتح العالم، من النظرة الواعية للامام (ع) وكيف يجب ان تكون طاعته بغض النظر عن كل المعطيات الاخرى من ترسيخ ثقافة اسلامية سابقة، وهذا هو الذي يجب يكون عليه المؤمن الحقيقي، وهذه النظرة قل ما يلتفت اليها، فان الامام (ع) هو الحاكم على التشريعات وليس العكس. وتوجد امثلة في التاريخ على ان الائمة الاطهار استخدموا هذه الطريقة، كإمتثال علي بن يقطين لامر الامام الكاظم (ع) عندما امره ان يتوضأ على الطريقة المخالفة لاهل البيت (ع)، ولم يفكر او يدور في باله ان هذا الفعل مخالف للتشريعات التي يؤمن بها او موافقة. ومن اللطيف ان السيد الشهيد الثاني (قدس سره) سؤل في يوم ما، هل ان الامام المهدي (ع) عند ظهوره سيصلي كصلاتنا ام لا؟ فأجاب السيد: يصلي حسب ما يفهمها هو لا على ما نفهما نحن. على الرغم من عدم وجود شيء واضح وثابت كالصلاة، الا انه اراد ان يشير الى هذا المعنى المهم، وهو ان لا نجعل لفهمنا لكل التشريعات مهما كانت واضحة وثابتة شيء في مقابل الامام (ع). وهذا يثبت ايضا بدرجة من الدرجات لنائب المعصوم (ع) في حال غيبته، طبعا نعني بالنائب الذي قامت الحجة على نيابته وهذا لايثبت لمن ادعى النيابة. وقد قاد التراخي الذي تركز عند المجتمع بسبب عدم فهم كثير من القيادات الدينية التي تصدت لهذا المنصب، الى الابتعاد عن الفهم الحقيقي لطاعة النائب، تحت ذرائع شتى. كما وصل الحال ببعض من يعتقد انه حائز على درجة معينة في العلوم الدينية الى ان يضع رأيه في مقابل رأي النائب الذي يعتقد انه حجة عليه، وبذلك فان كثير من اوامر النائب الحق للمعصوم (ع) تذهب ادراج الرياح لانه يعتقد في كثير من الاحايين انها ليست صائبة، والنتيجة فان كثير من غايات النائب لا تتحقق على ارض الواقع مما يسهم وبشكل واضح تعطيل اقامة دولة العدل بقيادة الامام المهدي (ع). وقد رأينا كثير ممن يحاول دوما ان يميع أي رؤيا او امر يريده النائب ان يطبق على ارض الواقع بدواعي فهمه للاحكام الشرعية، والحقيقة انه تستر خلف هذه الحجج التي يبدو بظاهرها صحيحة، لذا اذكر كلمة غاية في الروعة للملا صدرا حيث يقول : (ان العلوم الدينية في كثير من الاحيان تكون حاجبة عن الوصول الى الحقيقة)، وطبعا هو يعني ان تستخدم هذه العلوم بهذه الطريقة.

الثانية: من الضروري ان يركز على تهيأة الاذهان لقبول الافكار الجديدة وان كانت مختلفة تماما عن المرتكزات السابقة، وقد اشار سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) الى هذا المعنى في كتاب دور الائمة (ع)، حيث اشار الى ان واحد من اهم ادوار الائمة هو التمهيد لقبول الافكار الجديدة. وما يفشل في التمحيص الذي يشمل اصحاب الامام (ع) الا لعدم الدراسة الواعية لادوار المعصومين (ع) وما يشير اليه القادة الربانيون.

الثالثة: وجود هذه الرواية وان كانت ضعيفة ولا تصلح للاثبات التاريخي، الا انها تسهم في ترسيخ قاعدة اسلامية عامة وهي عدم الرضا عن النفس مهما كان موقع الانسان. ولا يوجد ارقى من اصحاب الامام المهدي (ع) طبعا بالنسبة لعامة الناس. فوجود هذه الرواية تجعل المؤمن دوما على حذر خوف السقوط في التشكيك في الامام المهدي (ع) والنتيجة الفشل الاكيد.

وعلى المستوى العام فان هذه الرواية تشير الى حل لمشكلة حقيقية، لعل الشهيد الصدر (قدس سره) لم يذكرها، لانه ركز على التكليف الفردي للمؤمن. من المؤكد ان الفترة التي تسبق ظهور الامام المهدي (ع) سينتشر الظلم والفساد، وبطبيعة الحال هناك سلبيات كثيرة ترافقه، اوضحها وهي محل الشاهد، ان المقربين من الحكام وقتها سيعيثون في الارض فسادا، ولا يمكن لاحد ان يحاسبهم او ان يعترض على تصرفاتهم، والنتيجة توجد مشكلة حقيقية في المجتمع اسمها الحواشي والمقربين، وسيذوق المجتمع منهم الامرين. فواحد من اساليب علاج هذه السلبية والقضاء عليها، هو ما ورد في هذه الرواية، أي ان الامام (ع) يقوم بمعاقبة من يسيء مهما كانت درجة قربه من الامام، ومن ثم ينطلق الامام (ع) الى اصلاح الوضع العام بعد ان يرى المجتمع بأم عينيه ما قام به الامام (ع). لذا فقد ورد في بعض الروايات انه شديد مع عماله (ع).

واذا سرنا على منهجية اهل البيت (ع) بتوقع الظهور المبارك في كل لحظة، لكانت هذه الطريقة خير علاج لما نعيشه اليوم، سواء على المستوى السياسي او الديني او الاجتماعي. فالكل يرى بعينه ما يفعل المقربون او المنتسبون لمراجع ما او حاكم سياسي ما. فإذا ظهر الامام (ع) وحال القادة هذه لما استغربنا هذه الرواية، لانها ستكون من ضمن سلسلة حلوله (ع).

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب