23 ديسمبر، 2024 1:57 م

النشاط الاقتصادي ليهود العراق

النشاط الاقتصادي ليهود العراق

اليهود، في طبيعتهم، يتميزون عن غيرهم من ابناء المنطقة التي يعيشون فيها، في عشقهم للمال، والعمل على الاستحواذ عليه بكل وسيلة ممكنة، وصبرهم الطويل وقناعتهم بالقليل، ورابطتهم بالآخرين من ابناء قومهم، والتعاطف فيما بينهم، واهتمامهم بالتجارة العامة للوصول الى اهدافهم وغاياتهم التي تتمركز على رفع المستوى المعيشي لابناء طائفتهم على حساب الآخرين، ولهم في هذا المجال ذكاء مفرط، ونفس طويل، وخطط تصيب الاهداف اصابات مباشرة في الكثير من الاحيان فيما هم قاصدوه، والعمل على انجازه.
منذ اللحظات التي وطأوا فيها ارض العراق، كان همهم الاول والاخير الهيمنة على مقدراته الاقتصادية، والعمل على استغلال ما يقع في ايديهم من خير نافع لسد حاجاتهم والعمل على دق الركائز لمستقبل مجهول يلف البقعة التي وجدوا فيها، فعملوا على تأسيس الخلايا الدؤوبة الحركة للبدء في العمل… فكان اول انخراطهم في امور الدولة عن طريق الصيرفة والحسابات، واضعين خبرتهم امام الولاة والحاكمين الذين تعاقبوا على حكم العراق منذ السبي البابلي وحتى هجرتهم منه.
تعتبر الاقلية اليهودية في العراق من الاقليات المهمة التي لعبت دوراً بارزاً طيلة تاريخ العراق منذ العهد البابلي وحتى هجرتهم منه في العام 1950. اما بعد هذه الفترة فقد تناقصت اعدادهم ولم يبق لهم تأثير كبير.
ان اليهود جاءوا الى العراق عندما سباهم نبو خذ نصر الى بابل. وعلى اثر سيطرة الفرس على بابل سمح لهم كورش بالعودة الى ارض كنعان، وقد فضل الكثير منهم البقاء حتى سيطرة الفرس على بابل، سمح لهم كورش بالعودة الى ارض كنعان، وقد فضل الكثير منهم البقاء حتى اصبح اليهود الذين عاشوا في العراق من بقايا تلك الجماعة.
وعندما جاء الاسلام اعتبرهم اهل ذمة باعتبارهم اصحاب كتاب سماوي، فعاملهم باحترام وحمى اموالهم واعراضهم وممتلكاتهم، واعطاهم الحرية الكاملة في اقامة الشعائر الدينية وممارسة طقوسها.
استمر هذا الحال الى عهد الدولة العثمانية، وعلى اثر حركات الاصلاح التي شهدتها مؤسسات السلطنة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وصدور القوانين الوضعية التي ساوت بين الجميع، تمتع اليهود في ذلك الوقت بنوع من الحرية والاستقلال الاجتماعي والاقتصادي.
وبعد احتلال الانكليز للعراق، ربح اليهود من خلاله اموالاً طائلة نتيجة لسيطرتهم على مقدرات العراق الاقتصادية. وعندما اعلن الحكم الوطني، وشرع الدستور العراقي عام 1925، الذي نص صراحة، في بعض مواده، بالاعتراف باليهود كأقلية من الاقليات، واعتبرهم مواطنين عراقيين لهم ما للعراقيين من حقوق، وعليهم ما عليهم من واجبات. اضافة الى ذلك خصص لهم بعض المواد التي تنظم شؤون الطائفة. وقد شارك اليهود على اثر ذلك في كافة النشاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لقد تناول الكثير من الباحثين العراقيين، حياة الاقلية اليهودية واوضاعها التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية في العراق من خلال الرسائل الجامعية، الا انهم لم يتناولوا الجانب الاقتصادي بشيء من التفصيل مثلما تناول الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، الذي اعتمد على مجموعة كبيرة من الوثائق الرسمية المنشورة وغير المنشورة التي غطت نشاطات اليهود الاقتصادية والمالية والتجارية… حيث كشفت هذه الوثائق الكثير من الجوانب الغامضة عن النشاط الاقتصادي ليهود العراق ومحاولات العديد منهم تهريب الاموال والعملات الى اسرائيل.
احتوى الكتاب على تمهيد وخمسة فصول وخاتمة. تناول المؤلف فيها وضع الاقلية اليهودية في العراق منذ الأسر البابلي، ثم اعدادهم وتوزيعهم الجغرافي في المدن العراقية. بعدها انصب جهد المؤلف الى تقديم تفصيلاً دقيقاً عن نشاطهم التجاري واهتمامهم بهذا الجانب، واثرهم في السوق التجارية والغرف التجارية في العراق، حيث سلط المؤلف الضوء على الشركات والوكالات اليهودية العاملة في العراق وبخاصة تلك التي اهتمت بالاستيراد في مجال قطاع السيارات والمواد الغذائية والاقمشة والكيميائيات والصيدليات والطباعة والصحافة والنشر ودور اللهو والسينما والمشروبات الروحية، الى جانب مواد البناء والانشاء والمواد المنزلية والشخصية. ثم بحث المؤلف بالتفصيل عن النشاط الصيرفي ليهود العراق، حيث تناول اهم الصيارفة والمصارف اليهودية، واثر النشاط الصيرفي هذا من السوق والانظمة المعمول بها في تلك المرحلة. وتناول المؤلف كذلك النشاط الاستثماري ليهود العراق للاراضي الزراعية والعقارات وطرقهم واساليبهم في السيطرة، وتطرق الى ملكياتهم للاراضي الزراعية في المدن العراقية، واثر ملكية اليهود هذه في الاقتصاد العراقي.
طرح المؤلف في بداية كتابه تساؤلاً تمحور حول الاسباب التي جعلت اليهود يتخصصون بالعمل التجاري الى درجة كبيرة بحيث يخيل للمرء ان اليهود هم فقط من مارس هذا الجانب من الحياة واحتكروه.
ويجيب وفق استنتاجاته: في الواقع ان التاريخ الاقتصادي لليهود ارتبط بشكل عام بمهن معينة، مثل التجارة والربا والزراعة. ولقد سبقت اسباب عديدة لتفسير امتهان اليهود التجارة وابتعادهم عن الزراعة، لعل اهمها: ان اليهود كانوا مضطرين لبيع اراضيهم الزراعية، لأنه كان محرماً عليهم استئجار ارقاء من غير اليهود لزراعة الارض، وفي الوقت نفسه حرمت عليهم الشريعة اليهودية استئجار ارقاء يهود، الامر الذي جعل الملكية الزراعية امراً غير مثمر بالنسبة لليهود.
كما ان تحريم العمل يوم السبت على اليهودي، وتحريمه يوم الاحد على المسيحيين، جعل من المستحيل التعاون بينهما، لان هذا يعني اجازة اسبوعية لمدة يومين، وهو ما يجعل النشاط الزراعي غير مربح. كذلك هناك تحريمات دينية وتعاليم بخصوص الربا، القى بها اليهود عرض الحائط، واصدر ما فاتهم فتاوى لتبرير الموقف واضفاء الشرعية على هذا الامر.
ويشير التاريخ الى ان اليهود قد مارسوا التجارة في منطقتنا العربية بين مصر وفلسطين، ثم عمق الاسر البابلي من اتجاه اليهود للاشتغال بالتجارة، اذ اشتغل كثيراً منهم بهذه المهنة وتحولوا الى اقلية اقتصادية بحيث بقيت اعداد كبيرة منهم في بابل حينما سمع لهم الفرس بالعودة الى فلسطين بعد ان احتلوا بابل.
يعد اشتغال اليهود بالتجارة، سبباً في استمرارهم، وفي احتفاظهم بنوع من الاستقلال العنصري والعرقي، لانهم كانوا يقومون بوظيفة محددة ولا سيما في المجتمع الاقطاعي الاوروبي، لانه مجتمع كان يقوم على التفريق بين الطبقات. كما كان مجتمعاً تصطبغ فيه العلاقات الانتاجية بصبغة دينية. ولذلك احتفظوا باستقلالهم وقوانينهم، وهو ما حولهم الى مجتمع شبه قومي في استغلاله الاقتصادي، وان كان استقلاله يعود لا لتميزه القومي وانما لتميزه الطبقي.
وتشير الدراسات التاريخية، ان اليهود اشتهروا بنشاطهم التجاري الواسع، وكانوا يسافرون براً وبحراً من الشرق الى الغرب… وعليه اصبحت كلمة تاجر مرادفة لكلمة يهودي حتى ان كثير من الدول التي كانت تريد انعاش حركة التجارة فيها كانت ترسل في طلب بعض اليهود، حتى يقوموا بدور الوسيط وينشطوا الحركة التجارية التي يعجز المجتمع الزراعي التي يعجز المجتمع الزراعي بتنظيمه التقليدي ان يقوم بها، وكان الملوك في العصور الوسطى في اوروبا يحاولون الحفاظ على اليهود كجزء من اهتمامهم بالتجارة والحركة التجارية.
ومن دراسة نشاط اليهود التجاري عامة، يتبين ان اشتغال اليهود بالتجارة ترك اثاراً عميقة عليهم، لعل من اهمها: ارتباطهم وولائهم اتجه اولاً الى رأسمالهم، ونتج عن هذا ان اليهود كان من السهل عليهم من الناحية الاقتصادية، الهجرة من بلد الى آخر حيث كان هناك ربح ومنفعة اقتصادية وبذا تحولوا الى اقليات مهاجرة، وقد نتج عن هذا التطور، ان علاقتهم بالآخرين اصبحت علاقة يحكمها قانون ولوائح ولم تعد علاقة انسانية مباشرة. فضلاً عن مهنة التجارة، ارتبطت صورة اليهودي بشخصية المرابي بسبب ارتباط اليهود بمهنة الاقراض بالربا.
لقد اجرى المؤلف مقارنة بين وضع اليهود في اقطار الوطن العربي مع اليهود في اوروبا، فوجد اختلافاً كبيراً، ذلك، ان اليهود في الاقطار العربية لعبوا دوراً واضحاً ومميزاً في مجالات الحياة السياسية والادارية والاقتصادية، وعاشوا عبر التاريخ العربي والاسلامي- مع حالات استثنائية قليلة- في ظل سياسة مرنة اتبعها اتجاههم اكثر الخلفاء، متمتعين بذلك بحياة نشطة لا تختلف عن بقية الطوائف الاخرى في ظل الحرية التي كفلها لهم الدين الاسلامي بوصفهم اهل ذمة، فكان من اليهود: الصيرفي، البزاز، التاجر، الطبيب، المترجم، العطار، الصائغ… فضلاً عن خدمتهم في دواوين الدولة.
برز اهتمام يهود العراق بالتجارة بعد استقرار الاوضاع السياسية في القرن التاسع عشر، وخاصة بعد ان تولى مدحت باشا ولاية العراق عام 1869، واتساع دور البصرة كميناء تجاري مهم بعد افتتاح قناة السويس وتغيير طرق المواصلات التجارية، فلم يعد دورهم مقتصراً على السوق العراقية بل تعدى ذلك الى بلدان الشرق الاقصى من اجل التجارة التي بدأت تدر عليهم ارباحاً وفيرة فاصبح العديد منهم اصحاب ثروات طائلة. كما اتسع نشاطهم الاقتصادي بعد نزول القوات البريطانية في العراق وحاجة الآلة الحربية البريطانية لخدماتهم وخاصة كموردين للاطعمة ومشترين للمعدات والالات العسكرية المصنفة خارج الخدمة.
كما ان استقرار الاوضاع السياسية والاقتصادية في العراق بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921، وسياسة التسامح الديني التي اتبعتها الدولة العراقية وقتئذ، وحرية العمل، جعلت يهود العراق يأخذون دورهم الكامل في ممارسة نشاطهم التجاري دون ادنى صعوبة تذكر. فقد ساعد هذا الوضع على زيادة خبراتهم وعلاقاتهم التجارية في مجال الاستيراد والتصدير مع الشركات والدول الاجنبية.
وكان التجار اليهود في بغداد هم الممولين الرئيسيين للتجار في المحافظات العراقية، سواء كانوا من اليهود او المسلمين، وكذلك حالة التجار الصغار في بغداد، اذ كان مصدر تمويلهم كبار التجار اليهود والوكلاء الذين كانوا يقدمون لهم الدعم والاسناد والقروض والبيع بالآجل، وبالتصريف لتمشية امورهم، لكي يستطيعوا ان يقفوا على اقدامهم وتكون لهم اسماء تجارية في الاسواق العراقية.
ويعود الفضل في سيطرة يهود العراق على الاسواق التجارية العراقية، الى الخبرة التي اكتسبوها في علاقاتهم التجارية وامساكهم بالحلقات الاساسية للتجارة العراقية من خلال العمل الجدي وهدر القليل وتوفير الكثير ومعرفتهم بكيفية تسيير الامور، مكنهم من العمل ممثلين ووكلاء للشركات التجارية الاجنبية، وصعودهم التجاري، والارتقاء فوق التجار المحليين من غير اليهود، فضلا عن دعم وتشجيع بني دينهم في الهند واوروبا في اسنادهم واقراضهم بالمال عند حاجتهم له وتبادل المعلومات والخبرات معهم في ميدان التجارة والمال والاعمال الاخرى حتى اصبحوا مستوردين للبضائع من الهند وبريطانيا مباشرة دون وساطة التجار الانكليز.
ان سيطرة يهود العراق على التجارة ادى الى ظهور اسر تجارية اصبحت لها اسماء مرمومة ومكانة رفيعة في عالم التجارة في العراق، مثل بيت شعشوع الذي تعامل بالاستيراد وتصدير التمور، واشتهرت هذه العائلة بقصرها الكبير المسمى قصر شعشوع على اطراف الاعظمية الذي اتخذه الملك فيصل الاول منزل له. وبيت دانيال وعميدهم مناحيم دانيال الذي اتخذ الملك فيصل الاول من بيتهم الكبير في منطقة السنك، سكناً له بعد غرق قصر شعشوع، ولعل سوق دانيال الشاخص حتى الان من اشهر اسواق البزازين في بغداد. وبيت ساسون الذي كانت وما زالت لهم شهرة واسعة، وكان منهم ساسون حسقيل اول وزير مالية في اول حكومة عراقية، وهو الذي انقذ العراق من ديون الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى بشراء سندات الدين. ولم يكن بيت عدس اقل شأناً منهم وكان منهم ابراهيم عدس في بغداد وشقيقة شفيق عدس من كبار تجار البصرة المنتقدين ووكيلاً لعدة شركات بريطانية وامريكية، والذي اتهم بالتجسس لصالح اسرائيل واعدم في 23/ ايلول/ 1948. كما عرفت المدن العراقية الكثير من التجار اليهود، مثل بيت لاوي وفرنك عيني وبيت مشعل وبيت طويق وبيت خضوري وابراهيم شكر وبيت كرجي عبود وبيت كباي في عقرة، وغيرهم…..
لقد ادرك اليهود ان الاقتصاد هو عصب الحياة، وان سيطرتهم على هذا الجانب يعني سيطرتهم على شريان مهم في هيكل اقتصاد اي بلد. وفي العراق اهتموا بهذا الجانب دون غيره. وعلى الرغم من هيمنتهم على تجارة العراق وثرائهم الفاحش، الا انهم لم يخدموا الاقتصاد العراقي، حيث انهم لم يسهموا في انشاء قاعدة صناعية في العراق بينما نرى اغلبهم ساهم في تمويل النشاط الصهيوني المعادي للعراق وللعرب.
لقد ضحى يهود العراق بما وصلوا اليه من حياة كريمة عاشوها في العراق، فليس غريباً ان يواجهوا صعاباً جمة عند وصولهم الى فلسطين، وقد اسكنوا في مخيمات سميت (معبرون) واستمروا مدة في ذلك، على عكس حالتهم في العراق، حيث كانوا اغنياء وسادة، وقد عبر احد مهاجريهم عن ذلك قائلاً:
كان هناك وقت لم نكن نعرف بين كوننا يهوداً او عراقيين… ما كان بيننا فلاح ولا ساكب طوب او عامل مصنع، كنا تجاراً واصحاب دكاكين ورجال مصارف وكتبه ومعلمين وحاخاميين واطباء ومحاميين.

* الكتاب
النشاط الاقتصادي ليهود العراق 1917- 1952، تأليف- صباح عبد الرحمن، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2002، 254 صفحة
[email protected]